الشريعة والعلمانية والدولة نحو آفاق جديدة
تُعَدُّ مسألة «العلمانية والشريعة» اليوم الناظمَ المركزي لطائفة واسعة من النقاشات النظرية والانقسامات الأيديولوجية حول الدولة تعريفًا ووظيفة، وتبرز خطورة هذه المسألة في العالم العربي الإسلامي عند كلّ منعطف سياسي وثقافي، إذ تعاود الحضور باستمرار بوصفها حقلًا خلافيًّا تثور فيه النقاشات -بل والصراعات- حول معاني المرجعية والهوية والإرث الحضاري، وحول قضايا الحقوق والحريّات والتعاقد الاجتماعي. ليست مسألة العلمانية والشريعة إذن مجرّد مسألة قانونية أو حتى سياسية، بل هي مسألة ذات أبعاد فلسفية وديانية عميقة، وذات تداعيات فقهية وفكرية واسعة، كما أنها ليست مسألة يسهل نقاشها فكريًّا دون استحضار تاريخ القوى والتحوّلات التي أبرزت المبدأ العلماني وصاغت معالم التحوّل العالمي، ثمّ الإسلامي والعربي في القرنَيْن الماضيين على مستوى الدولة والمجتمع.
عرفت العلمانية في صيغها النظرية وتجاربها التاريخية تنويعة من الخيارات تتفاوت في تحديد موقع الدين من المجال السياسي العام، كما أن الفرقاء والأطراف (إسلاميين وعلمانيين) قد عرفوا تنويعة من الخيارات حول «طبيعة الدولة» تمتدّ على طول تدريجات الطيف الإسلامي-العلماني. ولا شكّ أن التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية في العقد الماضي قد قدَّمت دروسًا عديدة للقوى السياسية وللباحثين والمفكّرين حول أبعاد سؤال العلمانية وموقع الدين وإمكانية الإجماع على الدولة بين الفرقاء، وإذا كان هذا المستجد يستدعي إعادة النظر في هذه المسألة لتجديد زوايا النظر وتحديد مكامن الخلاف، فإن التحولات العالمية الجارية المتمثّلة في صعود الشعبوية وسياسات اليمين البديل قد أبرزت هي الأخرى وقائع سياسية جديدة وأعادت بعث النقاش حول المسألة الدينية والسياسية عالميًّا.
ضمن هذه السياقات، وضمن اهتمام مركز نهوض للدراسات والبحوث الأكيد بأسئلة النظرية السياسية والاجتهادات الإسلامية حولها، جاءت دعوة المركز للباحثين للإسهام في الملف البحثي المعنون بـ«الشريعة والعلمانية والدولة: نحو آفاق جديدة».
وسعيًا إلى تأطير النقاش وإبراز الأبعاد المتشعِّبة لمسألة العلمانية والشريعة والدولة، صاغت الهيئة العلمية في مركز نهوض ورقة مرجعيّة تتناول الطبيعة المركّبة لأسئلة العلمانية والشريعة كما تلقي الضوء على السياقات التاريخية التي رسمت ملامح السؤال الكبير للاستعصاء السياسي العربي الإسلامي.
كما اقترح المركز جملة من المحاور البحثية التي تجاوب معها الباحثون، فجاء المحور الأول بعنوان: «التحديث العلماني» ليتناول بالتحليل لحظة التحوّل القانوني والمؤسسي في نظام الدولة، ويدرس مجالات التحوّل في المنظومة السياسية والاجتماعية والقانونية، وليتوسّع في بيان آثار تراجع منظومة «الشريعة» وسطوع نجم «العلمانية» بوصفها مبدأ سياسيًّا للتحديث، وما رافق هذا التحوّل على صعيد استبدال النخب والمدونات القانونية والبنى الاجتماعية وغيرها. وانتظمت في المحور ورقتان متكاملتان تتناولان أحد أكثر أمثلة هذا التحوّل مركزيّة وحساسيّة، ألا وهو التحوّل في الفضاء العثماني في القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، فتناولت ورقة د. إسمى مهيبل «التنظيمات الخيرية في الدولة العثمانية (1839 – 1876م): دراسة في أول إحلال للقوانين العلمانية محل الشريعة وأثره في الدولة العثمانية» حيثيات عملية إحلال القوانين العلمانية محلَّ القوانين المستقاة من الشريعة، وتعمّقت في تعليل أسباب هذه العملية وتحليل آثارها، متسائلة عن النتائج البعيدة لعصر التنظيمات على مستوى كفاءة جهاز الحكم وعلاج مشكلة الأقليات. أما بحث الأستاذ خالد أبو هريرة الذي جاء بعنوان شيّق «من مكتب إلى أوكول: التعليم والسلطة وجذور العلمانية في تركيا الحديثة» فقد جاء مكمّلًا لبحث د. إسمى، إذ تناول دور الجهاز التعليمي في إنتاج المواطن والذات الفرديّة، ودرس باستفاضة عملية استبدال نخبة الحكم بنخبة جديدة تلقَّت تعليمها بعد إنشاء المدارس الحديثة.
أما المحور الثاني فجاء بعنوان: «العلمنة والدين والديمقراطية» ليتناول سؤال موقع الدين والحركات الدينية من المنظومة الديمقراطية، ويبحث في طبيعة العلاقة بينهما. واخترنا في هذا المحور مادّتَيْن، الأولى: فصل مُترجم بعنوان «نموذج العلمنة» من كتاب «أقنعة الدين السياسية: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة» لمؤلّفه د. لوقا أوزانو، حيث يُقدِّم هذا الفصل مسحًا شاملًا لتطوّرات نطرية العلمنة وتصوّرها عن موقع الدين من الفضاء السياسي، وما شهدته بواكير الحداثة السياسية من تصوّرات تنادي بضرورة استبعاد الدين عن المجال السياسي وخصخصته في المجال الفردي بوصفه شرطًا للتحديث والدمقرطة، ثمّ ما أعقب ذلك من نظريات معاصرة أخذت تُعيد رسم هذه العلاقة مكتشفة مع الوقت صعوبة وضع حدّ فاصل واضح بين ما هو «ديني» وما هو «علماني». أما الورقة الثانية في هذا المحور فقد جاءت بعنوان مثير «هل تُعدُّ الحركات الإسلامية السياسية حركات متعلمنة؟»للدكتور محمد عفان، وتبدأ الورقة بسبر أبعاد مفهوم العلمانية وإشكاليّات التعريف، ثمّ تنتقل إلى رصد وتحليل سمات التحوّلات البارزة في خطاب الحركات السياسية الإسلامية الحديثة وممارساتها، وتناقش ظهور نمط من العلمنة الكامنة في تصورات حركات «الإسلام السياسي» وأولوياته.
ثمّ يأتي المحور الثالث في هذا الملف ليتناول واقع وتاريخ تلقّي العلمانية في العالم العربي والإسلامي، والتفاعل الفكري اجتهادًا ونقدًا وتبيئة مع هذا المفهوم، وقد جاء المحور بعنوان: «اجتهادات عربية وإسلامية». ويُمكن إجرائيًّا تقسيم المحور إلى محورَيْن فرعيَّيْن، يتناول الأول رصد عملية التلقّي وما صاحبها من تفاعل، وأولى الأوراق في هذا المحور هي ورقة د. حسام الدين درويش بعنوان «في العلمانية والعلمانوية في العالم العربي-الإسلاماتي: جريدة «نفير سورية» لبطرس البستاني». إذ تُناقش هذه الورقة سياق حضور العلمانية والموقف العلمانوي في «نفير سورية»، التي تُعَدُّ نصًّا رائدًا ومبكّرًا يكشف عن طبيعة المفهوم ودلالاته الأولى في التلقّي العربي، وتُقدِّم الورقة أيضًا شقًّا مفاهيميًّا غنيًّا، وتوفّر عدّة نقديّة ضرورية للتعاطي مع مفهوم العلمانية ومشتقّاته. أما الورقة الثانية فتأتي بعنوان «مقاصد أم شريعة؟ العلمانيّة والإصلاح الإسلامي والأخلاقيّات في تركيا الحديثة» لآيدوغان كارس، بترجمة د. محمد الحاج سالم، حيث تتناول هذه الورقة موقع الاهتمام بمقاصد الشريعة في النقاشات الدائرة منذ الخمسينيات في تركيا، وعلاقة هذه النقاشات بأسئلة العلمانية والإصلاح الإسلامي. وإضافة إلى الأهمية المتمثّلة في تقديم هذه الورقة خريطة بأهمّ الاتجاهات والتيارات الفكرية في الساحة التركيّة، فإنها تُقدِّم مفارقة تُثير الاهتمام في اختلاف الدور الذي تؤدّيه مباحث «مقاصد الشريعة» في كلّ من تركيا والعالم العربي.
أما المحور الفرعي الثاني ضمن محور «اجتهادات عربية وإسلامية»، فيتناول مقاربات فكرية وشرعيّة جديدة للتعاطي مع السؤال المركزي للملف، وهو العلاقة بين الشريعة والعلمانية. وفيه ورقة مترجمة للبروفيسور شيرمان جاكسون بعنوان «العلماني الإسلامي: أو الإسلام خارج الحكم الشرعي»، بترجمة عمر شاهين، وفيها إسهام جريء حول ما يرى جاكسون أنه مساحة أصيلة تركتها نصوص الشريعة للتقدير البشري للمسلم دون أن يعني ذلك خروجها عن المعنى الواسع للعبادة. كما يضمّ هذا المحور ورقة للدكتور محمد الرحموني بعنوان «قراءة في علمانية هشام جعيط: نعم لعلمنة الشريعة، لا لعلمنة الدولة!»، حيث تعمد الورقة إلى تتبع موقف جعيّط من العلمانية وتطوّر صيغ هذا الموقف، كما تحاول رفع الالتباس عمّا يبدو غموضًا داخليًّا في موقف جعيط، مع قراءة نقديّة للجذور البعيدة لهذا الموقف.
يأتي المحور الرابع في الملف بعنوان: «عصر الشعبوية» ليتناول تحولات موقع الدين ونظرية العلمنة في عصر بروز القادة والأحزاب الشعبوية على امتداد العالم (من الصين والهند شرقًا إلى فرنسا والولايات المتحدة غربًا). ويضمّ هذا المحور ورقة مترجمة لجوزيه بيدرو زوكيتي، الزميل الباحث في معهد العلوم الاجتماعية في جامعة لشبونة بعنوان «الشعبوية والدين»، بترجمة إسلام أحمد، حيث تقدّم الورقة قراءة شاملة وتصنيفيّة لأدبيات دراسة الدين والشعبوية وتتناول بالفحص المعمّق الأبعادَ الدينية والرمزية والهويّاتية من السياسات الشعبوية، الأمر الذي يُعيد تثوير التصوّرات المبسّطة عن مبادئ «علمانية» الدولة وحياديّتها.
أخيراً، نُقدّم في ختام الملفّ ثلاثة حوارات نقدية، الأوّل: مع البروفيسور أحمد كورو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية سان دييغو في الولايات المتحدة، حيث تطرّقنا في الحوار إلى أعماله حول تنوّع التجارب العلمانية الغربيّة، وحول قراءته الجديدة للتاريخ الإسلامي وما يراه مستقرًّا فيه من تمايز مؤسساتي بين مؤسسة السلطة السياسية والمؤسسة العلمائية، كما طرحنا عليه العديد من الأسئلة حول تحوّلات المشهد العالمي وظاهرة صعود اليمين الشعبوي وما تُمثّله هذه الظاهرة من تحدٍّ لمبدأ العلمانية والحياد الديني في التجربة الغربية.
أما الحوار الثاني: فيأتي مع الأستاذ حسن أبو هنية، الباحث والخبير في مجال الحركات الإسلامية وتحوّلات الحركات الاجتماعية، حيث يتناول الحوار السياق التاريخي لدخول العلمانية إلى العالم العربي، وصلتها الوثيقة بالمشروع الاستعماري وهيمنته الثقافية، كما نتناول تفاعلات الحركات والخطابات الإسلامية مع هذه الثنائية (الإسلامي-العلماني)، التي حكمت النقاش النظري حول الدولة والقانون في العالم العربي منذ عقود، كما نحاول أن نستشرف تحوّلات هذه العلاقة في ظلِّ الموجة الشعبوية العالميّة وآثارها البعيدة.
إذا كان مدخل السياسة المقارنة الذي يُقدّمه البروفيسور كورو يؤول إلى القول بإمكانيّة التوافق بين العلمانية الناعمة وبين الإسلام، فإنّ المقاربة ما بعد الاستعمارية التي يقدّمها الأستاذ أبو هنيّة تؤول إلى نفي هذه الإمكانيّة وإلى إبراز أوجه الأختلاف بين منظومة الشريعة ومنظومة الحكم العلماني.
وأخيرًا، يأتي الحوار الثالث مع البروفيسور وائل حلاق، أستاذ الأخلاق والقانون والفكر السياسي في جامعة كولومبيا، حيث يدور الحوار الذي أجراه معه الأستاذ عثمان أمكور حول كتابه "الدولة المستحيلة" وما أثاره من عاصفة من الجدل والنقد والتفاعل عربيًّا وعالميًّا، ويتناول الحوار مختلف المسائل التي طرحها الكتاب وألوان تلقّيه عربيًّا، وما أثاره من ردود أو اعتراضات، كما يضيء الحوار على مسار أعمال البروفيسور حلاق ومشاريعه القادمة.
إننا نأمل أن تسهم هذه المقاربات على تنوّعها، وعلى اختلاف مآلاتها ونتائجها، في الكشف عن التضاريس المتنوّعة لجغرافيّة سؤال العلمانية والشريعة والدولة الذي وضعناه عنوانًا لهذا الملف البحثي، ونرجو أن يجد فيه القرّاء والباحثون والأساتذة ما يُثِير ساكن الفكر، ويطوّر طرائق المعالجة في تناول هذا السؤال المركزي في تقرير مستقبل كلّ نظرية وممارسة سياسية لبلادنا.