في نقد التأسيس النهضوي للتراث

تراث عالم

  تقديم

تناقش هذه الدراسة بعضَ المضمرات التأسيسية التي استند إليها فكرُ النهضة في عودته إلى التراث، وتعامله مع قطاعاته المعرفية المتنوِّعة، وتنطلق بالأساس من استشكال الصيغ القرائيَّة التي استعاد بها هذا الفكر مضامينَ التراث، ومساءلة المقاصد التي رام بلوغها من خلال ذلك.

فالسؤال الأساسي الذي لازم فكر النهضة في انشغاله بالتراث وتفاعله مع قضاياه هو سؤالٌ يتعلَّق بالبحث عن «الصيغة المُثْلَى» التي يتعيَّن أن يُستعاد بها هذا التراث حتى يكون قادرًا على تأدية المقاصد المرجوَّة منه في استئناف الفكر وتغيير الواقع. إذ دفعت وضعية الضعف التي آلتْ إليها الحضارة العربية الإسلامية مقارنةً بقوة حضاراتٍ مجاورة، ومظاهر النكوص التي عمَّت مختلف مناحيها المادية والرمزية- روَّادَ النهضة إلى التفكير في الحلول والمخارج الكفيلة بمجاوزة ذلك، والبحث عن الأسباب والشروط المُحفزة على النهوض والتقدُّم.

ولهذا تنصرفُ هذه الدراسة -على وجه التحديد- إلى بحثِ ما يُفترض أنه صيغة مُثْلى للاستعادة على نحو ما وقع الاختلاف بين المواقفِ النهضوية في إقرارها والدفاع عنها، وتحليل الوسائل المنهجيَّة والقرائيَّة المتفاوتة التي اعتمدتها هذه المواقف في تمثُّل التراث، وفهم نصوصه وقضاياه في ضوئها؛ ذلك أن ما ميَّز هذا الفهم في الصيغ الاستعادية التي اندرج فيها أنه كان فهمًا صراعيًّا وأيديولوجيًّا، وأنه لم ينطبق على التراث في حدود سياقه الزمني الخاص؛ أي في حدود تحقُّقه في تجربة تاريخية وحضارية معيَّنة لها اقتضاءاتها واستلزاماتها الخاصَّة، وإنما انطبق عليه موجَّهًا بمتطلبات تجربة الحاضر، ومنساقًا وراء ضغوطها وإكراهاتها.

 وقد أتاح لنا هذا التحليل بيان الآثار المترتِّبة على ذلك الخلط بين السياقِ الزمني للتجربة التراثية والسياقِ الزمني لتجربة الحاضر، كما مكَّننا من كشف مكامنِ العنف والصراع المستحكمة في علاقة المواقف المذكورة بعضها ببعض، نتيجةَ الزجّ بالتراث في خضمِّ واقعٍ صراعيٍّ مستجَد، والتذرع به للتعبير عن أغراضٍ وحاجاتٍ أيديولوجية راهنة. وهو الوضع الذي استحال معه التراث إلى ملكيَّة أيديولوجيَّة تتصارع عليها المواقف والتوجُّهات، إمَّا من أجل الظَّفَر بها وبَسْط الهيمنة عليها، لكونها تمثِّل في اعتقاد البعض الموردَ الذي لا ينضب من «الحلول» و«الوصفات العلاجية» لمآزق الفكر ومعاطب الواقع، وإمَّا من أجل تصفية الحساب معها واطراحها عند البعض الآخر بدعوى تراجع قيمتها، وتحجُّرها في شكل عائقٍ يحولُ دون الانخراط في العصر والاندراج في تحولاته.

ولهذا تعمد هذه الدراسة -وهي تتعقَّب طائفةً من المواقف النهضويَّة المستعيدة للتراث- إلى تحليل عينةٍ من مضمراتها التأسيسية التي أمسى التراث بها موضوعًا خاضعًا في تمثلاتها لأقصى مراتبِ التنميط الأيديولوجي والانتقائية الاستعمالية؛ إذ لم يتحدَّد التراث في هذه التمثلات بما هو تجربة فكرية وإنسانية حدثت في الماضي، وبما هو الأُفق الزمني الذي تشكَّلت فيه بدايات الفكر وجذوره الأولى التي ما فتئت تمضي وما انفكَّت تعود وتتواتر؛ بل أضحى في تلك التمثلات عبارةً عن ملكيَّة صراعيَّة يتنازع عليها المتنازعون، ويتخاصمون على مَنْ تؤول إليه مشروعية تملُّكها، وأحقيَّة الاستيلاء على مقاليد تدبيرها واستعمالها.

ومن هذا المنطلق رأينا تنظيم هذه الدراسة في جزأين: تناولنا في جزئها الأول الصراع الذي احتدم بين التقليديين والحداثيين حول مضامين التراث، ووقفنا عند السُّبل القرائيَّة التي انتهجوها في استعادتها، وإعادة تشكيلها في ضوء مسلَّمات كل قراءة ومراميها الأيديولوجية.

أما الجزء الثاني منها، فاتجهنا فيه إلى تحليل جملة من مضمرات التأسيس النهضوي للتراث على نحو ما استترت في خطاب التقليديين والحداثيين على حدٍّ سواء. وقد أفردنا لآلية "المقايسة" بين الماضي والحاضر -بوصفها آليةً تأسيسيةً مضمرةً في كل قراءةٍ للتراث- وقفةً تحليليةً أتاحت لنا الحديث في القراءات التقليدية عن "مقايسة فيلولوجية" تقضي بردِّ الحاضر إلى الماضي بوصفه أصلًا تاريخيًّا مجردًا، واختزاله فيه بنحوٍ مطابقٍ يلغي كلَّ مسافة زمنيَّة فاصلة بينهما، والحديث عن "مقايسة نظرية" في القراءات الحداثية تميل إلى بناء تماثلاتٍ غير مسوَّغة بين مجموعة من الأنظار والمعارف الحديثة، وبين ما يبدو أنه قريبٌ منها أو يُشبهها من أنظار ومعارف تراثيَّة.

أضحى العقل ذاته يُنظَر إليه على أنه مفهوم تاريخيٌّ يتجذَّر في التراث ولا ينفصل عنه؛ لأنه مفهومٌ يلتبس بحدود الوجود التاريخي الذي يتحقَّق فيه.

ويجدر التنبيه في البداية إلى أن بعضًا من عناصر التحليل في هذه الدراسة قد استوحيناه من جملة من الأنظار التي صار يُتمثل بها التراث في الوعي التأويلي (الهيرمينوطيقي) المعاصر، فقد حدثت مراجعاتٌ عديدةٌ في هذا الوعي أعادت إلى التراث اعتباره وفاعليته اللذيْن افتقدهما مع فكر الحداثة. وبموجب هذا لم يعُد يُنظَر إلى التراث على أنه طائفةٌ من المسبقات[2] (préjugés) التي يؤدي استدعاؤها عند مزاولة فهمٍ من الفهوم أو نوعٍ من أنواع التفكير النسقي إلى إعاقة مجرياتهما والتشويش على صفائهما ونسقيتهما، وذلك إلى الحدِّ الذي استوجب من مُفكري الحداثة تنحية هذه المسبقات، وإقامة تعارضٍ بين مفهومِ العقل ومفهومِ التراث. فهذا التعارض وُضع موضعَ سؤال، وقُوِّضت مرتكزاته الميتافيزيقية، وأضحى العقل ذاته يُنظَر إليه على أنه مفهوم تاريخيٌّ يتجذَّر في التراث ولا ينفصل عنه؛ لأنه مفهومٌ يلتبس بحدود الوجود التاريخي الذي يتحقَّق فيه، و"يحيل على ما تصوره تراثًا ما (في زمنٍ ما) تصورًا عقلانيًّا، وبذلك فإنَّ تصورنا للعقل يتجذَّر في التراث، ولا معنى لإقامة تعارض بينهما"[3].

وبهذا الوصل بين العقل وتحقُّقاته في الوجود التاريخي استعادت المسبقات التراثية حيويتَها في الوعي التأويلي المعاصر، وصارت مطلبًا لا يمكن مجاوزتُه أو التخلِّي عنه عند القيام بتأويل نصٍّ من النصوص أو أثرٍ من آثار الماضي أو الحاضر. فهي تمثل لكلِّ أثرٍ قيد التأويل أفقًا مرجعيًّا من الفهوم المسبقة (précompréhensions)، وذاكرةً متواترةً من التقاليد الفهميَّة التي لا تنقطع عن هذا الأثر؛ بل توجد في تواصلٍ وتفاعلٍ معه. ولهذا يؤكِّد بعض كبار المتؤولة في عصرنا أنه إذا كانت هنالك من شروط مُنتجة للتأويل، فإن ما يبرز في مقدمتها هي تلك الفهوم المسبقة النابعة من ارتباطها الوثيق بالأشياء المؤولة ذاتها[4].

كما أنَّ التعامل مع التراث لم يعُد تعاملًا مع موضوعٍ نمطيٍّ متجانسٍ يقبل الخضوع لنوعٍ من التجريد النظري والمنهجي مثلما يجري ذلك في سائر موضوعات العلوم وأشيائها.

لقد بات الانشغالُ بالتراث انشغالًا بنصوصٍ تمتدُّ بينها أواصرُ من الحوار والتفاعل بالغة الحيويَّة والتشابك، أي بنصوصٍ معبِّرة تفكِّر وتتكلَّم، وليس انشغالًا بنصوصٍ معزول بعضها عن بعض، أو ساكنة وفاقدة لأسباب الحياة. ولهذا يجري التعامل مع مختلف النصوص والآثار التراثيَّة على أنها خبراتٌ بشريةٌ متنوِّعة بالمعنى والحقيقة، وأن فهم حدود هذه الخبرات وإنتاجيتها متوقفٌ على وصلها في الآن نفسِه بالسياق الزمني والفكري الذي انبثقت فيه، وبما آلتْ إليه في سياقاتٍ زمنيَّة لاحقة.

بات التراث -إذن- في الوعي التأويلي المعاصر يحيل على التجربة الأولى للفكر، تلك التجربة التي تمدُّنا بالشروط القبليَّة (a priori) لفهم التحولات التي آلَ إليها هذا الفكر، وتجلية الكيفيات التي غدا يحدث بها ويتحقَّق من عصرٍ إلى آخر. وبذلك عُدَّت كلُّ عودة إلى نصوصِه ومتونِه المعرفيَّة المختلفة عودةً لا إلى حقائقَ ثابتةٍ ومعانٍ مسكوكةٍ تعلو على الزمن أو تستقلُّ عنه؛ وإنما هي عودةٌ إلى خبراتٍ بالحقيقة مخصوصة ونوعيَّة بقدر ما تضرب بجذورها في أُفقها التاريخي الخاص وتحتكم إلى شروطه ومقتضياته، وتمتدُّ أيضًا في الآفاق اللاحقة لتقيم بخبراتها المستجدة بالحقيقة روابطَ عميقةً من النَّسَب الفكري والقرابة التاريخية؛ إذ بمقتضى هذه الروابط يتجلَّى الفكر في كل أُفقٍ من تلك الآفاق بما هو صيرورة لا تكفُّ عن تجديد نفسها، ولا تتوقَّف عن الإحالة على جذورها ومحاورة بداياتها.

 التراث وصراع قراءتين

لا تتوخَّى هذه الدراسة الاندراجَ في معترك السجال القرائيّ الذي يدور حول التراث، ويغذي طائفةً من المواقف التي كلما اقترح بعض منها قراءةً ما لقضية من قضاياه افترض أن حقيقة التراث هي ما انتهت إليه هذه القراءة، وأن ما سواها من قراءاتٍ لا تعدو أن تكون "تحريفًا" لتلك الحقيقة أو ابتعادًا عنها. إن أهمَّ ما نتوخَّاه هو التفكير في الأسباب التي جعلت من العلاقة بالتراث في فكرنا النهضوي علاقةً مسكونةً بأسباب العنف والصراع، والبحث عن أشكالٍ أخرى ممكنة من العلاقة به تُعلي من أخلاقيات الاختلاف والتسامح، وتصغي إليه بروحٍ مُنصِفة ومُتفهِّمة.

يمكن الحديثُ في البداية عن نوعَيْن من القراءات النهضويَّة التي تتخذ التراث موضوعًا لاشتغالها واهتمامها: نوع تقليدي يتصور التراث منظومةً من الأفكار والمعاني والمفاهيم والقيم التي اكتملت في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، واستقرَّت في صورة "ثوابت" و"أصول" خالصة تعلو على الزمن، وتقاوم حركته الدائبة نحو التحوُّل والتغيُّر. وعلى أساس هذا يتصور التقليديون أن استعادة التراث والإفادة منه غير ممكنتَيْن إلَّا إذا تحقَّقتا وَفْقَ نهج "إحيائي" يأخذ على عاتقه مهمَّة استرداد تلك الأصول والثوابت بأنحاء غاية في التماهي والتطابق.

لا تكون هنالك من جدوى لاستعادة عيناتٍ جزئيَّة من التراث إلَّا في الحالات القليلة التي تقوم بينها وبين متطلبات الحاضر أوجه من التلاؤم والتقارب.

ونوع حداثي ينظر إلى التراث عكس النظرة السابقة، ويتصوره نتاجًا ينتسب إلى الماضي وينقطع عن الحاضر؛ ومن ثَمَّ لا يمكن الانخراطُ في تجربة هذا الحاضر وتحولاته إلَّا بالانصراف عنه وإحداث "قطيعة" معه، والانفتاح على ما تتيحه هذه التجربة من فرصٍ حيَّة للنهوض، وإمكانات مستجَدة للتقدُّم. وبذلك لا تكون هنالك من جدوى لاستعادة عيناتٍ جزئيَّة من التراث إلَّا في الحالات القليلة التي تقوم بينها وبين متطلبات الحاضر أوجه من التلاؤم والتقارب. ومن ثَمَّ تتبنَّى القراءات الحداثية على العموم أسلوبًا "انتقائيًّا" و"تجزيئيًّا" واضحًا في التعامل مع التراث لا يكون بموجبه للنصوص المستعادة أيُّ طائل ولا أية فاعلية ما لم تأتِ متوافقةً مع العصر، ومتلائمةً مع متطلباته[5].

وفي هذا الخصوص ينبغي القول: إن تصنيفَ القراءات النهضوية للتراث يتباينُ من دارسٍ إلى آخر؛ فالبعض يضيق هذا التصنيف ويختصره في قراءاتٍ تقليدية وأخرى حداثية، وهو التصنيف الذي تعتمده هذه الدراسة لكونه ينطبق على القراءات المبكِّرة للتراث التي أنجزها الرعيلُ الأول من النهضويين. والبعض الآخر يوسِّع ذلك التصنيف ليشمل كلًّا من القراءات التقليدية (السلفية) واليسارية والاستشراقية، وذلك مثلما فعل المرحوم محمد عابد الجابري في كتابه "نحن والتراث".

فكلُّ نوعٍ من هذه القراءات يستند إلى مسلَّمة محدَّدة في التعامل مع التراث؛ إذ تنهض القراءة السلفية على "فهم تراثي للتراث"، وتقوم القراءة الاستشراقية على "قراءة تراث بتراث" من خلال إرجاع التراث العربي الإسلامي إلى أصولٍ تراثية سابقة يهودية ومسيحية وفارسية ويونانية وغيرها. أما القراءة اليسارية فتبحث في التراث عن مظاهر الصراع الطبقي، وتجعل منه مجالًا للصراع بين المادية والمثالية. ومن تحليل هذه القراءات جميعها خلص الأستاذ الجابري إلى أنها "سلفية النزعة"، وأنها تتأسَّس "فعلًا على طريقة واحدة في التفكير"[6].  

كما نجد من يوسِّع ذلك التصنيف أكثر لتدخل تحته قراءاتٌ أخرى تصدر إمَّا عن المنظور البنيوي أو السيميائي أو التفكيكي أو التداولي أو الهيرمينوطيقي. والملاحظ على هذه القراءات المتأخرة أنها غالبًا ما ترتبط بمباحث قطاعية علمية وفلسفية ونصِّية محدَّدة في التراث، ولا تدَّعي اقتراح قراءة شاملة لعموم التراث. وقد لا نستبق مجريات التحليل في هذه الدراسة إذا عدَدْنا تنامي هذا النوع من القراءات القطاعية اليوم تعبيرًا من أصحابها عن التشكيك في "الوعود الكبرى" التي طالما أطلقتها القراءات الأيديولوجية الشاملة للتراث من دون أن تترتَّب عليها آثار فعليَّة تعُمُّ تجديد النظر إلى التراث، وتدفع باتجاه تغيير مطرد لمجموعة من العادات "العامِّية" و"الساذجة" التي ما زالت مستحكمةً في فهمِه وتمثُّلِه. وليس من قبيل المبالغة القول: إن هذه العادات -في وقتنا الراهن- هي التي ما برحت تحظى بالقوة والتأثير في الصراع الفكري والسياسي المستشري بين ظهرانينا في مناطقَ عديدةٍ من فضائنا العربي الإسلامي.

وبالرجوع إلى التصنيف الذي ننطلق منه، فإنه يبدو من الوهلة الأولى أن لكلِّ نوعٍ من القراءات تراثَه الخاصَّ الذي يتحدَّد انطلاقًا من المسلَّمات والمبادئ الجاهزة التي يصدر عنها في الاستعادة. فالتقليديون يفترضون أن النسخة التي بين أيديهم للتراث هي الأشدُّ تطابقًا مع حقيقته وهويته الأصلية، وأنهم تمكَّنوا من الاهتداء إليها اعتمادًا على نهجٍ إحيائيٍّ سمح لهم باستعادة المضامين التراثية من دون المساس بها أو تغيير ملامحها. وبهذا يعدون كلَّ من يتعامل مع التراث على غير هذا الأساس عابثًا بحقائقه، ومقوضًا صُروح معانيه وسلامتها، في حين يعترض الحداثيون على تلك النسخة، ويشكِّكون في قيمتها؛ لأنها في نظرهم حصيلةُ فهْمٍ جامدٍ للتراث، كما أنها لا تعدو أن تكون مجرَّد تكرارٍ مُبتسَر وغير منتجٍ لمضامينَ وقضايا لا يسوغها العصر ولا تستجيب لمقتضيات أحواله. لقد ارتسم هذا التباين الصراعي في تمثُّل التراث منذ البدايات المبكِّرة للتفكير في شروط النهضة، وظلَّ مترسخًا فيه وملازمًا له بصورة تحوَّلت معها علاقات النهضويين بعضهم ببعض إلى علاقاتٍ يطبعها الخصامُ، ويسيطر عليها عنفُ الأحكام وغلواؤها.

فالتوقف عند المعارك والمساجلات التي دارت بين الأجيال الأولى من النهضويين حولَ عدد من القضايا التراثية وصلتها بالحاضر؛ كقضية الخلافة، والتشريع الفقهي، وتاريخ الإسلام، واللغة، والفكر، والأدب وغيرها- يجعلنا نلمسُ بوضوحٍ كيف عبَّرت تلك المساجلات بقوةٍ عن ذلك التباين، وكيف عكست منذ البداية انشطار التفكير النهضوي في التراث إلى تياريْنِ متعارضيْنِ تعارضًا جذريًّا في الرؤية والمنهج[7]. وتبعًا لهذا أمسى التراث ذاته مجالًا لتصريف صراعٍ أيديولوجيٍّ استُبيحت فيه أشكال متفاوتة من العنف والمواجهة، وقُذف استنادًا إليه بالمضامين التراثيَّة في حلبة مغلقة من النزاع تتجاذبها ثنائيات متنابذة يمثل كلُّ طرفٍ منها معسكرًا مضادًّا للمعسكر الآخر، ومُجابِهًا له بالطعن والتشنيع (المحافظون/ المجددون، التقليديون/ الحداثيون، النصيون/ العقلانيون، قوى الظلام/ قوى العقل، الرجعيون/ التقدميون...إلخ).

ولا نتصوَّر حتى اليوم أن موجبات ذلك العنف قد توارت أو خفَّت لدى عددٍ من أصحاب المشاريع القرائيَّة للتراث، فهي لا تزال تغذي مجموعةً منها، وتؤثر فيها بهذه الدرجة أو تلك، على الرغم من أن مواقع النظر إلى التراث قد تغيَّرت إلى حدٍّ ما بين ما كانت عليه عند الأجيال المتقدِّمة من النهضويين، وما صارت عليه عند الأجيال المتأخرة من قرَّائه ودعاة تجديده؛ وذلك بفعل ما استجدَّ من مناهجَ وأدواتٍ للمقاربة والتحليل. ويكفي أن نشير في هذا الخصوص إلى أحدِ المواقف التجديدية المتأخرة لنلمس من خلال السجال الواسع الذي استثاره أنَّ أسبابَ العنف المشار إليه، ومسوغاته الأيديولوجية لم تتراجع حدَّتها؛ بل ما زالت مُسْتَعِرَةً ومتواصلةً، يقول نصر حامد أبو زيد:

"وإذا كان من حق كل باحثٍ أن يساهم في تجديد التراث، فلا شكَّ أن الهيمنة والسيطرة ستكون لأنصار أشد اتجاهات التراث تخلفًا ورجعيةً بحكم سيطرة هذه الاتجاهات على مجمل التراث لفترة طويلة ... إن مطلب التجديد على وجاهته وأهميته إذا لم يستندْ إلى فهْم «علمي» للأصول الموضوعية التي قام التراثُ على أساسها- كفيلٌ بأن يؤديَ إلى تكريس أشد عناصر التراث تخلفًا، إلى جانب أنه يساند -دون وعي- أشد القوى سيطرةً وهيمنةً ورجعية في الواقع الراهن"[8].

إن المتأمل في هذا الموقف لا يحتاجُ إلى عناءٍ كبيرٍ ليقع فيه على حدَّة الأحكام العنيفة التي يصدرها صاحبه، سواء ضد المواقف المنافسة، أو ضد التراث نفسه، حين ينعت جملة من اتجاهاته الفكرية بالتخلُّف والرجعيَّة. كما يستطيع أن يلمس بجلاءٍ ما فيه من دعوة صريحة إلى جعْل التراث واجهةً من واجهات التدافع الاجتماعي، وتحويله إلى ساحةٍ نضاليةٍ فسيحةٍ للمجابهة الأيديولوجية وخوض الصراع. بالإضافة إلى قيامه سلفًا على نزعةٍ انتقائيةٍ واضحةٍ في التعامل مع التراث، وتقويمه انطلاقًا مما يمليه الواقع الراهن من ضغوط وإكراهات.

ومن دون شكٍّ، فإن العنفَ الذي يتجسَّد في هذا الموقف الداعي إلى تجديد التراث وفي عددٍ من نظائره، يتجسَّد أيضًا في المواقفِ التقليدية المضادة، وينعكس فيها بالقدر نفسِه من الحدَّة والشراسة. وما يترتَّب على هذا بالتأكيد هو أن التراث في ذاته لا يغدو له من وجود إلَّا داخل النسخ التي اصطنعتها له هذه المواقف، وهي النسخ التي ينفي بعضها بعضًا ويلغيه، لا على أساس الاختلاف في فهم النصوص التراثية فهمًا محايثًا، والنفاذ إلى حقائقها الذاتية ومحتوياتها المعرفية المتنوِّعة، وإنما على أساس إرادة تملُّك هذه النصوص تملكًا أيديولوجيًّا والتحصُّن بها في مجريات الصراع الاجتماعي والمعرفي من قِبَل البعض، أو على أساس استبعادها والحكم بعدم صلاحيتها من قِبَل البعض الآخر.

وبناءً على هذا، نؤكِّد أن الحاجة إلى التراث لا ترتدُّ إلى الأُفق الصراعي الذي حشرته فيه المواقف النهضوية المتخاصمة، فالتراث ظلَّ وسيظلُّ تجربةً فكريةً وتاريخيةً تحيل على ما تحصَّل في ماضينا من حقائقَ ومعانٍ وقيمٍ هي في الآن نفسِه مدار ما مضى من هويتنا ووجودنا، ومدار الذي ما انفكَّ يعود منهما ويتواتر. وبذلك فمهما بلغ الصراع بين المتخاصمين على التراث من حدَّة وضراوة، فإنه لن يمثل أكثرَ من أرضية تاريخية قبلية لتفكيرنا، وحصيلة ممتدَّة وغير ناجزة مما كنَّا عليه ماضيًا، ومما نحن عليه حاضرًا، ومما يمكن أن نكون عليه مستقبلًا؛ إذ ينحدر إلينا من طريق "استمرارية التراث"[9] عددٌ من النصوص والتصورات والمفاهيم والتقويمات التي لا تظلُّ قابعةً في زاوية ما خارج الزمن، أو واقعةً على الهامش من أُفقنا ووجودنا التاريخيَّيْن؛ بل تنتقل إلينا وتتسلَّل إلى حاضرنا لتُشعرنا أولًا باختلافاتنا المتأصلة في كل أفقٍ من آفاقنا الزمنية المتلاحقة، وتؤزم بعَوْدِها المتواتر إلينا وهمَ تطابقنا إن مع ماضينا أو مع حاضرنا، ولتجعلنا ثانيًا وجهًا لوجه أمام تناهي وجودنا التاريخي، وتدفعنا إلى الإقرار بعجزنا عن خوض تجربتنا الدنيوية في العالم ببُعْد زمنيٍّ واحدٍ مردود قطعًا وبإطلاق إمَّا إلى الماضي على نحو ما يتوهَّم ذلك التقليديون، وإمَّا إلى الحاضر على نحو ما يدافع عن ذلك الحداثيون.

ما ينحدر إلينا من ماضينا -إذن- هو تجلٍّ زمنيٌّ من تجليات وجودنا الدنيوي في العالم؛ أي تجلٍّ من تجليات وجودٍ لا يكفُّ عن التفاعل بين ما تحقَّق منه في الماضي، وما يتحقَّق منه في الحاضر، وما يمكن أن يتحقَّق منه في المستقبل. ولذلك فما يأتينا من التراث هو بُعْدٌ حيويٌّ من أبعاد كينونتنا، وإمكانٌ من إمكانات فهم حدود أُفقنا الراهن، وحافزٌ من الحوافز الملازمة لاستمرارنا، ومن ثَمَّ فهو يبقى واحدًا من البواعثِ و"الموجهات الممكنة التي نسترشد بها في انتظاراتنا واختياراتنا"[10] المستشرفة للمستقبل.

وبالإضافة إلى هذا، فإن التراث ليس حلقةً زمنيةً مجردةً من صيرورتها، أو متعاليةً عليها بنحوٍ يمكن معه للحلقات اللاحقة أن تتقمَّصها وتتماهى معها مثلما يبدو هذا عند التقليديين، وهو ليس كذلك بالحلقة التي انقطعت عنَّا وانقطعنا عنها كما هو الأمر في تصوُّر الحداثيين.

إنه خبرة بشرية ودنيوية بالحقيقة في سياقٍ فكريٍّ وتاريخيٍّ محدَّد، وبذلك فهو لا ينطوي على أيِّ حظوة "فوق تاريخية" (suprahistorique) يتصف بها مقارنةً بما توالى بعده من أزمنة وأحقاب، ويكتسب بمقتضاها ميزةَ زمنٍ مرجعيٍّ يتعيَّن أن تحتكم الأزمنة اللاحقة إلى سلطته، وتستمدَّ من معاييره ما يُسنِد مشروعيتَها ويُحصِّنها. إن التراث لا يتحدَّد على هذا النحو، إنه لا يعدو أن يكون أفقًا زمنيًّا من آفاق يمتدُّ بعضها في بعض، وتتفاعل فيما بينها من دون تفاضل أو تراتب؛ ذلك أن الزمن لا ينقاس بإقحام أي ضربٍ من المعياريات الخارجية فيه، ولا بإسقاط أي نوعٍ من التراتبيات القيمية عليه، وإنما ينقاس بصيرورته ومنطقِ حدوثه.

إن الحاضر من وجهة نظر الحداثيين هو الزمن المرجعي الذي في ضوء معياريته و"كماله" أيضًا يقوِّمُون قصورَ إنجازات الأزمنة السالفة، ويتعقبون مظاهرَ نقصها وعدم كفايتها.

وعلى هذا الأساس استحكم في القراءتين التقليدية والحداثية للتراث منزعٌ صراعيٌّ أخضع كلًّا من الماضي والحاضر لتقاطبٍ معياريٍّ حادٍّ غير نابعٍ من تحقُّقهما ومنطقِ حدوثهما التاريخي، بل نابع من فصلهما عن صيرورتهما، وإسقاط تعارض أيديولوجي عليهما، وهو ما جعلهما يستحيلانِ في الوعي النهضوي إلى زمنيْنِ معيارييْنِ أو مرجعييْنِ متقاطبيْنِ يُغيِّب أحدهما الآخر وينفيه، فإذا كان الماضي من وجهة نظر التقليديين هو الزمن المرجعي الذي يُقوِّمون في حدود معياريته وتعاليه مجموعَ ما تعاقب بعده من أحقاب، ويُرمِّمون استنادًا إلى "كماله" و"سدادِه" ما يفترضونه "اختلالات" ومواطن "قصور" في إنجازاتها، فإن الحاضر من وجهة نظر الحداثيين هو الزمن المرجعي الذي في ضوء معياريته و"كماله" أيضًا يقوِّمُون قصورَ إنجازات الأزمنة السالفة، ويتعقبون مظاهرَ نقصها وعدم كفايتها.

لقد اختُزل الماضي والحاضر عند دعاة التقليد ودعاة التجديد على حدٍّ سواء إلى سانكرونيتين متعارضتين تنفرد الواحدة منهما في وعي هذا الطرف أو ذاك بخزان جاهز من الحلول يتعارض مع ذلك الذي تنفرد به السانكرونية/التزامنية المقابلة. غير أن مراهنة الطرفَيْن على جاهزية الحلول التي تتيحها هذه السانكرونية/التزامنية أو تلك لم تُفْضِ بفكر النهضة إلى بلوغ ما سطَّره من أهداف ورامه من مقاصد، بل أفضت به إلى أقصى حالات الاغتراب عن الواقع ومتغيراته الجارية، وعن الفكر ذاته من حيثُ كونُ مهمته لا تكْمُن في استنساخ الحلول والوصفات العلاجية الجاهزة؛ ذلك أن الفكر بقدر ما أمسى يُفرض عليه مع دعاة التقليد أن يعيش اغترابًا عن التجربة الراهنة للأفق الزمني الذي ينتسب إليه، وانفصالًا عن شروطها ومقتضياتها، بات أيضًا مع دعاة الحداثة يُملى عليه أن يعيشَ الاغترابَ ذاته، لكن مع منابعه الأولى وتجاربه السابقة.

إن مهمَّة الفكر لا تتجلَّى في خَلْقِ الاغتراب وتكريس مظاهره، بل إنها تتجلَّى أساسًا في مجاوزته وتفكيك بؤره وأسبابه؛ وذلك بإبداع الحوافز والشروط المنتجة التي بها يغدو ممكنًا الاهتداء إلى ما ينبسط بين ماضينا وحاضرنا من عُرى التفاعل والتواصل، وتعميق النظر في وشائجِ النَّسَب والقربى التي تجمع بينهما. لذلك ما كان الفكر ارتكاسًا نحو الماضي ولا إقامةً فيه، وما كان استغراقًا مطلقًا في الحاضر واندماجًا جذريًّا فيه؛ بل الفكر استذكار (remémoration) لما تبدَّى في الماضي من كينونتنا، ولذاك الذي ما انفكَّ منها يحدث ويصير ويتبدَّى[11]. إنه اندراجٌ في مجريات انبثاق هذه الكينونة، واقتراب فهمي من صيرورة تحقّقها عبر الأزمان بما يتيحُ له أن يكونَ توجهًا نحو المستقبل، وتطلعًا إليه من خلال ما تسمح به إمكانات الحوار بين الماضي والحاضر من إبداعٍ لأسئلة جديدة، وجوابٍ على استفهاماتٍ وانتظاراتٍ قائمة، وإبداءِ مواقف وتقويمات، واحتكامٍ إلى اختيارات[12].

وارتباطًا بهذا يتضحُ كيف أن الصراع الذي لازم علاقة المواقف النهضوية بعضها ببعض، اتَّجه بالتراث إلى وجهة غير الوجهة الفكرية التي كان بها خبرات متنوِّعة بالمعنى والحقيقة في تجلياتهما التاريخية والعلمية والجمالية.

لقد اتَّجه به إلى وجهة وظيفية وذريعية (pragmatiste) تقضي باستعماله إيجابًا أو سلبًا في تحقيق غاياتٍ وأغراضٍ سياقيَّة لا تدَّعي نصوصه ومضامينه القدرة على تحقيقها؛ ذلك أننا لا نجد في تراثنا ما جعله يستعلي على الأزمنة الآتية مُبوِّئًا نفسَه منزلة الأصل لكل ما ينبثق لاحقًا، كما لا يمكن أن نعثر فيه على ما يشبه الادعاء بأنه أصلٌ تاريخيٌّ يُلزم الأزمنة اللاحقة -ومنها زمننا- بأن تقتبس منه أصنافًا جاهزةً من الحلول والمقاربات العلاجية لمعضلاتها وأعطابها التاريخية.

وإلى جانب هذا أيضًا لا نصادف في تراثنا ما يستحثنا على معاملة معانيه بمعايير الصدق والكذب، وذلك كما لو كان يقدِّم إلينا نفسه بوصفه مجموعةً من المعاني المنطقيَّة المجرَّدة التي متى رأينا أنها متوافقةٌ مع عصرنا قضينا بصوابها وصدقها، ومتى اختلَّ فيها ذلك قضينا بكذبها وعدم صلاحيتها.

إن التراث ما كان قطُّ قضايا منطقيَّة مجرَّدة تخضع لأحكام الصدق والكذب، فهو في ذاته يأبى كل تقويمٍ لمضامينه ومعانيه بالشكل الذي يجعلها تمتثل لمنطقٍ ثنائيِّ القيمة يقضي بقبول جزء منها، واستبعاد الجزء الآخر. ولعله حين يأبى هذا التقويم فلكون المعيار الأساسي المعتمَد فيه غيرَ نابعٍ من تجربة التراث الذاتية، وغير مشتقٍّ من سياقها الخاص بنحوٍ يمكِّننا في حدود هذا السياق من الوقوف على أوجه الفاعلية التاريخية لتلك التجربة، وتبيُّن مراتب وجاهتها الفكرية؛ بل لكون ذلك المعيار استُمدَّ من تجربة الحاضر، وصِيغَ على مقتضى أحوالها ومقاس متطلباتها.

لقد اقتُلعت التجربةُ التراثية من سياقاتها التاريخية الحيَّة التي تحقَّقت في كنفها، ورُبط فهمها بحدود سياقاتٍ مغايرة غير نابعة من صميم مقتضياتها الخاصَّة؛ وبذلك وقع هذا الفهم عند كلٍّ من التقليديين والحداثيين في آفة التخليط بين السياقات، ونجم عنه إسناد معانٍ إلى نصوصٍ ومعارفَ غير متناسبة مع اعتباراتها السياقية اللصيقة بها.

فالتقليديون جرَّدوا التراث من سياقاته الحيوية الأصلية، وقذفوا به إلى الحاضر ليتمكَّنوا من استعماله فيه كما لو كان منبثقًا حقيقةً من صلب تجربته وسياقاته الخاصَّة. أما الحداثيون فعمدوا إلى انتقاء عيناتٍ مخصوصةٍ من النصوص والمعارف التراثية، وجازفوا بحشْرها في خانة بعض النزعات الفكرية الحديثة كالمادية والمثالية والوجودية وغيرها، بل إن هذه المجازفة لا تزال مستمرَّةً مع طائفة من القرَّاء حين يربطون بين عددٍ من العلوم التراثية وعددٍ من العلوم الحديثة دونما مراعاة لتباين سياقاتها واختلافها.

يُضاف إلى هذا أن التجربة التراثية لا تهب لنا نفسَها من خلال تحقُّقها في سياقها التاريخي كما لو أنها عبارة عن ركامٍ ساكنٍ من المضامين المتفرقة والمعزولة؛ إنها تندرج في منظومة حيويَّة متكاملة ومتفاعلة لا يكفُّ كلُّ تجلٍّ من تجلياتها الفكرية عن الارتباط بحياة القدماء، والالتصاق بشؤونهم وتفاصيل وجودهم. كما لا يتوقف ما أُنتَج فيها من معارفَ، وما تخلَّق في أحشائها من نصوصٍ عن التفاعل والتواصل ضمن الحدود الزمنية للأسئلة والموضوعات التي خاضت فيها، وللتصورات العلمية والرؤى الجمالية التي أبدعتها. وبذلك فحين تعود إلينا هذه التجربة، فلكي يتأتى بينها وبيننا انعقاد حوار فكري متكافئ لا مجالَ فيه لانقياد أحد الطرفَيْن للآخر، أو استعلائه عليه؛ حوار قوامه تبادل الإصغاء، والبحث عن السُّبل الموصلة إلى أفقٍ من التفاهم (intercompréhension) المنتج، الذي بقدر ما يدفعنا إلى تجديد فهمنا لما أُبدع في تلك التجربة من نصوصٍ ومعارفَ وتوسيع نظرتنا إليها، يدفعنا أيضًا إلى مراجعة العديد من يقينياتنا وبداهاتنا اللصيقة بتجربتنا الحاضرة، وبنظرتنا إلى هويتنا وذواتنا[13].

مضمرات التأسيس ومآزقه

تستتر في خطاب المواقف النهضوية من التراث جملةٌ من المضمرات التأسيسية التي يستند إليها في بناء أنماط من الصيغ الاستعادية التي تتحدَّد داخلها تمثلاته لنصوص هذا التراث ومتونه المتعدِّدة. ونقصد بهذه المضمرات تلك المبادئ غير الظاهرة في سطح الخطاب، والموجِّهة لاشتغاله الداخلي بصورةٍ تكشف عن قصود ثانية تتخفَّى وراء القصود الواعية التي صدرت عنها المواقف النهضوية صراحةً في تعاملها مع التراث. والأهم في هذا أن المواقف المتصارعة تشترك في هذه المضمرات، وتسري في دواخلها بصورة يؤول معها الاختلاف الظاهر بينها إلى مجرَّد اختلافٍ أيديولوجي خارجي تثوي خلفه النواظم المعرفية ذاتها، والمُثل التأسيسية نفسها.

وبهذا المعنى يمكن القول: إن فكر النهضة هو فكرٌ تأسيسيٌّ[14]، بالنظر إلى كون المبادئ التي تنتظمه، والمضمرات التي تستتر فيه يطرد إرجاعها إلى أساسٍ معرفيٍّ واحدٍ، وذلك من الجهة التي يروم منها هذا الموقف أو ذاك إخضاع التراث لصورة تحديدية نمطية ونهائية. فعلى الرغم من الاختلاف الظاهر بين المواقفِ النهضوية في المنطلقات والمرجعيات، فإنها تستوي في المسعى ذاتِه حين يُخضع كل موقفٍ منها التراثَ لصيغة استعادية نمطية يتصور أنها ممثلة لحقيقته، وعاكسة لماهيته.

المقايسة الفيلولوجية

تنطلق المواقف التقليدية من التسليم الحاسم بمصدرية التراث ومرجعيته بالنسبة إلى الأزمنة المتعاقبة؛ وبهذا المقتضى فهو أصل راسخ يتعيَّن أن تُقاس عليه مستجدات العصور اللاحقة، وتُقوَّم في ضوء حقائقه متغيراتُها ونوازلُها. بالإضافة إلى أنه مصدرُ الحقائق الذي لا ينضب، والمرجع الذي منه تستمدُّ منجزاتُ الحاضر صلاحيتَها وجدارتها. ولذلك تقوم بين الماضي وسائر الأزمنة في المواقف التقليدية علاقة مقايسة مؤسَّسة -من جهة- على ما يُفترض أنه أصولٌ وثوابتُ يتيحها التراث، ومن جهة ثانية على ما يُعَدُّ مستحدثاتٍ ومتغيراتٍ تابعةً للأزمنة المتتالية الحادثة. فمتى أبانت هذه المتغيرات عن وجهٍ من التشابه مع تلك الأصول وتوافقٍ مع مسلَّماتها، سوَّغتها المقايسة وقضت بمشروعيتها، وعاملتها معاملة فروع منبنية على أصولها ومشتقَّة منها، ومتى أبانت عن عكس ذلك، اختلَّت المقايسة وعُدَّت تلك المستجدات مجرَّد "انحرافات" عن الأصل، ومجرَّد زيغٍ عن أُسسه المرجعية ومقوماته المعيارية.

ومن هذا الأساس اتخذ التراث في الوعي النهضوي التقليدي مرتبة الأصل الذي يعلو على مجريات الزمن ويستقلُّ عن حدثانه وصيرورته، فاكتسبت الأسبقية التي تُسند إليه وضعًا "فيلولوجيًّا"[15] مجردًا، وليس وضعًا تاريخيًّا محققًا. وبذلك كانت أسبقية فيلولوجية لا تعود بنا إلى زمنٍ تاريخيٍّ، بل تعود بنا إلى ذلك الزمنِ الأول، زمنِ الأصول الخالصة والحقائقِ الكاملة التي لا يداخلها نقصٌ ولا لبسٌ أو اشتباهٌ. ومن ثَمَّ ارتقى إلى زمنٍ ذي طبيعة معياريَّة وكليَّة تحمل قياسًا عليه سائرُ الأزمنة التاريخية المتناسلة، وتُعامل على أنها مظاهره الفرعية والجزئية التي يتعيَّن أن ترتدَّ إليه، وتدخل في معناه.

لذلك استحال التراث عند التقليديين إلى منظومةٍ ناجزةٍ مكتفيةٍ بحقائقها ومغلقة على يقينياتها؛ أي استحال إلى منظومة لا تنتسب إلى التاريخ على نحو ما جرى وتحقَّق، وإنما إلى لحظة زمنية مثالية تتحدَّد انطلاقًا منها مظاهر التشابه وروابط القرابة التي تجمع بين المنظومة التراثية وما سيعقبها من مستجدات ومتغيرات. وبناءً على هذا الموقع المثالي الذي بات يشغله التراث في وعي التقليديين، جعلوا منه أكملَ نموذج للفكر، وافترضوا أن حقائقه تتَّسم بالكفاية الأبديَّة؛ ولذا اقتنعوا أشدَّ ما يكون الاقتناع بأن ما من جديدٍ يتخلَّق في الحاضر، أو يمكن أن يتخلَّق في المستقبل، ولا يُخل بتماسك حقائق التراث وانسجام معانيه، إلَّا ويوجد له أصلٌ سابقٌ في هذا التراث؛ إذ يتوقَّف الأمر فقط على تأكيد جهة السَّبق، وبيان وجه الشَّبه بين هذا الجديد والأصل الذي يوازيه تراثيًّا.

غير أن المفارق في الأمر أنَّ هذا الجديد يتخلَّقُ دومًا في غفلة من التقليديين، ولا ينتبهون إلى أهميته ومكمنِ إفادته إلَّا بعد استقراره وتداوله على نطاق واسع؛ بل إن دَورهم لا يتعدَّى التذرُّع بالتراث لإقرار هذا الجديد بـ "أثر رجعي" من دون أيِّ إسهامٍ منهم في إقامة حوارٍ بينه وبين الممكنات التراثية المتاحة، أو المشاركة في سيرورة إغنائه وتطويره. ولنا في العديد من النظريات الحديثة في العلوم الإنسانية ما يوضِّح هذا، فلطالما تجاهل التقليديون هذه النظريات وصرفوا اهتمامهم عن مستجداتها، لكنهم اضطروا إلى قبولها ولو جزئيًّا بعد اتساع انتشارها، وبعد مصادفتهم في التراث ما افترضوه أدلَّة وقرائنَ تؤكِّد أسبقيته عليها.

والمثير للاستغراب في هذا الخصوص أنَّ بعضَ المعارف التراثيَّة تغدو عندهم حمَّالة لأوجه متعارضة، فيربطونها تارةً بتصوُّر وتارةً بآخرَ مخالفٍ لا يوجد بينهما ما يوجب الربطَ ويسوِّغه. وهكذا نلفي منهم مَن ينعت النحو العربي القديم -على سبيل المثال- بأنه نحوٌ بنيويٌّ وسابقٌ على اللسانيات البنيوية في مرحلة، وينعته أيضًا في مرحلة أخرى بأنه نحوٌ توليديٌّ، بل يحسبه سابقًا على ما جاءت به هذه النظرية اللسانية من مكتسبات ومستجدات. ويجري كلُّ ذلك عندهم من دون تبيُّنٍ للاختلافات المعرفية (الإبستيمولوجية) والتاريخية التي تقوم بين المعارفِ التراثيَّة والمعارفِ الحديثة، وأيضًا من دون استثمارٍ لما في التراث من إمكانات وإرهاصات، وتفعيلها إمَّا على نحو دامج لها في الأنساق المعرفية والتصورية الحديثة[16]، وإمَّا على نحو مؤزِّم لهذه الأنساق ومجاوز لها.

وبانتفاء مثل هذه الأشكال من التفعيل الحيِّ للإمكانات المتاحة في التراث، ظلَّ الوعيُ التقليديُّ يستمدُّ أسبابَ وجودِه ومقومات مشروعيته من تماهيه الوجداني مع الماضي؛ إذ به يحيا، وفي نطاقه يفكِّر، ومن اطمئنانه إلى كماله المعياري يقترض ما يصدره من أحكامٍ وتقويماتٍ جاهزةٍ على أحوال الحاضر ومتغيراته. وبذلك لا تمثل المقايسة الفيلولوجية بالنسبة إلى هذا الوعي مجرَّد أداة يتوسل بها في إقامة المشابهات بين الزمن المثالي للتراث وسائر الأزمنة الحادثة فحسب، بل تمثل أساسًا فاعليته الذاتية الأثيرة التي بقدر ما تكفل له تحصين اعتقاده في كفاية التراث، تكفل له كذلك تحصين تطابقه مع ذاته، وتيقنه من مسلَّماته. وهو ما جعل من الوعي التقليدي -في نظرنا- "وعيًا مونولوجيًّا" (monologique) منجذبًا بقوة إلى مركزيته الذاتية، ومشدودًا بعنفٍ إلى تطابقه وأحاديته؛ إذ لا نلمس في علاقته بالتراث وانطباقه عليه أيَّ مسافةٍ معرفيةٍ يستشكل من خلالها قضاياه ويسائلها، أو يسعى إلى محاورتها وتجديد أنظاره إليها.

ظلَّ التقليديون يؤكدون أن صيغتهم الاستعادية هي الصيغة المُثْلَى الأشدُّ تطابقًا مع هوية التراث، وأنها هي التي تنعكس فيها صورته الأصلية بأعلى درجة ممكنة من الصفاء والتماثل.

لهذا يحقُّ القولُ في هذا الصدد: إنه وعي لا يعير الاهتمام لأيِّ مسافة تاريخية كانت أو نظرية أو نقدية أو تأويلية بين صيغة الاستعادة والموضوع التراثي المستعاد؛ فهما مختزلان بعضهما في بعض إلى حدِّ التماهي والتطابق، ومردودان كل منهما إلى الآخر بكيفية لا يتحدَّد فيها وعي الذات المستعيدة بنفسها إلَّا من خلال تمثيلها المرآوي (représentaion-miroir) الخاص للموضوعات التراثية المستعادة، والجزم بأن ذلك التمثيل هو عينُ هذه الموضوعات المتطابق معها من كل الجهات. وهكذا ظلَّ التقليديون يؤكدون أن صيغتهم الاستعادية هي الصيغة المُثْلَى الأشدُّ تطابقًا مع هوية التراث، وأنها هي التي تنعكس فيها صورته الأصلية بأعلى درجة ممكنة من الصفاء والتماثل. ولهذا فهي الصيغة الأكفى والأقْدر على بعثه وبثِّ الحياة فيه، بما يسمحُ لهم باستئناف الفكر في ضوء حدودها، واللحاق بركب الأُمم المتقدِّمة انطلاقًا من التقيُّد بها وحسن استثمار مكاسبها ومنافعها.

غير أن لا هذا ولا ذاك من وعود التقليديين قد تحقَّق؛ فلا هم استطاعوا إبداعَ ما يقود إلى أيِّ نوع من التحوُّل الذي يجعلهم مشاركين فاعلين في تجربة الفكر الإنساني، ولا هم تمكَّنوا من إغناء ما انتهى إليه القدماء، أو مهَّدوا بالتفاعل معه لتجربة فكرية وحضارية متجدِّدة ورائدة. لقد بقيت وعودهم حبيسةَ أقوالهم وأنظارهم؛ لأنها لا تنطوي في ذاتها، ولا في علاقتها بالواقع على أية مقتضيات إنجازية (performatives) تجعلها قابلةً للتحقُّق.

فمن أبرز الشروط التي تجعل الفكر -أي فكر- يخرج من دائرة الوعد النظري وينخرط في سيرورة التحقق العملي أنه يكون فكرًا يضمر في طيَّاته مقتضياته الاستعمالية والإنجازية؛ إذ للفكر اعتباراته المناسبة الحيوية التي باستناده إليها وتفاعله معها يكتسب قيمتَه الإنجازية أو العملية، وهي الاعتبارات التي لا يمكن أن نعثر عليها في وعود التقليديين الفكرية. إن كل ما نعثر عليه هو وعودٌ باعتباراتٍ زمنيَّة وسياقيَّة غير مناسبة، وغير متفاعلة مع متطلبات الواقع ومقتضياته الحالية. ومن هذه الزاوية إذا شئنا تحليلها من الوجهة التداولية (pragmatique) فهي حقًّا وعودٌ، لكنها تبقى وعودًا صوريةً منفصلةً عن ظروفها التداولية المناسبة (circonstances appropriées). وبذلك تنتفي فيها أيَّةُ قرائنَ إنجازيةٍ صريحةٍ أو مستترة تُفضي بها إلى تأدية المقاصدِ المرجوَّة منها في الواقع على نحو "ناجح" وملائم، ومن ثَمَّ أخفقت وعودُ التقليديين في بلوغ مقاصِدها، لإخلالها بقاعدة تداوليَّة دقيقة، وهي أن الأقوالَ -سواء أكانت جزءًا من اللغات الطبيعية أم جزءًا من اللغات الرمزية (لغات الفكر والعلوم)- لا تترتَّب عليها آثار عملية إلَّا إذا جرت متفاعلة مع اعتباراتها المناسبة، وتحقَّقت غير منزاحة عنها[17].

وعلى هذا الأساس، ظلَّت الهُوَّة تتسعُ بين الوعي التقليدي وبين الواقع كما يحدث ويصير؛ بل تعمَّقت اليومَ هذه الهوَّة أكثر بفعل انبجاس نسخٍ جذريَّة من ذلك الوعي لا تمُتُّ بصلة إلى صيرورة الواقع ومتغيراته الجارية، ولا تنزع إلَّا إلى مزيدٍ من التقوقع والانغلاق.

المقايسة النظرية

إذا كانت المقايسة الفيلولوجية هي عماد المواقفِ التقليدية في بناء المشابهات بين التراث ومستجدات الأزمنة اللاحقة، فإن المقايسة النظرية هي عمادُ المواقف الحداثية في بناء تلك المشابهات بين إنجازات الحاضر الفكرية وطبقة مخصوصة من النصوص والمعارف التراثية، فالأصلُ المرجعيُّ في هذه المقايسة يصبحُ هو الحاضر، في حين يصبح التراث فرعًا يتعيَّن البحثُ له عن أوجه تشابهه النظري مع إنتاجات هذا الحاضر ومكتسباته الفكرية والعلمية.

 إن الأمر هنا يستدعي علاقةً بين أصلٍ فكريٍّ استقرَّ في الأزمنة الحديثة ووُصفت أنظاره ومعارفه بأنها بلغت درجاتٍ من الكفاية والاكتمال النظريَّيْن، وبين فرعٍ تراثيٍّ تُوصَف منجزاتُه بالنقص والجزئية وعدم الاكتمال. ومن هذه الجهة تنبني المقايسة في مواقف الحداثيين على مجموعة من "الوساطات" النظرية والمنهجية التي بها تتحدَّد المضامين التراثية، وفي ضوئها تكتسب معانيها وحقائقها. ذلك أنَّ الحقائق الملازمة لهذه الوساطات تُعَدُّ من الناحية النظرية سابقةً على حقائقِ التراث، ومؤسِّسةً لها؛ في حين يُختزل التراث إلى مجرَّد فرعٍ لا يستعيد حضوره ولا يتكشف معناه إلَّا بتطويعه لمسلَّمات تلك الوساطات وإخضاعه لاعتقاداتها.

وفي هذا المنحى يمكننا التأكيد أن المقايسة التأسيسية للتراث عند الحداثيين تتخذ وضعًا إجرائيًّا عكسيًّا مقارنةً بمقايسة التقليديين، فما كان أصلًا يقاس على مسلَّماته ويقينياته عند هؤلاء، أمسى فرعًا عند أولئك، والعكس بالعكس. وقد كان هذا -كما أسلفنا أعلاه- عاملًا من العوامل المفاقِمة للتدافُع الأيديولوجي الحاد القائم بينهم، والذي توخى منه كلُّ طرفٍ امتلاك التراث، لا بغاية فهمه وتجديد أساليب استعادته وتلقيه؛ وإنما بغاية اتخاذه أداةً من أدوات الهيمنة الأيديولوجية والاجتماعية. وهو ما انعكس على تحديد ماهية التراث، فلم يُعامَل على أنه حصيلة تاريخية من التجارب الفكرية والعلمية والجمالية المتنوِّعة التي تستجيب لأسئلة الأُفق الزمني الذي تحقَّقت فيه؛ بل عُومِل على أنه مجرَّد مدوَّنة جامدة من الشواهد النصيَّة التي يتوسل بها كلُّ طرفٍ من أجل دعم رؤيته إلى الواقع، والاستدلال بها على حُجيَّة الحلول والمخارج التي يتبنَّاها من أجل النهوض به وتجاوز مآزقه. فالتقليديون وجدوا أنفسهم أمام مدوَّنة واسعة تؤمِّن لهم قدرًا وافرًا من الشواهد التي يستندون إليها في تقويم المتغيرات الجارية، وتسويغ أنماطٍ معينةٍ من الفكر دون أخرى، وإضفاء هذا الضرب من المشروعية أو ذاك على منظوماتٍ خاصَّة من القيم، وأنواعٍ محدَّدة من المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية، أما الحداثيون فتغدو عندهم تلك المدوَّنة تابعةً لاستلزامات الحاضر، فيتقلَّص حجمُها وتضيق مكوناتُها إلى أبعدِ الحدود، لتصير في نهاية المطاف مجرَّد مدوَّنة جزئيَّة استُبعِد منها كلُّ ما لا يتوافق مع الحاجة إليه في هذا الحاضر.

وبهذا لا يتحدَّد التراث في الوعي النهضوي إلَّا بإخضاعه لمقايسة تأسيسية مزدوجة الوظيفة؛ فإذا كان التقليديون يُشغِّلون وظيفتها الفيلولوجية التي تمكِّنهم من ردِّ مستجدات الحاضر إلى التراث بوصفه أصلًا مرجعيًّا، وتقويمها في ضوء معاييره، فإن الحداثيين يشغلون وظيفتها النظرية التي تسمحُ لهم بترميم ما يتصورونه نقصًا نظريًّا في معارفِ التراث ومفهوماته اعتمادًا على مرجعية الحاضر وكمال أنظاره ومنجزاته.

وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن الأستاذ الجابري كان سبَّاقًا إلى التنبيه على الخلفية القياسية للعقل العربي، والتأكيد من خلال ذلك أن القراءات الحديثة للتراث التي تناولها بالتحليل ظلَّت واقعةً تحت تأثير هذه الخلفية، بل ظلَّت أسيرةً للصورة المُنحسِرة وغير المُنتجة التي اختُزلت إليها خطواتها الإجرائية إبَّان ما يُدعى بـ "عصر الانحطاط".

وقد وضَّح الأستاذ الجابري هذا بكون آلية القياس باتت تُوظَّف في ذلك العصر من دون مراعاة خطواتها العلمية والإجرائية كافةً؛ وبذلك اختُزلت إلى مجرَّد عملية "ميكانيكية" يُكتفى فيها بترداد عبارة "وقِس على ذلك"، فلم يَعُدْ لها -تبعًا لهذا- أيُّ مردودٍ على صعيد إنتاج المعرفة وإبداع الأفكار[18].

غير أن التحليل الذي اتجهنا إليه لا نركِّز فيه على كون المقايسة انبنت في الوعي النهضوي بكيفية مبتسرة، وأنها جاءت غيرَ مستندةٍ إلى مجموع أركانها؛ بل نذهب فيه إلى أنَّ النزعة التأسيسية التي لازمت المواقفَ النهضوية تتخذ أساسًا من القياس وسيلةً مُثلى لإقامة المطابقات غير التاريخية بين الماضي والحاضر، وأداةً حاسمةً لبناء المماثلات الفكرية غير المسوغة بينهما. فالمقايسة هنا هي عماد التأسيس النهضوي للتراث، وقوامه المضمر الذي يستبعد كلَّ الاختلافات الممكنة بين تجربةِ الماضي وتجربةِ الحاضر، ويستأصل منابعها وتجلياتها؛ ذلك أن إثارة أي نوعٍ من الاختلاف بين هاتين التجربتَيْن يُفضي إلى إرباكِ المقايسة وتكدير صفوها، فضلًا عن أن الإحاطة به تقتضي النظر من جانبٍ إلى التراث ومن جانبٍ آخر إلى مسلَّماتنا واعتقاداتنا الراهنة على أنهما تجربتان فكريتان غيرُ متطابقتَيْن تاريخيًّا.

إن ما يثير الاهتمام هو ذلك الاتفاقُ الضمني بين التقليديين والحداثيين على الفكرة القاضية بأنَّ التراثَ صار في عداد "الموتى" بفعل جُموده وانحسار فاعليته مع توالي الأزمان.

ولمَّا كان الأمر كذلك، فإننا لن ننتظرَ من المقايسة التأسيسية التي لا تروم سوى صوغ المشابهات أيَّ استدعاء للتاريخ من حيثُ هو حدثان ودينامية منافية للتنميط، ومقوضة للمماثلات كيفما كانت أشكالها.  من هنا افتقد التراث في تحليلنا كلَّ علاقة له بذاته، وتقطَّعت كلُّ صلة تاريخية له بأُفقه، واختُزل وجودُه المحايث الذي كان به خبراتٍ حيَّة بالمعنى والحقيقة إلى مدوَّنة ساكنة من الشواهد والاقتباسات الخاضعة في هذا الموقف أو ذاك لمحدداتٍ انتقائيَّة وتنميطيَّة غير مُعبِّرة عن هويته، وغير مُلِمَّة بأبعادها وتجلياتها الحيويَّة. بل إن ما يثير الاهتمام -فضلًا عن هذا- هو ذلك الاتفاقُ الضمني بين التقليديين والحداثيين على الفكرة القاضية بأنَّ التراثَ صار في عداد "الموتى" بفعل جُموده وانحسار فاعليته مع توالي الأزمان.

والحقُّ أن فكرة "الموت" هذه التي التصقت بالتراث غالبًا ما نمرُّ عليها مرورَ الكرام ونتقبَّلها على أنها بداهة من البداهات؛ إذ لم يسبق لها أن كانت موضوعَ أبحاث دقيقة تكشف لنا عن الانعكاسات التي كانت لها على مجمل المواقف النهضوية، وتبرز إسقاطاتها على نوعية الأدوات المنهجية التي توسلت بها في مقاربة التراث. إنها فعلًا فكرةٌ مثيرةٌ من زاويتَيْن على الأقل: من زاوية دَورها العميق في تشكيل التمثلات النهضوية للتراث، ومن زاوية تأثيرها في هذه التمثلات التي استحال فيها كلُّ ما أُنجز في الماضي جثةً هامدةً لا روح فيها ولا حياة.

ومن دون شكٍّ، فإن فكرة "موت التراث" والخلفيات المرتبطة بها هي التي أملتْ على التقليديين تبنِّي ما اصطلحنا عليه "مقايسة فيلولوجية" تشتغل بصورة مضمرة في برنامجهم القرائي للتراث؛ ذلك أن الفيلولوجيا كانت دومًا ومنذ منشئها تقترن باللغات الميتة، وتسعى إلى إعادة بنائها وترميمها على النحو الذي كانت عليه في الأزمنة الماضية. ولذلك تعامل الفيلولوجيون مع تلك اللغات كما لو أنها مجرَّد قِطَع أثريَّة جامدة تؤول إليهم مسؤوليةُ إحيائها وبعْث معانيها. وهو النهج الذي تبدو ملامُحه لائحةً في علاقة التقليديين بالتراث، فقد سلَّموا بأنه صار في عداد "الميت"، وأنه بالبعث والإحياء يستطيعون إنعاشه ومَدَّه بأسباب الحياة ليسترجع في الحاضر أدواره التي كان يضطلع بها في الأحقاب الماضية.

في حين أملتْ تلك الفكرة على الحداثيين إسقاطَ اعتقادات الحاضر ومسلَّماته على التراث، ودفعتهم إلى الاقتناع بأن ذلك هو أقْومُ سبيلٍ إلى بثِّ الحياة فيه وإعادة الروح لما يتماشى منه مع مطالبِ التجديد ومستلزماته. وقد أباح التقاؤهم عند هذه الفكرة لكل طرفٍ منهم أن يستعملَ التراث في الاتجاه الذي يريد، وأن يوظِّفه في خدمة مواقف وأغراضٍ سياقيَّة محدَّدة، ويستصدر منه ما يعتقده متناسبًا مع رؤيته العلاجية للأعطاب المستشرية في الواقع، والمعضلات المتعاظمة فيه. وبذلك نَصَبَ كلٌّ منهم نفسَه بديلًا عنه في الكلام؛ لأن التراث بالنسبة إليهم ليس سوى ركامٍ من المضامين الجامدة والنصوص الخرساء التي افتقدت مع مرور الزمن حيويتَها وقدرتها على التعبير، وبذلك فهي تبقى في أمَسِّ الحاجة إلى مَن يُحييها ويبتعثها، أو يستنطقها ويتكلَّم مكانها.

لكن ما لم يلتفت إليه الطرفان أنَّ ذاك الذي حسبوه في عداد الموتى لا يكفُّ عن العَوْدِ إلينا كلما انتصبت هويتنا موضوعًا لفكرنا، ولا ينفكُّ عن الإتيان إلينا كلما انصرف اهتمامنا نحو استشراف المستقبل والتطلُّع إليه. والمثير في عَوْدِه المتواتر هذا أنه عَوْدٌ لا يفتأ عن الصيرورة والتحوُّل، وأنه عَوْدٌ لا ينضبط للصور النمطيَّة التي خططناها له في هذه الصيغة الاستعادية أو تلك. يتمرَّد التراث على كل المعاني التي نسعى جاهدين إلى تثبيته فيها وتسييجه داخلها؛ لكونه ما آل إلى المُضي ولا تطابق معه، بل إنه ما فتئ يمضي ويصير ويعود إلينا بوجوه من التعدُّد والاختلاف. لهذا لا نتصور أن التراث يقبل أن يُستعاد بوجهٍ واحدٍ كما لو كان هذا هو وجهه المطابق لماهيته، فلو افترضنا ذلك مع التقليديين لكان التراث قد انتهى إلى استنفاد نفسه ومضى إلى الزوال. وفي ارتباطٍ بهذا يرفض التراث كذلك أن يُستعاد بإجباره على الانصياع لمسلَّمات الحاضر وسلطة النظرية؛ إذ لو فعلنا ذلك مع الحداثيين لصار جزءًا من الحاضر، ولانتفت بينهما أسباب التفاوت وموجبات الاختلاف.


الهوامش

[1] جامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان/ المغرب.

[2] نحيل في هذا الخصوص على منظور التأويلية الفلسفية إلى التراث، ودفاعها عن وجوب أخذ المسبقات التراثية بعينِ المراعاة في أثناء مزاولة عملية الفهم؛ ذلك أن استبعاد هذه المسبقات هو استبعادٌ لمداخلنا القبليَّة إلى كل ممارسة فهميَّة أو تأويليَّة، وحكمٌ على الذوات المؤولة بأنها لا تعدو أن تكون سوى ذوات "فارغة" ومجرَّدة من أية أسئلة أو اقتضاءاتٍ تعود إلى عصرها وإلى ما انحدر إليها من العصور الماضية. يراجع:

 - H.G. Gadamer, Vérité et méthode, (1960), tr. Fr., Seuil, Paris, 1976.

 - G. Warnke, Gadamer : herméneutique, tradition et raison, 1987, tr. Fr., Editions Universitaires, Bruxelles, 1991.

[3]  G. Warnke, Gadamer : herméneutique, tradition et raison, p.107.

[4]  H.G. Gadamer, Vérité et méthode, pp. 134-135.

[5] يجدر التنبيه إلى أننا نستعمل صفتي "تقليدي" و"حداثي" بمعزِلٍ عن أحكام القيمة المقترنة بهما، وبمنأى عن أيِّ تأجيجٍ لأسباب الصراع المغذية لهما؛ فهما بالنسبة إلينا صفتان تخُصَّانِ مواقف نهضويَّة محدَّدة من التراث، ولا نستعملهما إلَّا على هذا الأساس التصنيفي الذي يسمح لنا بالتمييز بينهما في طريقة تمثُّل التراث والتعامل معه.   

[6] محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1980م)، ص5-17.

[7] نشير هنا إلى نموذج ممثِّل لهذا الصراع كما تجلَّى في المعاركِ والخصومات التي اندلعت في مصر بين معسكريْنِ: أحدهما يُنعت بالمحافظ، وبرز فيه كلٌّ من: مصطفى صادق الرافعي، وأحمد زكي باشا، ومحمد فريد وجدي، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، وغيرهم. والثاني يُنعت بالمجدد، ومثَّله كلٌّ من: سلامة موسى، وأحمد لطفي السيد، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وغيرهم. والمعروف أن الصراع بين هذين المعسكرين قد تشعَّب كثيرًا إلى درجة احتداده بين أطراف المعسكر الواحد، نتيجةَ تعارضهم في التعامل مع القضايا التراثية، وتفاوتهم بين الغلو والاعتدال في قبولها أو رفضها.

ويمكن الرجوع إلى هذه المعارك والاطلاع على جذورها وتفاصيلها في كتاب "المعارك الأدبية في مصر منذ 1914/ 1939م" لأنور الجندي، وتكْمُن أهمية هذا الكتاب تحديدًا في جمع الوثائقِ المتفرِّقة المتعلِّقة بالسجال الفكري والأدبي والسياسي الذي نشب في مصر بين دعاة النهضة مباشرةً بعد الحرب العالمية الأولى، وتوثيقه، وتصنيف القضايا الأساسية التي دار حولها.

[8] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن (الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، 1990م)، ص17.

[9] يمثِّل هذا المفهوم واحدًا من المفاهيم التي تعتمد عليها التأويلية الفلسفية في إعادة تحديد ماهية التراث ورد الاعتبار إليه. وقد ركَّز عليه غادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج"، مؤكدًا أن التراث ليس أفقًا مضى وانقطع عنَّا، وأن فهمه لا يتأتَّى إلَّا بحدود ذلك الماضي؛ بل إننا نفهمه في ضوء انحداره إلينا وانتقاله المتواتر إلى أُفقنا من خلال انصهار الآفاق الزمنية وامتداد بعضها في بعض. الأمر الذي يجعل من أفقنا هذا حصيلةً من الحوار والتفاعل مع الآفاق السابقة، وأنه أفقٌ لم يكن له أن "يتشكَّل ألبتَّة دون أفق الماضي" (ص147 من الترجمة الفرنسية المذكورة أسفله):

 H.G. Gadamer, Vérité et méthode, p. 147.

[10] G. Vattimo, Etique de l’interprétation, (1989), p. 43, tr. Fr., La découverte, Paris, 1991.

[11] عن الفكر بما هو "استذكار"، أو بما هو احتفاء بالذاكرة حسب عبارة نيتشه، انظر:

 - M. Heidegger, Qu’apelle-t-on penser ?, 1954, tr. Fr., P.U.F, Paris, 1959.

 - G. Vattimo, Etique de l’interprétation.

[12] G. Vattimo, Etique de l’interprétation, p.42.

[13] من الدروس العميقة التي يمكن إفادتها من نيتشه وهو يقرأ فكر قدماء الإغريق وإبداعاتهم أن التراث لا يمثل موضوعًا ساكنًا يمكن أن تستنطقه القراءة على أيِّ نحوٍ شاءت، وتَسُدَّ مَسدَّه في الإعراب عن نفسِه والتعبير عن ذاته؛ بل إنه يمثل بُعْدًا حيويًّا قادرًا على مشاركة القراءة ما بين الذوات في بلوغ فهوم متقاسَمة، والاهتداء إلى استخلاصاتٍ راجحة. ولذلك ما كان نيتشه يفكِّر في الإغريق فحسب، وإنما كان يفكِّر معهم أيضًا، ويتفاعل مع أسئلتهم وقضاياهم. وما كان يرجع إلى نصوصهم وآثارهم كما لو أنه يرجع إلى "أشياء" جامدة لا روح فيها ولا حياة، أو إلى كائناتٍ خرساء لا تنطق ولا تتكلَّم. لقد تعامل نيتشه مع القدماء بوصفهم كائناتٍ تعبِّر وتتكلَّم، فأمعن الإصغاء إليهم، وشاركهم الحديث، وبادلهم التسآل والتعرُّف. لهذا توصف اليوم قراءاته الفيلولوجية للتراث الإغريقي التاريخي والمتخيل بأنها غاية في التأنِّي وعدم الاندفاع. بل لطالما أكَّد في بداياته الفلسفية وهو يدرس في الجامعة أنه أستاذ "القراءة المتأنِّية" للنصوص الإغريقية، وأنه يكره أولئك الذين يمرون عليها مرور العابرين المتسكعين... ومن ثَمَّ فبقدر ما أتاحت له قراءاته التوغلَ في عوالم القدماء والتعمُّق في آثارهم، أتاحت له أيضًا استكشاف حدود تجربة الحاضر، وتعرية العديد من وجوه الزيف الثاوية في الصور الفكرية النمطية والقارة التي صار يحيا فيها الإنسان الحديث ويتقوقع داخلها. بل إنه أدخل العديد من أسباب الارتياب في ثقة هذا الإنسان المطلقة والعمياء في مركزيته الذاتية والعقلية، وفي العديد من حقائقه الثابتة ويقينياته الراسخة... يراجع في هذا الخصوص:

  - F. Nietzsche, Le cas Homère, ed., post., C. Santini/ P. Judet de La Combe, tr.fr., EHESS,2017.

- محمد الحيرش، تحولات اللغة وتحولات التأويل: نحو تأويلية فيلولوجية، ضمن كتاب جماعي بعنوان: "في الحاجة إلى التأويل"، تنسيق: محمد الحيرش وعبد الرحيم جيران (تطوان: منشورات مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، باب الحكمة، 2018م).

[14] نقصد هنا بالفكر التأسيسي (pensée fondationniste) كلَّ فكرٍ قد انغلق داخل بنيات معرفية قارة، وارتدَّ إلى مقولات ميتافيزيقية صارمة وثابتة. وتتخذ الأشياء والقضايا التي يخوض فيها هذا الفكر هيئة "موضوع ساكن" يقبل الخضوع للضبط والإحكام، وينقاد للسيطرة المعرفية والمنهجية. ولذلك لا ينظر هذا الفكر إلى تلك الأشياء والقضايا في حيوية حدوثها في تجربة معيَّنة، وإنما ينظر إليها ضمن البنيات المغلقة التي قام بتجريدها فيها، والمقولات الصارمة التي اختزلها إليها. يراجع في هذا الشأن:

- G. Vattimo, La fin de la modernité :Nihilisme et herméneutique dans la culture post-moderne, 1985, tr. fr., Seuil, Paris, 1987.

- G. Vattimo, Etique de l’interprétation.

[15] لا نستعمل هنا كلمة "فيلولوجيا" بمعناها الفلسفي كما وردت في الأعمال المبكِّرة لفريديريك نيتشه، أو كما ترد فيما يُعرف بالتأويلية الفيلولوجية أو النصيَّة على نحو ما دافع عنها بيتر زوندي (Peter Szondi)، وطورها الزوجان: جون ومايوط بولاك (Jean/ Mayotte Bollack)؛ وإنما نستعملها بمفهومها اللساني المرتبط بالنزعة التاريخية في لسانيات القرن التاسع عشر، والقاضي بأن دراسة لغة من اللغات لا تستقيم إلَّا بإرجاع هذه اللغة إلى الأصل الذي انحدرت منه. ولئن كان من اللازم أن يكون هذا الأصل قد تحقَّق تاريخيًّا وتَمثَّل في أقدم حالة لغوية ممكنة بالنسبة إلى أسرة لغوية محدَّدة، فإن الفيلولوجيين افترضوا أنه أصل مجرَّد يتخذ موقعًا فوق مجريات الزمن، وترتدُّ إليه نظريًّا الحالات اللغوية القديمة والحديثة على حدٍّ سواء. ومن ثَمَّ انتهوا إلى أن مختلفَ أشكال التطور التي شهدتها هذه الحالات غيرُ مشتقَّة من حالة قديمة تعيَّنت تاريخيًّا؛ وإنما هي مشتقَّة من أصلٍ "فوق تاريخي" اصطنعوه نظريًّا وتجريديًّا... وقد بلغ الأمر ببعضهم إلى حدِّ خلقِ "لغة" ما تكلَّمها قطُّ قوم من الأقوام ولا وُجِدت تاريخيًّا، وعدِّها لغة ذلك الأصل.

[16] مفهوم "التفعيل الدامج" هو مفهوم اقترحه الأستاذ أحمد المتوكل في مداخلة ألقاها حول صيغ تفعيل البلاغة العربية القديمة ووصلها بالتصورات البلاغية الحديثة، وكان ذلك بمناسبة انعقاد ندوة علمية في موضوع: "البلاغة العربية والمقاربات النصية الحديثة: انفصال أم اتصال؟" (كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عين الشق، الدار البيضاء، 17 و18 مارس/آذار 2004م). وقد جاء اقتراحه لهذا المفهوم في مقابل كلٍّ من "التفعيل التأريخي" للبلاغة و"التفعيل الاسترجاعي" المعمول بهما في عدد وافر من الدراسات البلاغية العربية الحديثة. وميَّز الأستاذ المتوكل ما قام به في جملة من أعماله وأبحاثه اللسانية المنفتحة على التراث اللغوي والبلاغي العربي القديم بأنه يندرج في سياقٍ معرفيٍّ يقوم على تفعيل هذا التراث تفعيلًا دامجًا له في الأنساق التصورية الحديثة، لسانية كانت أو تداولية أو فلسفية لغوية. يراجع في هذا الخصوص:

- A. Moutaouakil, Réflexions sur la théorie de la signification dans la pensée linguistique arabe, Faculté des lettres, Rabat, 1982.

 - أحمد المتوكل، اقتراحات في الفكر اللغوي العربي القديم لوصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي، ضمن كتاب: "دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي" (الدار البيضاء: دار الثقافة، ط1، 1986م).

- أحمد المتوكل، المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي: الأصول والامتدادات (الرباط: دار الأمان، ط1، 2006م).

هذا وقد أتيح لنا المجال بمناسبة الندوة المذكورة لمناقشة الأستاذ المتوكل في تصوره الدقيق والمتميز للتفعيل الدامج؛ ومما جاء في هذا النقاش أن ما يزخر به التراث اللغوي والبلاغي طوال أحقابه الممتدَّة من رحابة وغنى معرفيَّيْن لا يتيح إمكان دمجه في الأنساق النظرية الحديثة فحسب، بل يتيح إلى جانب ذلك إمكان منافسة هذه الأنساق و"تأزيمها"، وذلك إذا ما تحرَّرنا من النظر إليها على أنها سقف "نهائي" للبحث والتفكير، وإذا ما تمكَّنا أيضًا من إعادة بناء الاقتراحات التراثية بالشكل الذي يؤدي إلى التقاط ما فيها من مفاهيم دالَّة تسمح إمَّا بتطوير تلك الأنساق وإغنائها من جهة، وإمَّا بنقدها وتبني اختيارات جديدة منافسة لها. وقد كانت الخلفية الموجهة لنا في ذلك النقاش هي أن كبار فلاسفة العصر (نيتشه، وهيدغر، وغادامير، وغيرهم) اتخذوا من الجذور التراثية للفكر حوافزَ نقديةً لمراجعة العديد من المفهومات الفلسفية الحديثة؛ كمفهوم العقل، ومفهوم الوجود، ومفهوم التأويل، ومفهوم التراث ذاته...  

[17] نستوحي هنا بعض التحليلات ذات البُعْد التداولي التي اقترحها أوستين في القسم الأول من محاضراته المعنونة بـ "كيف نصنع الأشياء بالكلمات"، حيث ميَّز بين الأقوال الوصفية والأقوال الإنجازية، وربط تحديد الأقوال الوصفية في علاقتها بما تصفُه في العالم الخارجي بقبولها التقويم استنادًا إلى معياري الصدق والكذب، في حين ربط تحديد الأقوال الإنجازية بجملة من المعايير، أهمها أن تكون محققةً في ظرف مناسب. فمتى تحقَّقت على مقتضى ذلك كانت أقوالًا إنجازية ناجحة، ومتى جاءت على عكس ذلك عُدَّت أقوالًا مُخفقة وفاشلة؛ وذلك كأن نعِد شخصًا بالقيام بعملٍ ما ونفي به، فيكون وعدُنا قد تحقَّق على وجه ناجح، أو كأن يتعاقدَ مسؤول سياسيٌّ مع المواطنين على برنامجٍ من الوعود ولا يلتزم بها في الممارسة، لكونه بناها على غير مراعاة مقتضياتها الإنجازية المناسبة، فتخفق وعوده ولا تترتب عليها آثار عملية واضحة. تراجع في هذا السياق المحاضرة الأولى والثانية من:

J. L. Austin, Quand dire c’est faire, (1962), tr. fr., Seuil, Paris, 1970.

[18] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، مرجع سابق، ص17-20.

  

 

الكلمات الدلالية