باحثة البادية- خطاب في نادي حزب الأمة
من كتاب "الإسلام والتحديث: مشروعات التجديد في العالم الإسلامي (1840 - 1940م)"
وُلِدت ملك حفني ناصف (مصر، 1886-1918) - التي استخدمت الاسم المستعار باحثة البادية - في القاهرة في عائلة أدبية. وقد شجَّع والدها الذي درس في الأزهر مع محمد عبده (انظر الفصل الثالث) تعليمَ ابنته. تخرجت باحثة البادية في أول مدرسة لتدريب المعلمات في مصر، وهي المدرسة السَّنية، ودرَّست فيها فيما بعد. وفي أيام الجمعة كانت تلقي المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية وغيرها من الأماكن، وقد نشرتها إلى جانب المقالات النسائية في عام 1910، في كتاب النسائيات. والمقال المختار هنا هو إحدى هذه المحاضرات التي أُلقيت أمام مئاتٍ من نساء الطبقة العليا، تناولت فيه أكثر القضايا الاجتماعية حساسيةً آنذاك: وهي تغيُّر العلاقات بين الجنسين، والآثار الرمزية والعملية لملابس المرأة، والحاجة إلى التغيير القانوني في وضع المرأة. وقد شكَّل البرنامج الوارد في نهاية المحاضرة نواة المجموعة الأوسع من المطالب التي أرسلتها في عام 1911 إلى المجلس المصري في هليوبوليس، وهو اجتماع للقوميين (الذكور). ثم أخذت حياتها منعطفًا مفاجئًا، عندما تزوجت من أحد مشايخ القبائل البدوية، وتركت التدريس، وذهبت لتعيش معه في واحة الفيوم غرب القاهرة. واكتشفت هناك أنه متزوج بالفعل - من ابنة عمِّه - وأنه لديه ابنة أراد منها أن تعلِّمها. وقد ظهرت بعض المعاناة التي عانتها ورصدتها في كتاباتها بعد ذلك. وفي عام 1918 توفيت في سنِّ الثانية والثلاثين بعد إصابتها بالأنفلونزا. كان الثناء عليها أول كلمة نسوية تلقيها هدى شعراوي (1879-1947)، مؤسسة الاتحاد النسائي المصري[1].
ملك حفني ناصف
خطاب في نادي حزب الأمَّة
أيتها السيدات:
أحييكن تحية أختٍ شاعرة بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكنَّ، وتجذل بما تجذلن. وأحيي فيكن كرم النفس لتفضلكنَّ بتلبية الدعوة لسماع خطبتي، إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت. فإن أصبت كان ما أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكنَّ، والإنسان يخطئ ويصيب. فمن رأت في خطبتي رأيًا مخالفًا أو أحبَّت المناقشة في نقطة فلتتفضَّل بإبداء ما يعنُّ لها بعد انتهاء كلامي.
أيتها السيدات: ليس اجتماعنا اليوم لمجرَّد التعارف، أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات. وإنما هو اجتماع جديٌّ أقصد به تقرير رأي لنتبعه، ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها. فقد عمَّت الشكوى منَّا، وكثرت كذلك شكوانا من الرجال. فأيُّ الفريقين محقٌّ في دعواه؟ وهل نكتفي من الإصلاح بمجرَّد التذمُّر والشكوى؟ لا أظن مريضًا طاوع أنينه فشفاه.
يقول المثل العربي: لا دخان بلا نار، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: "إن الآراء التي تظهر لنا خطأ لا يمكن أن تكون خطأ محضًا، بل لا بدَّ أن يكون فيها نصيبٌ من الصحَّة والصواب". إذن، فنحن والرجال متساوون في صحَّة الدعاوي وبطلانها. كلنا متظلمون، وكلنا على حقٍّ مما نقول. بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلَّة الوفاق بيننا وبينهم. فهم يعزون هذه الحالة إلى نقصٍ في تربيتنا وعوجٍ في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم. وهذا الاختلاف في إلقاء المسؤولية زادنا اختلافًا في العيش، وأوسَعَ هوَّة الجفاء بين الرجال والنساء في مصر، وهو أمر لا ننظر إليه بعين الارتياح وإنما نأسف له ونتوجَّس منه. لم يخلق الرجل والمرأة ليتباغضا ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى الآخر فيعمر الكون؛ إذ في ائتلافهما بقاؤه. ولو انفرد الرجال في بقعة من الأرض وانعزلت النساء إلى أخرى لانقرض الحزبان وحقَّت عليهما كلمة الفناء. (...)
أظن الرجال لو كانوا محلَّنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهنَّ التمدين.
يقولون إننا بتعلُّمنا نزاحمهم في أشغالهم ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها. فليت شعري: ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا؟ كانت المرأة في العهد السابق تغزل الخيط وتنسج ثيابًا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل والنسيج فأبطلوا عملها من هذا القبيل. وكانت المرأة المتقدِّمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على الرحى بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزًا، فاستنبطوا ما يسمونه (الطابونة) واستخدموا فيها الرجال، فأراحونا من ذلك العمل الكثير ولكنهم عطلوا لنا عملًا ثانيًا. وكانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها، فتفننوا لنا آلةً للخياطة يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال ثم جعلوا منهم خياطين لرجالنا ولأولادنا. كنا نكنس حُجرنا أو تكنسها الخادمات بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير فتنظف الرياش والأثاث. كانت الفقيرات والخادمات يجلبنَ الماء لبيوتهنَّ أو لبيوت سادتهنَّ فاخترع الرجال القصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب. فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله وتذهب لتملأ من النهر وقد يكون بعيدًا؟ أو هل يعقل أن متمدينة ترى خبز (الطابونة) نظيفًا طريًّا لا تتكلَّف له سوى ثمنه، فتتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية لا تتحمَّل تعب تجهيز القمح وعجنه، أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدمٍ له، أو وحيدة لا مساعدة لها عليه؟ أظن الرجال لو كانوا محلَّنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهنَّ التمدين. بل إنهنَّ يستعضن عن الرحى بوابور الطحين، وبعضهنَّ عن الملء من البحر (بطلومبات) يضعنها داخل دورهنَّ.
ولست أريد من قولي هذا أن أذمَّ الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال لتسدَّ كثيرًا من أعمالنا، أو لأقول إنها زائدةٌ عن حاجتنا. وإنما كان هذا الشرح ضروريًّا لبيان أن الرجال هم البادون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في بعض أشغالهم فإن الجزاء الحقَّ من جنس العمل.
على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راق له أن يكون طبيبًا، وعمرو ارتأى أن يكون تاجرًا، فهل يصحُّ أن نذهب للطبيب ونقول له لا تحترف هذه الصناعة، بل كُنْ تاجرًا، وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن يصير طبيبًا؟ كلَّا. فكلٌّ له حرية يفعل ما يشاء، ولا ضرر ولا ضرار. (...)
فإذا كان المخترعون والصنَّاع أبطلوا جزءًا كبيرًا من أعمالنا، فهل نقتل الوقت بالكسل؟ أو نبحث عن عملٍ يشغلنا؟ لا غرو وأننا نفعل الثاني.
ولمَّا كانت أشغال منزلنا قليلةً لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتَّم أن نشغل النصف الآخر بما تميل إليه نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن يمنعنا عنه الرجال بحجَّة أننا نشاركهم في أعمالهم، لا أريد بقولي هذا أن أحثَّ السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل وتربية الأولاد إلى الانصراف لتعلُّم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات! كلَّا، ولكن إذا وجد منَّا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن، فإن الحرية الشخصية تقتضي بأن لا يعارضها المعارضون. يقولون إن الحمل والولادة مما يجبرنا على ترك الشغل، وقد يجعلون ذلك حجَّة علينا. ولكن من النساء من لم تتزوج قطُّ، ومنهنَّ العقيمات اللاتي لا ينتابهنَّ حمل ولا ولادة، ومنهنَّ من مات زوجها أو طلَّقها ولم تجد عائلًا يقوم بأولادها، ومنهنَّ من يحتاج زوجها لمعونتها. وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكنَّ معلِّماتٍ أو طبيباتٍ حائزاتٍ لما يحوزه الرجال من الشهادات. فهل من العدل أن تمنع مثل هؤلاء عن القيام بما يرينه صالحًا لأنفسهنَّ قائمًا بمعاشهنَّ؟ على أن الحمل والولادة إذا كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي، فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضًا. وأي رجل قويٍّ لم يمرض ولم ينقطع عن عمله وقتًا ما؟
ما أظن أصل تقسيم العمل بين الرجال والنساء إلا اختياريًّا، بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل وحواء السعي وراء القوت لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن.
يقول لنا الرجال ويجزمون: "إنكنَّ خُلقتنَّ للبيت ونحن خُلقنا لجلب المعاش". فليت شعري أي فرمان صدر بذلك من عند الله، من أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم يصدر به كتاب؟ نعم، إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال، ولكنَّ اشتغال بعضنا بالعلوم لا يخلُّ بذلك التوزيع. وما أظن أصل تقسيم العمل بين الرجال والنساء إلا اختياريًّا، بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل وحواء السعي وراء القوت لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن، ولَما أمكن أن يحاجنا الرجال بأنَّا خُلقنا لأعمال البيت فقط. وها نحن لا نزال نرى بعض الأقوام كالبرابرة مثلًا يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم، وتتجشَّم نساؤهم مشقَّةَ الزرع والقَلْع، حتى إنهنَّ ليتسلَّقن النخل لجني ثمارها. وها نحن نرى نساء الفلاحين والصعايدة يساعدن الرجال في حرث الأرض وزرعها، وبعضهنَّ يقمن بأكثر أشغال الفلاحة، كالتسميد والدراس وحمل المحصولات ودق السنابل والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي ورفع المياه بما يسمونه بالقطوة وغير ذلك من الأعمال، التي ربما شاهدتها منكنَّ من ذهبت إلى الضياع (العزب) ورأت أنهنَّ يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهنَّ أشدَّاء وأصحَّاء.
فمسألة اختصاص كل فريقٍ بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها. وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقَّة إلا نتيجة قلَّة الممارسة لتلك الأعمال. وإلَّا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدَّةً وبأسًا. أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحَّة والقوة؟ هل ترتبن في أنَّ امرأة من المنوفية تصرع أعظم رجلٍ من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال إننا خُلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير فيه. حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأمريكا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير. ذلك نتيجة استعمالهم لها، وقد توارثوه أيضًا وهم في حاجة إليه؛ لتستمع زئير السباع وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم.
كذلك نجد حواسَّ الوحشيين أقوى من حواسنا بكثير؛ فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد. أما نحن فلا. ولم يكذب من قال: إن الوظيفة تُكوِّن العضو. هؤلاء العميان يعتمدون كثيرًا على حاسة السمع بعد فَقْدِ حاسة البصر، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غايةً قد تُعَدُّ من الخوارق عندنا. فهل بعد أن استبعدنا الرجال قرونًا طوالًا حتى خيَّم على عقولنا الصدأ وعلى أجسامنا الضعف، يصحُّ أن يتهمونا بأنَّا خُلقنا أضعفَ منهم أجسامًا وعقولًا؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا لَما عيَّرونا بأننا قليلاتُ النبوغ، وأنه لم يسمع بإحدانا غيَّرت قاعدةً في الحساب والهندسة مثلًا. وليتفضَّل أحدهم بإخبارنا عمَّا استنبطه من تلك القواعد. أو ليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان الأول إلى الآن، ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين والرومان؟ نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومب لما تعذَّر عليَّ أنا أيضًا أن أكتشف أمريكا.
وحقيقةٌ أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة، ولكن كان منهنَّ النابغات في العلوم والسياسة والفنون الجميلة، أي: فيما سُمح لهنَّ بممارسته، وبعضهنَّ فُقن الرجال في الفروسية والشجاعة، كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر بن الخطاب، وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من أَسْرِ الروم. وجان دراك التي قادت جيش الفرنسيس بعد انكساره أمام الإنكليز، فشجَّعتهم على استمرار القتال، وأَصْلَتْ محاربي وطنها حربًا عوانًا . ولن أضرب مثلًا بالنساء اللاتي تولين المُلك فأحسنَّ سياسته: ككاترينا ملكة روسيا، وإيزابلا ملكة إسبانيا، وإليزابث ملكة إنكلترا، وكليوباتره، وشجرة الدر امرأة الملك الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر، فقد يقول معارضونا: إنه دبَّره لهنَّ الوزراء وهم رجال! على أنه لو صحَّ هذا القول في عهد الدستوريين كالملكة ڤكتوريا مثلًا، أو وولهلمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصحُّ تطبيقه على أيام الحكم المطلق.
الأمَّ مهما تعلَّمت وبأي حرفة اشتغلت، فلن ينسيها ذلك أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة. بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت مسؤوليتها.
إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات، فقول بعضهم بالاقتصار على هذا وذاك مثبط للهمَّة ورجوع للوراء. في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم الآن؛ لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا عن الاستمرار على الدرس الكثير. فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خاليةً منَّا فليقروا عيونًا ولينعموا بالًا، فما يتخوفون منه بعيد. وإذا فُرض أن اشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تُقَلَّد وظيفة أو تشتغل خارجًا، وإنما تفعله لإطفاء شوق النفس للعلم أو الشهرة ولما تفعله. فإذا كنَّا لم نشتغل بالمحاماة ولا بتقلد الوظائف الحكومية، أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟ أظن ذلك مستحيلًا. على أن الأمَّ مهما تعلَّمت وبأي حرفة اشتغلت، فلن ينسيها ذلك أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة. بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت مسؤوليتها . ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكي طفل الواحدة منهنَّ ساعات وهي تسمعه ولا تتحرك؟ فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضًا تحضير القضايا أو الاشتغال بالتحرير والقراءة؟
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلًّا لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لا يتأتَّى إلا من سليمٍ لعليل، أو من جليلٍ لحقير. فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنَّا لنأنف أن نكون أحد هذين. (...)
أما ما أشكل على الرجال من علَّة فسادنا، فهو ما ينسبونه خطأ للتعليم وحقهم أن ينسبوه للتربية. يرى كثيرون أن العلم يهذب، ولكني لا أعتقد ذلك، بل أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط. ودليلي على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم. وأن الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فريقين كل على حدة، فتتعلم الفرقتان الكتاب، ولكن نجد أثر الهمَّة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية. فهذا ناشئ من تأثير روح المعلم في تلاميذه، لا من العلم، وإلا فلو كان من العلم لتساوت الفرقتان؛ لأن الكتاب واحد، والعلم لا يختلف.
يظنُّ بعض الناس أن حسن التربية معناه تقبيل أيدي الزائرات، وتكتيف اليدين خضوعًا. ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة! التربية الحسنة هي التي تؤهل الشخص لأن يدرك نفسه من سواه، وما أحزم من قال: "ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه".
التربية الحسنة هي التي تعوِّد الإنسان من صغره احترام الغير، إذا استحقَّ الاحترام، حتى ولو كان عدوًّا. فالتعلُّم لم يفسد أخلاق الفتيات، وإنما هي التربية الناقصة. تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة، ولمَّا كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال، فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا؛ لإصلاح شأن أنفسنا أولًا ثم إصلاح النشء. ولا يتمُّ ذلك في لحظة كما قد يتوهَّم. ومن الظلم أن نلقي مسؤولية الفساد كلها على المدارس، فإن المدارس لها تأثير في التربية، ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأُسر.
ومن عيوبنا نحن النساء، أننا لا نكترث كثيرًا بالنُّصح. فإذا قامت سيدة تريد تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة، قال أكثرنا: ما لها ولهذا؟ أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا، وغير ذلك من الألفاظ.
ومن عيوبنا السخرية والتهكُّم، فكثير منَّا تنتقد من تصادفه، وتعيب عليه لا لعيب حقيقيٍّ يستدعي الانتقاد، ولكن لولوعٍ بالانتقاد في ذاته. (...)
يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات وحق لهم؛ لأننا خرجنا عن المألوف والجائز. نحن نزعم أننا نحتجب، ولكنا ما بلغنا حجابًا ولا بلغنا سفورًا. لا أريد أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصحُّ أن يُسمَّى وأدًا لا حجابًا. فقد كانت السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها، لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة على الأعناق. ولا أريد سفور الأوروبيات واختلاطهنَّ بالرجال فإنه مضرٌّ بنا.
إن نصف إزارنا السفلي اليوم مِرْط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب، ولا مع معناها، ولا مع الحكمة منه. أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدَّم قصر. كان الحجاب الأول قطعة واحدة تلتفُّ بها المرأة، فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ عليه تكمُّش بسيط، ولكنه كان واسعًا يكفي لستر الجسم، ثم تفنَّنا فيه فصرنا نضيق وسطة ونقصر رأسه. وأخيرًا فُصِّل له كُمَّان، وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف الرأس أو أكثره، فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس. أما البرقع فأشفُّ من قلب الطفل. ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم والملابس، والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا مع المئزر الحالي وقد أصبح (فستانًا) يُظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلًا عن أن بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيًّا وأحمر؟ الأَوْلى أن لا نسميه مئزرًا، بل (فستانًا بطرطور)، فإنه في الحقيقة كذلك. وعندي أن الخروج بدونه أدلُّ على الحشمة؛ لأنه على الأقل لا يسترعي النظر.
على أنَّ مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمَّة، فإذا كان تفنُّن بعضنا هذا يراد به التحيل على الخروج بلا إزار، فليس عليهم فيه من حرجٍ إذا كشفن وجوههنَّ بشرط ستر الشعر والجسم. وأرى أن أوفقَ لباس للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو) - المسمَّى cache poussiere عند الفرنجة - على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل الكمَّين إلى المعصمين. وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما روت لي إحدى السيدات، للخروج إلى المحلات القريبة. ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه حتى نمسخه (فستانًا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح.
لو أننا متربياتٌ من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له، لأقررت بالسفور لمن تهواه. ولكن مجموع الأمَّة غير مستعدٍّ له للآن. وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يُخشى من اختلاطهنَّ بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضًا؛ لأننا سرعان ما نقلد، وقلَّ أن نبحث عن حقيقتنا فيه. ألا ترين أن تيجان الماس أصلها للملكات والأميرات، فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات؟ (...)
على أن تفنُّننا في المئزر الحالي هو ذاته تقليد للأوروبيات، ولكنا فُقناهنَّ في التبرج، فإن المرأة منهنَّ تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس ما شاءت في البيت أو في السهرات. ولكننا بخلاف ذلك نظل أمام أزواجنا بجلبابٍ بسيطٍ جدًّا، ثم إذا خرجت إحدانا عمدت إلى أحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها بالمصوغات، وأفرغت عليها زجاجات العطر الطيب. ويا ليتها تقتصر على ذلك، بل تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان، وتصبغه بمختلف الألوان، وتتكسَّر في مشيتها كأنها الخيزران، فتفتن المارة أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها فتنتهم. إني واثقةٌ أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهنَّ خاليات الذهن من سوء القصد. ولكن من أين للرائي أن يتبيَّن حُسن نيتهنَّ، ومظهرهنَّ لا يدلُّ عليه؟
حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا. ويجب أن لا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون مساعدًا على فساد صحتنا أو سببًا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو رحبة طلقة الهواء، وكنت فرغت من العمل، وأحسست من نفسي بمللٍ أو كسلٍ: فلمَ لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل ولم يحبسه في صناديق مكتوب عليها (خصوصي للرجال)؟ وإنما يجب أن نختار الاعتدال، وأن لا نخرج للنزهة وحدنا؛ اجتنابًا للقيل والقال، وأن لا نمشي الهوينا وأن لا نلتفت يمنة ويسرة. وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس غير الموجود لها عينة يمكن جلبها للمنزل، فلمَ لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني، أو يدعني أشتري ما أريد؟
إن حَبْسَ المصرية السالفة تفريطٌ، وحرية الغربيين الآن إفراطٌ. ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسطٌ بين الطرفين.
وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلًا، فهل أختار الجهل أو السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلِّمات؟ على أنه ليس هناك ما يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنُّع والاستفادة منه. وهل نحن في إسلامنا أعرق أصلًا من السيدة نفيسة والسيدة سكينة رضي الله عنهما وقد كانتا تجتمعان بالعلماء والشعراء؟ وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب لا يمكن لإحدى النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض وقد يكون خفيفًا فيعضل بالإهمال، أم أستشفيه فيشفيني؟ إن حَبْسَ المصرية السالفة تفريطٌ، وحرية الغربيين الآن إفراطٌ. ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسطٌ بين الطرفين، ولم تخرج عمَّا يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجدِّ والاحتشام.
بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مُرٌّ، وأعدهما تطرفًا ممقوتًا واستماتةً في تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب أن لا تغير إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية لا يقبلها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها. فأي صلاحٍ لنا من محاضرة الرجال والنساء ورقصهم معًا؟ أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين) بصدور عارية، يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح)؟ إن ذلك منافٍ للدين الإسلامي، هادمٌ للفضيلة، مدخلٌ لضار العادات بيننا. فعلينا أن نحاربه ما استطعنا، ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات، اللاتي إذ شجعناهنَّ بسكوتنا، فإنهنَّ لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
وعلى ذكر الحجاب والعادات، أذكركنَّ بمسألة تئنُّ منها السعادة، وتكاد تندثر في بيوتنا. تلك هي مسألة الخطبة والزواج. يرى أكثر عقلاء الأمَّة أن لا بدَّ للخطيبين من الاجتماع والتكلُّم قبل الزواج. وهو رأي سديد لم يكن النبي ﷺ والصحابة يفعلون غيره، وهو مُتَّبع عند جميع الأمم بأسرها والأمَّة المصرية أيضًا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن. إذا ائتلف العروسان عندنا فهو من محاسن الاتفاق (الصُّدف). وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم يَرَ أحدهما الآخر ولم يختبره على أن يقضيا العمر معًا؟ إنَّ إحدانا إذ اتفق ورأت عرضًا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها، فإنها لا تصبر على مجالستها فضلًا عن النظر إليها، وتسرع بالتملُّص منها. فكيف تصبر على مضض الحياة إذا استثقلت أيضًا بَعْلَها، وهي لم يمكنها التصبُّر على ثقل الغربية لحظة واحدة في غير بيتها؟ يشير قوم باتباع خطَّة الغربيين من وجوب معاشرة الخطيبين زمنًا، ليتمكَّن كلاهما من استطلاع طلع صاحبه. ولكني أصرح باستهجان هذه العادة، وأعتقد أنها مبنيَّةٌ على وَهْمٍ، لا على أساسٍ متين. إذ من نتائج معاشرة المتشابهين الأُلفة ومن الألفة الحب. وإذا أحبَّ الإنسان شخصًا لم يَرَ عيوبه ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حبٍّ باطل وعلى غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتفشل ريحهما. إنما الطريقة التي أودُّ عرضها على مسامعكنَّ هي أن يتراءى العروسان ويتكلَّما بعد خطبة النساء المتبعة، وقبل العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها، وتكون في أبسط لباسها.
قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعًا واحدًا أو اثنين أو أكثر قليلًا لا يكفي لأن يقف الواحد على أخلاق الآخر. ولكنها على أي حالٍ كافية لأن يشعر الواحد باجتذاب دَمِ الآخر له أو لا. على أن من صدقت فراسته يمكنه تبيُّن الأخلاق من العينين ومن الحركات والسكنات، فيتبيَّن إن كان صاحبه متصنعًا أو طائشًا أو غير ذلك. أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما، فيجب أن يسأل عنها من المعارف والجيران والخدم وغيرهم. وخوفًا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق تلك الطريقة ذريعةً لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج، يجب على الوليِّ أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبيَّن الجدَّ من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته أو موكلته. (...)
وما الفائدة من تعلُّمنا إذا كنَّا لا نستطيع تغيير عادة مضرة، لا هي من الدين ولا من الحكمة؟ وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة، تكاد تقتلعها صرصر تلك العادة العاتية؟ (...)
إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثيرًا منهم إلى الأوروبيات، فيتحمَّل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها، على أن يقترن ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت). (...)
فإذا لم نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا، لم نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضًا، فنقع في احتلالين: احتلال الرجال واحتلال النساء. وثانيهما شرٌّ من أولهما؛ لأن الأول إذا كان حصل على غير رضانا، فإن الثاني جلبناه بأيدينا.
والنساء شديدات التعلُّق بالأقارب، فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهنَّ أخاها وأباها وابن خالتها وصاحبها حولها، فيفسدون ما بقي لرجالنا من موارد الرزق. (...)
إنَّ أغلب رجالنا الذين تزوجوا منهنَّ يئنون ويصرخون من تبذيرهنَّ واتباعهنَّ أهواءهنَّ، فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنسٍ أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلَّت رئيسةً له يعمل بإشارتها، وحسبت أنه ملزم بالإنفاق على ما تشتهي وجلبه لها ولو كان في الصين. فهي مدبِّرة مع الغربي مسرفة مع المصري. (...)
إننا في كثيرٍ من أمورنا نسير وفق ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون ظلمًا لنا ولا إجحافًا بحقوقنا.
وبفرض أنَّ الزوجة الشرقية الراقية نقصت قليلًا عن أختها الغربية، فلماذا لا يرشدها بَعْلُها إلى مواضع خطئها بالرفق، ويريها ما يحب وما لا يحب؟ وإنَّ أحبَّ شيء عند الزوجين المتحدين أن يبذل أحدهما وسعه ليرضي الآخر. فانصراف شبابنا لتلقي العلوم الحديثة بأوروبا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها، فكما يتعلمون لنفع أنفسهم يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضًا. وإلا فلو اتبع كل واحد يرى عيبًا في صاحبه طريقة هؤلاء الشبان لما كان لأحد من أهل بلده خليل، "ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟". فواجبهم الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه صالحًا في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان، فصانع الحرير الوطني إذا رأى معامل أوروبا وسرعتها، وجب أن يشتري الآلات اللازمة لسرعة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضي على صناعته الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلًا وأبطل آخر. فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربيٍّ قضينا على مدنيتنا، والأمَّة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة. فشبابنا يدعون أنهم يأتون بنساء أوروبا، لأنهم رأوهنَّ أرقى من نساء مصر؛ إذن يجب أن يحضروا لنا تلاميذ أوروبا، لأنهم أرقى من تلاميذ مصر، وعمَّال أوروبا لأنهم أرقى من عمَّال مصر؛ لأن النظرية واحدةٌ، فماذا تكون الحال لو تمَّ ذلك؟ وهل إذا سافرت زوجة مصرية لأوروبا، ورأت الأطفال هناك أجمل بشرة وأحلى منظرًا من مثلهم في مصر، أيصح أن تترك أولادها وتأتي بغيرهم من الغربيين؟ أم تجتهد لتجميلهم وتقريبهم من الشكل الذي أعجبت به؟ وإذا كانت أحطُّ فتاة غربية تتزوج مصريًّا يتبرأ منها أهلها، أفنرضى نحن عنها وقد شغلت محلَّ فتاة منَّا، وصار زوجها مثالًا لغيره من الشبان؟ أنا أول من يعجب بنشاط المرأة الغربية وإقدامها، وأول من يحترم من تستحقُّ الاحترام منهنَّ. ولكن يجب أن لا ينسينا احترام الغير منفعة الوطن، والمصلحة العامَّة فوق الإعجاب. وإننا في كثيرٍ من أمورنا نسير وفق ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون ظلمًا لنا ولا إجحافًا بحقوقنا. (...)
إن معتقداتنا وأفعالنا كانت سببًا عظيمًا في قلَّة احترام الرجل إيَّانا. أيعتبر رجل عاقل امرأةً تعتقد في السِّحْر والشعوذة وكرامة الأموات، وتجعل من الدلالات والبلانات بل ومن الشياطين عليها سلطانًا؟ أيحترم المرأة ولا حديث لها إلا (فساتين) جارتها، ومصوغات صاحبتها، وجهاز فلانة، وأخبار علانة؟ هذا فضلًا عمَّا انطبع في ذهنه من أن المرأة أضعفُ منه وأقلُّ ذكاءً. إن تهاوننا في هذه النقطة اعتراف بأن حالتنا مرضية، فهل هي كذلك؟ وإذا لم تكن، فماذا يرقينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعلُّم الصحيح. فإذا حسنت تربيتنا وتعلَّمنا علمًا حقًّا لا قشور بعض اللغات الأجنبية و(دو ري مي فا سول). والعلم يشمل أيضًا تدبير المنزل والصحَّة وتربية الأطفال. وإذا تركنا الخلاعة في الطريق جانبًا، وإذا أثبتنا لأزواجنا بحسن سلوكنا وقيامنا بواجباتنا حقَّ القيام أننا آدميات نشعر، وأن لنا نفوسًا لا تقلُّ عن نفوسهم، فلا نسمح لهم بحالٍ من الأحوال بإيلام شعورنا أو بالاستهانة بنا. إذا فعلنا كل ذلك، فمن أين يجد الرجل العادل طريقًا لاحتقارنا؟ أما غير العادل فكان حريًّا بنا لا نقبل الزواج منه.
يرقينا أن نطرح الكسل أرضًا، فإنَّ عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على (الشلتة) كل النهار. أو الخروج للزيارات، كأن ردَّ فعل القعود أدار لولب أرجلنا، ونفخ في شراع حبرنا فلم نقوَ على ضبط جماحنا. والتي تعرف القراءة منَّا ففيمَ تقضي أوقات فراغها؟ في قراءة الروايات فقط. فهلَّا قرأت قانون الصحَّة أو بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟ إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا، فيجب أن نبحث لنا عن عملٍ نزاوله في منازلنا. والمتأمل يرى لأول نظرة أن الطبقات العاملة هي الأسلم صحَّةً والأكثر نشاطًا والأنجب نَسْلًا. ألا ترين إلى أولاد (الذوات) فأكثرهم مرضى أو نحفاء يتأثرون بأقل العوارض، مع ما يبذل له آباؤهم من الاعتناء بهم، بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلًا، فإنهم في إهمالٍ شديدٍ من والديهم. العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدَّم ويقوِّي العضل ويبعث على النشاط. (...)
بقي علينا أن نبيِّن الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه. ولو كان لي حقُّ التشريع، لأصدرت اللائحة الآتية:
المادة الأولى: تعليم البنات الدين الصحيح، أي: تعاليم القرآن والسُّنة الصحيحة.
المادة الثانية: تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم الأوَّلي إجباريًّا في كل الطبقات.
المادة الثالثة: تعليمهنَّ التدبير المنزلي علمًا وعملًا، وقانون الصحَّة وتربية الأطفال، والإسعافات الوقتية في الطب.
المادة الرابعة: تخصيص عددٍ من البنات لتعليم الطب بأكمله، وفن التعليم، حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
المادة الخامسة: إطلاق الحرية في تعلُّم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
المادة السادسة: تعويد البنات من صغرهنَّ الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
المادة السابعة: اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.
المادة الثامنة: اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
المادة التاسعة: المحافظة على مصلحة الوطن، والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
المادة العاشرة: على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
الهوامش
المصدر: باحثة البادية، خطبة خطيبة مصرية على النساء، في مجلة المنار 12|353؛
Ali Badran and Margot Badran, in Margot Badran and Miriam Cooke, eds., Opening the Gates: A Century of Arab Feminist Writing (Blooming-ton: Indiana University Press, 1990), pp. 228–238.
والمقدمة منقولة من المصدر السابق.
[1] Soha Abdel Kader, Egyptian Women in a Changing Society, 1899–1987 (Boulder, Colo.: Lynne Rienner, 1987), pp. 64–68; Leila Ahmed, Women and Gender in Islam (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1992), pp. 179–185;
Margot Badran, Feminists, Islam and Nation: Gender and the Making of Modern Egypt (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1995); Beth Baron, The Women’s Awakening in Egypt (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1994);
عبد المتعال محمد الجبري، المسلمة العصرية عند باحثة البادية (القاهرة، مصر: دار الأنصار، 1976)؛ مي زيادة، باحثة البادية (القاهرة، مصر: مطبعة المقتطف، 1920).