العلمانية والإصلاح الإسلامي والأخلاقيات في تركيا الحديثة

العلمانية والإصلاح الإسلامي والأخلاقيات في تركيا الحديثة

يوضِّح هذا المقال دور مقاصد الشريعة في النقاشات الدائرة في تركيا الحديثة، وخاصةً لدى حركات الإصلاح الإسلامي. وبالنظر إلى الأهمية المتصاعدة والدور المحوري للخطاب المقاصدي في السياقات الإسلامية خارج تركيا، فإننا نطرح هنا فرضيةً مفادها أن الأدبيات التركية حول مقاصد الشريعة تبدو جديدة نسبيًّا ومُغرِقة في التجريد والأكاديمية، بل هي مناهضة للإصلاح، وهو ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع التوظيف التقليدي لمقاصد الشريعة في خدمة مشاريع الإصلاح.

فطوال المائة عام الماضية أو نحو ذلك، كان خطاب مقاصد الشريعة -وإن اختلف في فهمها وتصورها- يُعبر عنه في الغالب من قِبَل مختلف الفاعلين بوصفه دافعًا للتغيير أكثر منه دافعًا لما نُسميه «المشاريع الإصلاحية الحديثة» التي نُظر إليها عمومًا -على عكس المفاهيم التقليدية المقبولة مثل «التجديد» و«الإصلاح»- على أنها مشاريع منفصلة عن التراث الفقهي الشرعي الغني، بل هي تعمل ضده بشكل مباشر. وعلى المنوال نفسِه، فإن السمة المميزة لإحدى أكثر المقاربات انتشارًا لخطاب المقاصد في تركيا اليوم هي تصويره باعتباره الصوت الأصيل المنافح عن الشرع والمناهض للمقترحات الإصلاحية، وما يكيله من نقدٍ عميقٍ لفكرة «الإصلاح» الذي يُفهم حرفيًّا على أنه إعادة تشكيل الدين من خلال إعلان التراث القانوني الإسلامي التقليدي فائضًا عن الحاجة، إن لم يكن عقبة أمام الإصلاح الهادف.

ويتطلَّب فهم التاريخ المحلي المحدد لمقاصد الشريعة في تركيا تفكيكَ الروايات الوصفية وإعادة النظر في المفاهيم الشاملة التي تبدو «كونية»، مثل «الإصلاح» و«الشريعة» و«الإسلام»، التي عادةً ما تُوظَّف بطريقة غير نقدية. ويقدِّم هذا المقال مفاهيمَ مختلفةً وغير متوافقة في كثيرٍ من الأحيان لهذه المصطلحات لشرح المناخ الفكري الذي تدور فيه مناقشات مقاصد الشريعة المعاصرة. ذلك أنه بقدر ما يُوجد من «إسلامات» و«شرائع»، ومن مقاربات للقانون ولفكرة «الإصلاح»، فإن الآثار المترتبة على النقاشات حول خطاب مقاصد الشريعة في تركيا خصبةٌ بشكل مذهل.

المناخات الحديثة والمناظرات حول مقاصد الشريعة

لم يزدهر خطاب مقاصد الشريعة الواعي في تركيا -باستثناء جهود فردية قليلة- إلَّا بعد خمسينيات القرن الماضي على أيدي علماء دين وأكاديميين وُلدوا في رحاب الفكر القومي العلماني. وحين ظهور هذا الخطاب، كان نموذج التحولات الاجتماعية والقانونية والسياسية للإمبراطورية العثمانية (ح 1298-1923م)، وحتى لجمهورية تركيا نفسها، قد شارف في معظمه على الاكتمال. وكانت الأسباب الأساسية لندرة المقاربة القانونية لمقاصد الشريعة في هذه العملية هي:

(1) بروز تصورات غير قانونية -وخاصةً روحية- لمقاصد الإسلام والحكمة الإلهية.

(2) وجود أدوات فقهية قانونية بديلة وتوظيفها بشكل فعَّال.

(3) ولادة إصلاح إسلامي للسلطة التشريعية التقديرية في صفوف النخبة الحاكمة وداخل فضائها العلماني نسبيًّا، أي على يد دولة لم تكن في الواقع تعتمد كثيرًا على الخطابات الدينية من أجل ممارسة الحكم.

ومن خلال الاستناد بقوة على نظرية الدولة المستدامة التي أعطت وكلاء الإصلاح صلاحيات التدخل والإشراف على النظام الديني، والتأكيد الشعبي الدائم على حقيقة الدين وحكمته أكثر من «قشرته»، أي الشريعة، أصبح من الممكن علمنة النظام السياسي والقانوني وتحديثه بالكامل دون التطرُّق إلى أدوات الإصلاح القانوني الداخلية. وبدلًا من ذلك، ترافقت الإصلاحات المتأخرة للإمبراطورية العثمانية مع طلاق تدريجيّ بين الأخلاق والقانون، مما أوجد ثلاثة مفاهيم مختلفة للشريعة:

(1) مفهوم أخلاقي قانوني للشريعة لا ينفصل عن الإسلام، وهو السائد.

(2) حصر الشريعة في نظام قانوني منفصل عن الحداثة.

(3) حصر الشريعة في مدوَّنة أخلاقية زائدة عن حاجة الإسلام.

وهذه التصورات الثلاثة للشريعة هي التي تحدِّد المجال الخطابي الذي تتردَّد فيه خطابات مقاصد الشريعة في تركيا.

وتشمل النقاشات التي تدور حول الإسلام في تركيا المعاصرة العديدَ من الفاعلين من مختلف الجماعات العِرقية والطائفية والسياسية. فهي تضمُّ جماعات وحركات سُنية مختلفة (منها الجماعات النورَسية، وأشهرها حركة فتح الله غولن)؛ والجماعات الصوفية، وأبرزها النقشبندية التي تضمُّ بعض السياسيين البارزين؛ والطائفة العلوية، التي يُقدَّر عدد أفرادها بحوالي 15-20 مليون نسمة (15 إلى 25 بالمائة من مجموع السكان)، دون أن يكون لها هيكل متجانس أو ناطق رسمي؛ وإسلام الدولة الذي تمثِّله رسميًّا رئاسة الشؤون الدينية (ديانت إيشليري باشكانليجي) التي تأسَّست في عام 1924م؛ وبعض الشخصيات من كُتَّاب أعمدة الصحف والمحامين من مختلف التوجهات الذين يظهرون في وسائل الإعلام بوصفهم خبراء؛ ومجموعة غير متبلورة من بضعة آلاف من الأكاديميين العاملين في الجامعات، وخاصةً في كليات الإلهيات.

الحديث عن الشريعة لا تعترضه حواجز قانونية فحسب، بل يُنظر إليه أيضًا من قِبَل عامَّة الشعب التركي باعتباره انخراطًا في أيديولوجيا سياسية رجعية ومعادية للعلمانية.

ومع ذلك، فقد كان من الصعب الكتابة -داخل الطيف الغني لمقاربات الإسلام في تركيا- عن أداة رئيسة للإصلاح الإسلامي، وهي مقاصد الشريعة. ويعود ذلك أساسًا إلى التباس معنى لفظ «الشريعة» وما ينطوي عليه من دلالاتٍ اجتماعية سياسية في سياق تركيا المعاصرة. فالحديث عن الشريعة -أي توظيف مفهوم الشريعة في تطوير خطاب إسلامي في الفضاء العام- لا تعترضه حواجز قانونية فحسب، بل يُنظر إليه أيضًا من قِبَل عامَّة الشعب التركي باعتباره انخراطًا في أيديولوجيا سياسية رجعية ومعادية للعلمانية.

ذلك أن العديد من المسلمين في تركيا ينظرون إلى الشريعة بوصفها مجموعةً ثابتةً من الأحكام القانونية المرتبطة بالتاريخ الإسلامي ما قبل الحديث. كما تُعَدُّ الشريعة -التي تُفهم على أنها نظام قانوني ما قبل حديث قائم على الدين من قِبَل المؤسسات الرسمية وبعض المواطنين الأتراك- متعارضةً بطبيعتها مع الأيديولوجيا العلمانية القانونية والسياسية السائدة حاليًّا والقائمة على الفصل بحكم القانون بين المجالَيْن الديني والسياسي، ومن ثَمَّ فهي محظورة رسميًّا في تركيا.

ولا شكَّ أن هذه التصورات حول الشريعة التي تختزلها إلى قانونٍ وضعيٍّ لا تخلو من إشكالات؛ لأنها تتناسى أهمية الموضوع، وربما حتى الأهمية الوجودية للمصطلح عند كثيرٍ من المسلمين في تركيا الذين يرون أن «الإسلام» هو «الشريعة». ومع ذلك، فإن احترام الشريعة -بوصفها أسمى دليل للهداية في الحياة- ربما يكون الأكثر شيوعًا، بيد أنه ما يزال مجرَّد تأويل واحد من بين عدَّة تأويلات لهذا المصطلح الملتبس ومتعدِّد الدلالة. كما يضمُّ المجتمع التركي العديد من المواطنين الذين يصرخون بأعلى صوت: «اللعنة على الشريعة»، رغم أنهم ما زالوا يعدّون الإسلام هويتَهم الأساسية، أو جزءًا مهمًّا من هويتهم على الأقل.

وفي الواقع، فإن الأيديولوجيا العلمانية كلما زادت شفافيتها -وخاصةً بعد الخمسينيات- زاد انفتاح مجال الخطاب القانوني أمام وجهات نظرٍ بديلة بشأن العلاقة بين العلمانية والإسلام. ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من الناس ومن المثقفين بشكل عام راضون عن البناء الديمقراطي الدستوري العلماني للدولة. وهذا الرأي تؤكِّده الدراسات الميدانية التي تُظهر انخفاضًا مستمرًّا في عدد الناس (أقل من 9 بالمائة من السكان مع توجُّه نحو التدني) الذين يفضّلون العيش في دولة تحكمها الشريعة(1).

ولعل الأمر الأكثر إدهاشًا هو أن المطالبة بنظام سياسي قانوني يقوم صراحةً على الدين وينتهك الأيديولوجيا العلمانية الحالية، بات يُنظر إليه عمومًا لا بوصفه تهجمًا على النظام الديمقراطي العلماني فحسب، ولكن بوصفه أيضًا تهجمًا على الإسلام نفسِه. ذلك أن «الإسلام» -بما هو مقولة متميزة عن «الشريعة»- يُفهَم من قِبَل الغالبية العظمى من المواطنين من حيثُ هو «ارتباط» (بالهوية والأخلاق) لا من حيثُ هو «التزام» بجوانب إيمانية «مُلزِمة» (قانونية ومفروضة)(2). والأهم من ذلك أن جانب «الارتباط» هذا هو ما يتمُّ التأكيد عليه باستمرار من قِبَل الأكاديميين والسياسيين والزعماء الدينيين وممثلي الإسلام الرسمي في تركيا. وفي هذا الإطار، تمثِّل البيانات الصادرة عن رئاسة الشؤون الدينية أوضحَ مثال على هذا التأكيد. فرئاسة الشؤون الدينية تُصدر آراء وترد على أسئلة الأفراد مباشرةً عبر منصتها على الإنترنت. وتتميَّز هذه الردود بأنها غير مُلزِمة؛ إذ تُقدَّم دائمًا في قالب مقترحاتٍ وإجاباتٍ علمية تستند إلى مبادئ دينية أخلاقية مقبولة. وتشكِّل هذه القيم والممارسات المرتبطة بالإسلام مصدرًا رئيسًا للتضامن في تركيا(3).

إن التركيز القوي على أن تكون مسلمًا (لا «إسلاميًّا» أو «شريعيًّا» (şeriatcı)) وتراجع خطاب الشريعة، يُمكن فهمه بشكل أفضل من خلال ترسخ الطابع الأخلاقي للإسلام بعمقٍ في تركيا عبر التاريخ. ويركِّز ممثلو هذه المقاربة الأخلاقية للشريعة على ما يمكن وصفه -بشكل ما- بأنه مقاصد الإسلام و«لبُّه» و«جوهره» و«أهدافه العليا»، أقل من تركيزهم على مفهوم الشريعة القائم على القانون الوضعي(4). ويركِّز هذا الفهم للإسلام المتحرِّر من الشريعة بمعنى القانون تركيزًا أساسيًّا على المبادئ الأخلاقية والممارسات المتعلِّقة بتحقيقها.

ووفقًا لهذا الرأي الذي تروِّج له الدولة، فإن غالبية أعضاء هيئة التدريس في كليات الإلهيات، ومختلف الجماعات الصوفية، وشتَّى الحركات السُّنية، والعلويين، يرون أن الهدف الأساسي للإسلام هو رعاية أخلاق الفرد والمجتمع. فالإسلام يهدف إلى تحقيق كرامة الإنسان وإطعام الفقراء والتراحم بين الناس وتطهير النَّفْس والاستعداد للموت ولقاء الله يوم الحساب(5).

يُشير برنارد فايس إلى أن عبارة «روح القانون» بالمعنى الغربي تُعادل بشكلٍ من الأشكال ما تعنيه عبارة «مقاصد الشريعة».

ونحن نجد هذا الفهم الأخلاقي وغير القانوني للإسلام منتشرًا ومتجذرًا بين غالبية الفاعلين الدينيين وعامَّة الناس في تركيا، إلى درجة أن كانت له عواقب مذهلة وفورية على خطاب مقاصد الشريعة الإصلاحي، بحيث أضحت الإشارات الوفيرة إلى «جوهر» الإسلام أو «هدفه» أو «روحه» الأخلاقية إشاراتٍ محوريةً في التصورات المعاصرة لمقاصد الشريعة في تركيا الحديثة.  وكما يُشير برنارد فايس (Bernard Weiss)، فإن عبارة «روح القانون» بالمعنى الغربي تُعادل بشكلٍ من الأشكال ما تعنيه عبارة «مقاصد الشريعة»(6). وإذا كان الخطاب الديني حول مقاصد الشريعة شائعًا، فمن الواضح أن هذا الخطاب يُشير -عند العديد من المسلمين في تركيا المعاصرة على الأقل- إلى إسلام أخلاقي ذي علاقة ضعيفة -إن لم يكن في انفصال واضح- مع ما يمكن أن نُطلق عليه «الشريعة القانونية».

وبعبارة أخرى، فإن التصوُّر المعاصر البارز للمقاصد في تركيا هو تصوُّر لشريعة حرة وعلمانية من الناحية القانونية، حتى إنه يتم انتقاد الدول الإسلامية بأن لديها «شريعة دون إسلام؛ لأنها لا تفهم حقًّا هدف الإسلام»(7). وعلاوة على ذلك، يُنظر عمومًا إلى توظيف الشريعة الإسلامية في السياسة، أو تقديم الإسلام بوصفه أيديولوجيا قانونية وسياسية، أو خلطه بالمعاملات اليومية الدنيوية وشؤون السياسة، على أنه في العموم تدنيس لقدسيته وأهدافه العليا.

وبناءً على هذه التصورات المتنوعة للمقاصد وللشريعة، سنقوم بتصنيف الخطابات المعاصرة حول مقاصد الشريعة في تركيا ضمن أربع فئات. وتتشكَّل المجموعة الأولى من كُتَّاب الرأي الصحفيين وعلماء الدين والأكاديميين الذين يُمكن أن نصفهم عمومًا بأنهم «تقليديون» أو «مجددون» بحسب تعريفهم للشريعة على أنها نظرة كونية مرنة أخلاقية وقانونية شاملة وقادرة على التجدُّد بأدوات أصيلة، ومنها مقاصد الشريعة. ومن ثَمَّ فهي جزء من المعارف التجديدية الراسخة التي كانت موجودة أيضًا في الإسلام الكلاسيكي. وفي وجهات النظر التقليدية هذه، نجد أن للعلمانية تصورات متنوعة تتراوح من «الدنيوة» (verweltlichung) إلى «نقص التدين» أو «الدين الزائف»، وصولًا إلى «معاداة الدين». وبالنسبة إلى كل هذه المواقف المختلفة بل والمتضاربة تجاه العلمانية، فإن فكرة التجديد بمعنى «إعادة التشكيل» تمثِّل انفصالًا جذريًّا وتهجمًا على الإسلام التقليدي الذي يُنادي به المجددون. 

وتتكوَّن المجموعة الثانية من الأكاديميين المعاصرين الذين ينشرون كتبًا ومقالات علمية مخصَّصة لمقاصد الشريعة باللغة التركية. وقد جرت العادة بأن ينأى هؤلاء الخبراء الأكاديميون بأنفسهم عن المناقشات الشعبية حول «الإصلاح مقابل التجديد»، وعن المناقشات المثيرة للجدل حول مختلف القضايا المتعلِّقة بالدين، لكنهم ينتجون معرفة أكاديمية عالية التخصُّص للقراء المتمرسين في الفقه الإسلامي الكلاسيكي. ويدلُّ التحليل الدقيق لتصوراتهم عن الشريعة والإصلاح على أن هذا البُعْد الأكاديمي في دراسة المقاصد يتماشى مع الإطار الكلاسيكي لمقاصد الشريعة، ويبتعد عن فكرة الإصلاح، ويتصور مقاصد الشريعة تجسيدًا للتقليد القانوني المستمر والمرن الذي ينادي به المجددون. وبهذا المعنى، فإن الأكاديميين المتخصِّصين الذين يكتبون عن مقاصد الشريعة يلتقون مع مجموعة أكثر اتساعًا وتنوعًا من العلماء التقليديين الذين ينتقدون مقترحات الإصلاح الإسلامي وينشرون فكرة «التجديد» الكلاسيكية دفاعًا عن الاستمرارية وأصالة التقليد. 

وتتحدَّد المجموعة الثالثة بكونها تضمُّ الأكاديميين «التصحيحيين» الذين اهتمَّت مشاريعهم الفكرية بتأسيس نموذجٍ شامل ومنهجيّ لتفسير مصادر التشريع الإسلامي، مستوحى من علم التأويل الغربي ما بعد التنويري. 

أما المجموعة الأخيرة، وهي الأكثر صعوبةً في التحديد والأكثر تنوعًا بلا شكّ، فتنظر إلى الشريعة حصرًا من منظور قانوني أو أخلاقي. وفي كلتا الحالتَيْن، تُوصف المقاصد العليا للإسلام بأنها متوافقة وحتى مفروضة على فرد علماني وعلى مجتمع ينفصل فيه الدين عن السياسة. ويُعرَّف مفهوم العلمانية من وجهات النظر هذه بطرق مختلفة بما في ذلك: «فصل المجال الديني عن المجال السياسي»، و«انسحاب الديني من الفضاء العام»، أو من خلال مصطلحات أدائية من قبيل «حديث» و«غربي»...إلخ. لكن الأهم من ذلك أن جميع هذه التصورات للعلمانية ترى أنها متوافقة مع الإسلام ومع قِيمه الجوهرية. ولذلك سنشير إلى هذه المجموعة باسم «العلمانيين»، وسنحلِّل مختلف تصوراتها عن مقاصد الشريعة. 

على أنه يجب اعتبار هذه الفئات الأربع مجرَّد أدوات استدلال أوَّليَّة تساعد على توضيح التصورات التي لا تخلو في الواقع من تداخلٍ بينها، هو ما يُؤدي -من ثَمَّ- إلى تعريفها بشكل فضفاض.

التجديد والتقليدية القانونية: المقاصد والشريعة مقابل الإصلاح

بالنسبة لغالبية المدرّسين في كليات الإلهيات ولرئاسة الشؤون الدينية، فإن الإسلام أخلاقيٌّ، لكنه لا يخلو كذلك من بُعْدٍ قانونيٍّ مُلزِم. ومن ثَمَّ فإن الوجه القانوني الذي لا ينفصل عن الشريعة يُمكنه ويجب عليه أن يجدِّد نفسه، بحيث تلعب مقاصد الشريعة -جنبًا إلى جنب الاجتهاد واعتبار المصلحة- دورًا جوهريًّا في هذا التجديد(8). ونحن نصف هؤلاء العلماء على نطاقٍ واسعٍ بأنهم «تقليديون» أو «مجددون» طالما يضعون أنفسهم بوعيٍ في مسار التقليد التجديدي الراسخ.

وبرجوعهم إلى مفاهيم أصول الفقه، فإن هؤلاء العلماء التقليديين على دراية وافية بأعمال كلٍّ من: القرضاوي (مواليد 1926)، وابن عاشور (ت 1973م)، والفاسي (ت 1974م)، ورشيد رضا (ت 1935م)، والريسوني (مواليد 1953م)، والعلواني (ت 2016م)، وغيرهم من علماء المسلمين البارزين الذين كتبوا بإسهابٍ عن الإصلاح الإسلامي القائم على مبادئ مقاصد الشريعة. فخطاب المقاصد هذا -بتطوره داخل علم أصول الفقه ذاته- يسترشد بالمباحث الفقهية القديمة، ويحرص علماؤه التقليديون على عدم استخدام المقاربات المقاصدية في أشكال فضفاضة منهجيًّا أو لأغراض منفعيَّة.

ويمثِّل خير الدين كرمان (مواليد 1934م)، وهو ناقد صريح منشق عن العلمانية الكمالية الذاهبة تدريجيًّا نحو الزوال، أحد أبرز الأسماء في هذه المجموعة. وبوصفه أحد أوائل خريجي المعاهد الدينية التي افتُتحت في عام 1949م، كتب كرمان عن الشريعة الإسلامية على نطاق واسع، وكانت له إسهامات أساسية في دراسة مقاصد الشريعة جعلت منه في عيون البعض «قرضاوي تركيا»(9). والإسلام والشريعة مترادفان عند كرمان؛ لأن الشريعة بأبعادها القانونية هي حقٌّ طبيعيٌّ لكل مسلم. ومع ذلك، فهو يدرك حقيقة أنه سيكون من الاستبداد والظلم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على الأشخاص الذين لا يريدون العيش وَفْقَ تعاليمها.

خير الدين كرمان

خير الدين كرمان

ولذلك يرى كرمان أن مصطلح «المسلم العلماني» هو جمعٌ بين متناقضين؛ لأن الشريعة قانون وأخلاق، بينما العلمانية أيديولوجيا غربية للابتعاد عن المقدَّس. ومع أنه على دراية جيدة بتوظيف خطاب مقاصد الشريعة من قِبَل العديد من المفكرين الإصلاحيين الإسلاميين، إلَّا أن كرمان ينتقد بشدَّة كل فكرة عن «الإصلاح الإسلامي»؛ لأن للإصلاح الديني دلالة لوثرية لا تنفصل عنه(10). ومن هنا، فإنه لا يُمكن تطبيقه على الإسلام؛ لأن الإسلام لم يخلُ مطلقًا من التجديد ومن الاجتهاد الذي لم تُغلق أبوابه أبدًا(11).

بل إن كرمان يرى أن الانفتاح الدائم لباب الاجتهاد وإمكانية النظر في مقاصد الشريعة كانا من المكونات الرئيسة المترابطة للتقاليد القانونية الإسلامية، قبل أن يُضحيا الآن نسيًا منسيًّا ويحل محلهما تصور جامد للشريعة. فمقاصد الشريعة تجسّد الأهداف الثابتة للقانون الإلهي، وتوفّر في الوقت نفسِه أداةً مرنةً للتغيير القانوني. وهنا لا بدَّ -حسب وجهة نظر كرمان- من مراعاة التوازن الدقيق بين الأحكام الفردية (الجزئيات) والمبادئ العامة (الكليات).

واستنادًا إلى الشاطبي (ت 1388م)، وابن قيم الجوزية (ت 1350م)، والقرافي (ت 1285م)، وعدد من الأعلام البارزين في خطاب مقاصد الشريعة، فإن كرمان لا يكتفي بتصوير العلمنة على أنها تفصل الناس عن جذورهم الدينية والثقافية، بل هو يُجادل أيضًا بأن الإسلام والديمقراطية في شكلهما الحالي في تركيا غير متوافقين، ووحدها الديمقراطية الإسلامية ممكنة. فكرمان يشكِّل -من ناحية أولى- وجهة نظرٍ مفادها أن الإسلام الذي يعتبر الشريعة نظامًا قانونيًا ثابتًا يجب أن يُجدَّد في ضوء مقاصد الشريعة، ويرى -من ناحية أخرى- أن الديمقراطية الحالية المطبَّقة في تركيا لا تعني سوى قمع الدولة للتدين الفردي، وأنها أيديولوجيا عنيفة وغير عادلة تقدِّم نفسها بشكل درامي على أنها «حرية دينية» و«علمانية»(12).

فالإسلام لا يحدِّد طريقة معيَّنة للحكم، ولكنه يقدِّم مقاصد الشريعة التي تهدف إلى حفظ النفس والدين والعقل والنسل والمال. وأيُّ نموذج للحكم يحافظ على هذه الأهداف العليا بالاستناد إلى الإسلام هو شرعيّ، في حين أن الديمقراطية العلمانية القمعية الحالية بعيدة كل البُعْد عن تلبية هذا المطلب. بيد أن كرمان يُعارض في الوقت نفسِه توظيف مقاصد الشريعة سواء للدفاع عن الشريعة أو لأغراض غربية. وفي جداله ضد دعاة الإصلاح والتغريب، يزعم كرمان أن الغرب لم يحافظ على مقاصد الشريعة بالمعنى الذي ينصُّ عليه الإسلام. فالغرب يحفظ اللادين (أي العلمانية القمعية) بدلًا من الدين، وهو لا يحفظ النفس والعقل والمال والنسل بإطلاق، بل يحفظ نُسخًا منها فحسب(13). وبالتوازي مع هذا النقد للغرب، فإن مقاصد الشريعة جزءٌ لا يتجزَّأ من الاستدلال القانوني الجوهري عند كرمان المناهض بشدَّة للإصلاح(14)

أما محمد أردوغان (مواليد 1956م)، الأستاذ في جامعة مرمرة، ونهاد دالغن، الأستاذ في جامعة 19 مايو، وهما من تلاميذ كرمان، فقد ركَّزا في كتاباتهما أيضًا على التفاعل الجدلي بين مقاصد الشريعة والقراءة الحرفيَّة للقرآن والسُّنة. فإلى جانب التأكيد على الدور الرئيس لمقاصد الشريعة في التغيير القانوني، يؤكِّد الباحثان كذلك على الالتزام الصارم بالقراءة الحرفيَّة للنصوص، وهو ما يحدُّ بشكل كبير من مجال هذا التغيير. ومن هنا، فإن تفضيل دالغن القراءة الحرفيَّة لأحاديث الآحاد على مقاصد الشريعة يجعله بعيدًا عن المقترحات التصحيحية أو الإصلاحية(15).

وهكذا، فإن دالغن يتبنَّى أكثر وجهات النظر تحفظًا في مسائل طال نقاشها، مثل: حق المرأة المسلمة في الزواج من غير المسلم، أو واجب المرأة في الصلاة خلال فترة الحيض(16). وبالمثل، فإن تأكيد أردوغان على الالتزام الصارم بالقراءة الحرفيَّة للقرآن يحدُّ من مجال التغيير القانوني. وبناءً عليه، فهو يعدُّ العقوبات البدنية (الحدود) معيَّنة بوضوح في النص، وتشكِّل -من ثَمَّ- جوانبَ ثابتةً من الشريعة الإسلامية. وعلى المنوال نفسِه، لا يمكن لأيِّ قول يعتمد مقاصد الشريعة أن يبرِّر -على سبيل المثال- التخلي عن أحكام الحجاب التقليدية للمرأة؛ ذلك أن «حُكم الحجاب مبدأ شامل من مبادئ القرآن لا يتغيَّر في الزمان والمكان (باستثناء تغيُّر خصوصياته)»(17).

كما يمكن بوضوحٍ رصد صعود خطاب مقاصد الشريعة المضاد للإصلاح لحظة تحوُّل آخر أجيال الإمبراطورية العثمانية إلى أبناءٍ للجمهورية التركية، من خلال رصد التحوُّل المصطلحي بين المفكر النافذ سعيد النورَسي (ت 1960م) وتلميذه فتح الله غولن (مواليد 1941م). فقد استخدم النورَسي -المؤسس الملهم للعديد من الحركات المنتظمة تحت عنوان «نورسلوك» (جماعة النورَسي)- مصطلحاتٍ من قبيل: «المقاصد الإلهية» و«المقاصد الربانية» و«المقاصد السبحانية» و«المقاصد السياسية» في كتاباته. وتجسّد هذه الإشارات إلى المقاصد المقدَّسة ما أسماه ماكس فيبر «التفكير الجوهري الأخلاقي» في الإلهي، بغض النظر عن الخطاب المقاصدي التشريعي. فوفقًا للنورَسي، توجد أربعة معتقدات رئيسة تجسّد المقصد الإلهي في تنزيل الشريعة، وهي: الإقرار بوحدانية الله، والنبوَّة، والبعث، والعدل(18).

أما غولن -وهو أبرز تلاميذ النورَسي وأحد أكثر المسلمين الأحياء نفوذًا في العالم- فلئن كان يستخدم نفس مصطلحات معلمه، إلَّا أنه يضع تلك المصطلحات في سياقٍ مستوحًى من خطاب مقاصد الشريعة. كما أنه يعتمد في مختلف كتاباته على الشاطبي ويُلمح إلى أن ما يقدِّمه من حجج يُمكن إرجاعه إلى نظريته في مقاصد الشريعة(19). فغولن يؤكِّد أن الشاطبي مارس الاجتهاد على أساس مقاصد الشريعة، ويرى أن أيَّ دراسة دينية إجرائية شرعية لا تُراعي المقاصد الإلهية لا طائل من ورائها. وهنا مرة أخرى ينأى غولن بنفسه صراحةً عن كل حركة إصلاحية، ويُجادل بأن:

«الإصلاح يعني إعادة تشكيل شيء مشوَّه ... أولًا: أنا لا أصدق أبدًا أن الإسلام ومبادئ ديني قد تعرَّضت للتشويه أو التغيير أو التعديل. وثانيًا: لا يُوجد إصلاح للإسلام. وبدلًا من ذلك، يُوجد تجديد»(20)

فتح الله غولن

فتح الله غولن

ويُعلن غولن مرارًا وتكرارًا أنه لا ينشد التجديد أو الاجتهاد أو الإصلاح، وأنه ليس إلا واحدًا من أتباع الإسلام، مجرَّد مسلم. إنه شديد الحرص على النأي بنفسه عن كل خطاب إصلاحي أو سياسي أو إسلاموي. وما نفوره الواعي من استخدام الإسلام أداة سياسية خطابية -وهي سمة مميزة لفكر النورَسي- سوى إشارة أخرى لاعتماده مقاربة أخلاقية للإسلام من منظور روحيّ. والمصطلحات التي يستخدمها غولن روحانية أكثر مما هي شرعية، حيث يُشير باستمرار إلى المصطلحات الأساسية للإسلام الشعبي بالإضافة إلى مصطلحات التصوف الطُّرقي. فهو كثير الاستشهاد بأسماء كبار المتصوفة، مثل: جلال الدين الرومي (ت 1273م) ويونس إمره (ت 1320م)، بدلًا من أسماء الفقهاء. ومن ثَمَّ فإن مفهوم مقاصد الشريعة لا يدخل ضمن أي خطاب إصلاحي تشريعي عند غولن، بل ضمن نظرة كونية أخلاقية تقليدية واعية مدعومة بتفكيرٍ موضوعيٍّ يعضد عدم انفصال الإسلام عن الشريعة كما تصورتها التقاليد الإسلامية الكلاسيكية.

وبالمثل، يؤكِّد متين قاراباش أوغلو (مواليد 1964م) -وهو مثقف وكاتب من أبرز أتباع النورَسي- أن النظرة الإسلامية التقليدية مهدَّدة بفعل الاعتداءات الحداثية والاستشراقية والعلمانية، المدافعة منها أو الإصلاحية، حيث يستخدم جميعها -بوعي أو بغير وعي- المصطلحات والقيم والبرامج التي وضعها الآخرون، في تعارض مع المصطلحات الإسلامية التقليدية الأصيلة. والأهم من ذلك أن هذه الهجمات على التقاليد لا تتردَّد في استغلال الأدوات الكلاسيكية للشريعة ذاتها، بما في ذلك مقاصد الشريعة. وفي هذا السياق، يؤكِّد قاراباش أوغلو أن «المصلحة ... ومقاصد الشريعة التي أكَّدها الشاطبي تتعرَّض لإساءة جسيمة من قِبَل هؤلاء المسلمين المعاصرين الذين يميلون إلى العلمانية»(21)

وفي حين يتحاشى بعض الكتَّاب من مختلف المشارب -مثل كرمان وقاراباش أوغلو- اعتماد المقاصد خشية توظيفها في خدمة العلمنة، يقدِّم تحسين غورغن (مواليد 1961م) منظورًا تقليديًّا مختلفًا للنقاش حول العلمنة من خلال اللعب على تعريفها. ففي نظر غورغن، وهو أستاذ فلسفة في جامعة 29 مايو في إسطنبول، فإن مقاصد الشريعة يجب أن تُفهم على أنها مبادئ تضمن الفلاح في الدنيا وحُسن المآب في الآخرة. ومن الناحية الفلسفية، فإن خطاب مقاصد الشريعة يعني:

«حضور الإنسان في هذا العالم ومظهر ذاك الحضور. فمقاصد الشريعة تعني أنه لا يُمكن للمرء أن يكون مسلمًا ناضجًا دون ازدهار في هذا العالم. ولذلك، فإنه لا استحقاق لنعيم الآخرة دون استكمال «الضروريات» و«الحاجيات» و«التحسينيات» (أي المقولات الكلاسيكية الثلاث لمقاصد الشريعة) في كل جوانب الحياة. فمقاصد الشريعة تطلب من البشر إعطاء الحياة الدنيوية حقها في جميع أبعادها، وتتعارض مع الرهبانية»(22).

فبقدر ما يُشترط في المسلم الصالح أن يكون صالحًا في هذا العالم، فإن الإسلام -على عكس الأديان الأخرى- لا يرى في «العلمانية» بالمعنى الحرفي لـ«الدنيوية» (dunyevileşme) مشكلةً، بل مطلبًا أساسيًّا للكمال. ومن هنا فإن العلمنة -وفقًا لهذا النهج- هي مظهر من مظاهر التدين الداخلي الذي يتجلَّى في أفعال ومبادئ ومؤسسات تبني حضارة وثقافة(23). وبهذا، فإن العلمانية لا تمثِّل مشكلة أساسية للمسلمين إذا تبنَّينا المنظور المقاصدي التقليدي؛ فمقاصد الشريعة إنما تجسّد المتطلبات العلمانية لبلوغ نهاية الكمال. وبناءً عليه، وبالنسبة إلى غورغن، فإن حجَّة علماء الدين أو التقليديين الشائعة في وقوفهم ضد توظيف مقاصد الشريعة في خدمة العلمنة، تُغفل المعنى الشرعي الحقيقي لمقاصد الشريعة، لأن الفهم الشائع للعلمانية على أنها إهمال الدين عند عددٍ من المنافحين عن التقليد وآخرين غيرهم، هو فهم خاطئ.

فما نجده عند غورغن هو تصورات شرعية بديلة حول مقاصد الشريعة والعلمانية، تُصور كلتيهما في تناغم جوهري، وذلك على عكس تعارضهما الثنائي عند التقليديين أو تجاورهما عند الإصلاحيين. وقد اقترنت مقاربته الفلسفية الفريدة للعلمنة من منظور مقاصد الشريعة بنقدٍ عميقٍ للتوظيف الإصلاحي الحديث لها في جميع أنحاء العالم، وبرؤية ترى أن الإحياء المعاصر لمقاصد الشريعة هو مشروع استعماري حداثي يُشوّه الرؤية الأساسية للإسلام ودور المقاصد الشرعية في الإسلام الكلاسيكي:

«يمثِّل القرنان التاسع عشر والعشرون فترة تدفع بالمعرفة إلى الوراء وتضع السياسة في مركزها، في حين أن الحضارة الإسلامية تقوم على نظرة عالمية تتمحور حول المعرفة (علم أساسي)، ويقدِّم الإسلام نفسه على أنه معرفة»(24).

وقد كان من أهم نتائج هذا التحوُّل في المركز الوجودي اختفاء العلوم الدينية بما في ذلك الفقه، وظهور العديد من المشاريع الإصلاحية التي تُكيّف الإسلام مع البنية الشكلية الجديدة المتمركزة حول السياسة. ويُعَدُّ خطاب مقاصد الشريعة الذي جرى إحياؤه في فترة إضفاء الطابع الشكلي على هذه النظرة العالمية الجديدة إحدى الآليات الرئيسة التي حلَّت محلَّ العلوم الدينية الكلاسيكية(25).

وبالإضافة إلى المقاصد، وُجدت آلية أخرى مناسبة جدًّا، وهي «المبادئ العامَّة للقانون» (القواعد الكليَّة)، التي جرى توظيفها في مشروع شكلنة الشريعة من خلال إصدار «المجلة الأحكام العدلية»(26). وقد كانت مقاصد الشريعة والقواعد الكلية قادرةً على خدمة التشكيل الحديث الجديد المتمحور حول السياسة على خلاف العديد من الأدوات الفقهية الكلاسيكية التي تلاشت تدريجيًّا وأضحت غير ذات صلة بمقترحات الإصلاح الإسلامي. وهنا، جاءت القراءة النقدية للتوظيف الحديث لمقاصد الشريعة في خدمة النظام العالمي الصاعد والتأكيد على الأهمية الإيجابية لمقاصد الشريعة الكلاسيكية في العلمنة، لتمثّل مساهمة غورغن الأصيلة في نقاشات المقاصد في تركيا.

كما توظِّف القرارات الموثَّقة الصادرة عن رئاسة الشؤون الدينية مقاصدَ الشريعة في خدمة التقليد الكلاسيكي للتجديد، وضد الإصلاح. وهذا ما يتضح -مثلًا- في نظرتها إلى مسألة التأمين، حيث تقوم لجنة رئاسة الشؤون الدينية أولًا بشرح المبدأ العام المعتمد في تحديد الوضع القانوني للتأمين:

«التأمين عقد لم يكن موجودًا في زمن النبي وغير مذكور في المصادر الفقهية الكلاسيكية، ولم يظهر إلا لاحقًا في العصر الحديث. ولذلك يمكن تحديد الوضع القانوني للتأمين على ضوء مقاصد الدين والمبادئ العامَّة للنص»(27).

وتستخدم رئاسة الشؤون الدينية في تركيا مقاصدَ الشريعة وسيلةً لمسايرة المصلحة العامَّة في مسائل مستجدَّة غير مسبوقة لا يمكن الحسم فيها باعتماد القرآن والسُّنة مباشرة. ومن ثَمَّ فإن مقاصد الشريعة تتساوى مع المصلحة، وهي تلعب دورًا مهمًّا عند رئاسة الشؤون الدينية في تحديد الوضع القانوني لزرع الأعضاء أيضًا(28). ولكن الأهم من ذلك هو أن رئاسة الشؤون الدينية -على غرار التقليد الكلاسيكي- لا تستخدم مقاصد الشريعة لحسم المسائل المتعلِّقة بالعبادات وتحصر استخدامها في قضايا غير مسبوقة في مجال المعاملات.

وتوجد أمثلة واضحة لم تحسم فيها رئاسة الشؤون الدينية، من بينها مسألة الصلاة بلغة أخرى غير العربية، أو صلاة النساء على انفراد دون حجاب. وهذا ما يشكِّل الرأي القائل بأن لعناصر العبادات في الإسلام حِكمتَها ومقاصدها وأسبابَ تشريع وأشكالًا ومتطلبات وأركانًا، وهذه أشياء ثابتة لا يمكن أن تتغيَّر. وعلى سبيل المثال، فإن الاقتراح الإصلاحي بصعق الحيوان باستخدام التيار الكهربائي بدلًا من الذبح ينتهك أحد شروط الذبح الشرعي. وبالمثل، لا يمكن للمرء أن يستبدل الأضحية بالتصدُّق بثمنها، ولا ينبغي الخلط بين أمرين مختلفين من أمور العبادة، أي الصدقة والأضحية على أساس النيَّة؛ لأن شكل هاتين العبادتَيْن واضحٌ في المصادر ولكلٍّ منها غرض شرعيّ مختلف عن الآخر(29).

وباختصار، فإنه يُنظر إلى العلماء الذين يعملون على مفهوم مقاصد الشريعة من داخل التقليد الكلاسيكي لأصول الفقه على أنهم بعيدون في الغالب عن الإصلاحيين. والواقع أنهم يتحاشون بشكل عام عن فكرة الإصلاح، إن لم ينتقدوها بشدَّة. فهم يؤكدون على عدم الفصل الكلاسيكي بين الأخلاق والقانون، وأن كليهما يتجسد في الشريعة المرنة، ويضعون أنفسهم في سياق التجديد من داخل التقليد. ولذلك، فإن مقاصد الشريعة في تركيا غالبًا ما تُعبّر عن موقف تقليدي في مواجهة المشاريع الإصلاحية التي تُعَدُّ عمومًا خطرًا يهدِّد التراث الشرعي الأصيل.

علم مقاصد الشريعة: نظرية دون إصلاح

يُوجد قدر كبير من الكتابات الأكاديمية باللغة التركية حول خطاب مقاصد الشريعة. وقد تمَّ إنجاز عدد لا يُحصى من أطروحات الماجستير والدكتوراه حول هذا الخطاب وأعلامه الكلاسيكيين وتطبيقاته الحديثة. بيد أن هذه الدراسات الأكاديمية تستوحي مادتها من خارج الأدبيات التركية، وخاصةً من كتابات كبار الإصلاحيين المعاصرين، مثل: ابن عاشور والقرضاوي ورشيد رضا وفضل الرحمن (ت 1988م). والحجج التي يتمُّ تداولها في الأوساط الأكاديمية منهجية وشاملة، وهو ما يدلُّ على أن الأكاديميين الأتراك على اطلاعٍ وافرٍ على أدبيات مقاصد الشريعة في جميع أنحاء العالم.

ويُعَدُّ أحمد يمان (مواليد 1967م)، أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة أكدنيز، أحد أبرز الأسماء الرائدة في الدراسات الأكاديمية لعلم مقاصد الشريعة. وقد قام مؤخرًا بتحرير كتاب شامل باللغة التركية وذي مستوى دولي حول مقاصد الشريعة أسهم فيه 16 باحثًا(30). وقد صُمِّم الكتاب ليغدو مصدرًا مرجعيًّا في هذا المجال؛ ومن ثَمَّ فإن طابعه كان تاريخيًّا وصفيًّا يعرض تاريخ خطاب مقاصد الشريعة وممثليه ووظائفه.

وفي هذه الدراسة، يقوم أحمد يمان وطلابه -مثل رحمي تلكينار أوغلو (مواليد 1975م)، أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة غوموش هانه- بتعريف مقاصد الشريعة بوصفها اجتهادًا في سبيل الكشف عن منطقها (العِلة الشرعية) وتحليله(31). ووفقًا ليمان، فإن الاجتهاد والمقاصد من المفاهيم التي لا غنى عنها في أصول الفقه، وهما أمران مترابطان. فالتغيير القانوني يعتمد الاجتهاد الذي يجب أن يتخذ مقاصد الشريعة نقطة مرجعية معيارية، بينما يُقيَّم اتجاه هذا التغيير على أساس المقاصد الإلهية(32).

وعلى المنوال نفسِه، يؤكِّد يونس وهبي يافوز (مواليد 1944م) -الأستاذ الفخري في الشريعة الإسلامية بجامعة أولوداغ- أن «جميع طرق الاجتهاد في أصول الفقه تهدف إلى فهم مقاصد الإسلام. والعنصر الأساسي هو المقاصد، أي تحقيق المصلحة»(33). وبناءً على ذلك، فإن جميع الأحكام الواردة في القرآن موجَّهة نحو مصلحة الفرد والمجتمع ككل(34). وقد انضمَّ أحد المُسهمين في كتاب يمان -وهو عبد الرحمن حاج قالي (مواليد 1970م)، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة ريزا- إلى كلٍّ من يمان وتلكينار أوغلو ويافوز في تعريف مقاصد الشريعة بوصفها اجتهادًا في المقام الأول.

ويوافق يمان على هذا الدور المحوري الذي تلعبه مقاصد الشريعة في ربط الاجتهاد بالمصلحة، غير أنه يؤكِّد أن مفهوم المقاصد موجود أيضًا في الاستحسان، وهو نمطٌ من التأويل المقاصدي(35). وبعبارة أخرى، فإن الاجتهاد المقاصدي والتفسير الغائي متطابقان. وهذا الدور الرئيس الذي يضطلع به مفهوم مقاصد الشريعة في تحديد اتجاه الاجتهاد والتفسير، هو ما يعطيه قوةً هائلةً.

بيد أن أحمد يمان يُشير إلى وجود خطرين كبيرين يتهدَّدان تطبيق هذه الأداة القوية. الأول: أن يؤدي تحديد المقاصد حصريًّا من قِبَل المفسر إلى ذاتية غير مُبرَّرة، في حين يؤدي تحديدها على أساس قراءة مقلِّدة وسلبيَّة إلى حَرْفيَّة جامدة(36). أما الثاني، فيُعيّنه يمان في خطر الإطلاقية المتأصل في الجهد البشري للوصول إلى المقصود الإلهي المطلق. واعتمادًا على الشاطبي، يؤكِّد يمان أن «الحديث باسم الله والوصول إلى أحكام قطعية حول مقاصد الآيات ومراميها يمكن أن يولِّد مخاطر كبيرة ... والله أعلم»(37). ومن ثَمَّ فقد لا يفهم الفقهاء المقاصد الإلهية وقد يسيئون استخدامها، ولا علاج لهذين الخطرين -في نظر يمان- إلَّا بتقوى القلب ومراعاة التقليد والإجماع. فالفهم في لغة القرآن فعلٌ قلبيّ، والقلب التقيّ يحترم جوهر القرآن في تأويله. وإلى جانب ذلك، يُحافظ الإجماع -وهو يجسّد التقليد الصحيح عند يمان- على مرونة الشريعة وحمايتها من كل انحراف في الوقت نفسِه(38)

ومن المُسهمين الآخرين في الدراسة التي حرَّرها يمان، نجد علي بكجان (مواليد 1965م)، وهو أحد أكثر علماء مقاصد الشريعة إخلاصًا لها وإنتاجًا حولها في تركيا. ومن خلال عمله أستاذًا للشريعة الإسلامية في مركز سلجوق للدراسات الدينية العليا، فقد ركَّزت أطروحته للدكتوراه وأعماله المنشورة بشكل مباشر على مقاصد الشريعة.

وبالإضافة إلى ذلك، فهو يقوم بتدريس مادة «نظرية المقاصد» في مركز سلجوق. وقد نشر بكجان أيضًا ببليوغرافيا وافية وشاملة جمع فيها أكثر من مائتي كتاب باللغات العربية والإنكليزية والتركية تناولت مقاصد الشريعة منذ عام 1910م. وكتابات بكجان، المشابهة لكتابات يمان وحاج قالي، هي كتابات وصفيَّة في المقام الأول، وتهدف إلى عرض التطور التاريخي لخطاب مقاصد الشريعة، ودوره المركزي في حركات الإصلاح المعاصرة، وأعلامه الكلاسيكيين منهم والمعاصرين، ودراساتهم(39).

وفي حين نجد دراسة المقاصد الشرعية الأكاديمية باللغة التركية صارمةً، فإن ندرة الأعمال التي تتناول المشاكل العملية لنظرية مقاصد الشريعة تشير إلى طابعها التجريدي. وبهذا، فإن عددًا من المسائل يظلُّ في الغالب دون إجابة: كيف نُراعي ترتيب المقاصد العليا؟ كيف نتجاوز ظاهر النص من داخل التقليد المقاصدي الشرعي؟ كيف نُترجم المقاصد إلى مصطلحات قانونية ملموسة اليوم؟ أين يُمكن -على سبيل المثال- وضع حقوق الإنسان(40) أو حقوق مجتمع الميم أو الأخلاقيات البيئية أو الرفق بالحيوان في التصنيف الكلاسيكي لمقاصد الشريعة(41)؟ في أيِّ ظروف يمكن أن تتحوَّل الضروريات إلى حاجيات؟ كيف يُمكننا تجنُّب مشكلة ما يُسمّيه شيرمان جاكسون (Sherman Jackson) «الكونية الزائفة»، وهي الممارسة الشائعة في تطبيق قواعد مُعمّمة على جميع المسلمين في العالم بغض النظر عن ظروفهم وسياقاتهم الخاصة(42)؟

إن دراسة مقاصد الشريعة في تركيا ذات طابع مجرّد؛ وذلك ببساطة لأن الفكرة والحاجة العملية للإصلاح الإسلامي من الناحية القانونية إما غائبة أو تُعَدُّ غير مهمَّة، إن لم تكن غير مناسبة. 

لقد نوقشت هذه الأسئلة على نطاقٍ واسعٍ في عدَّة لغات وبلدان أخرى، ويبدو أن دراستها -على عكس ما هو موجود في تركيا- جادة في اعتبار مقاصد الشريعة خيارًا ملموسًا للإصلاح القانوني. وفي المقابل، وكما أشرنا سابقًا، فإن دراسة مقاصد الشريعة في تركيا ذات طابع مجرّد؛ وذلك ببساطة لأن الفكرة والحاجة العملية للإصلاح الإسلامي من الناحية القانونية إما غائبة أو تُعَدُّ غير مهمَّة، إن لم تكن غير مناسبة.  ومع ذلك، وبمجرَّد أن نحفر قليلًا تحت السطح، فإننا سنكتشف أن الكتابة الأكاديمية في مقاصد الشريعة -بغض النظر عن طبيعتها المجردة- تميل إلى الاصطفاف بشكلٍ وثيقٍ إلى جانب التقليديين.

فوجود مقاصد للشريعة هو تعبيرٌ عن قدرة الشريعة ذاتها على أن تكون مرنة وديناميكية، وإصلاحها -بالمعنى الحرفي للكلمة- هو اعتراف بعدم صلاحيتها(43). وبهذا المعنى، فهي تدخل في نطاق التجديد التقليدي، الذي يُقصر تطبيق مقاصد الشريعة على الأحكام الصريحة في النص وعلى المعاملات. وعلى سبيل المثال، فإن أحمد يمان واضحٌ جدًّا في كون الحجاب الشرعي أمرًا لا يمكن المساس به بصريح النص والإجماع(44).

وبالمثل، فهو ينتقد المقترحات الإصلاحية، مثل استبدال الأضحية الشرعية بالتصدُّق بثمنها، أو تغيير شكل الصلوات، أو الفسق تحت ستار «الحرية الجنسية»(45). وعلى المنوال نفسِه، يبدو بكجان راضيًا عن التعريف التقليدي للإجهاض بأنه قتل(46). كما أنه يفضِّل التصنيف التقليدي للضروريات الخمس، مقابل بدائلها الحديثة، أي استبدالها بحفظ العقل والحرية والعدل كما اقترح الباحث المصري البارز نصر حامد أبو زيد (ت 2010م)(47).

ولذلك، فإن الكتابة الأكاديمية المتخصِّصة في مقاصد الشريعة تُعارض المقترحات الإصلاحية وتتصور خطاب مقاصد الشريعة بوصفه معبرًا مهمًّا عن التقاليد القانونية القابلة للتجديد بشكل دائم، مع الحفاظ على أغراضها العليا. ويتابع علماء المقاصد في الأوساط الأكاديمية التركية عن كثبٍ الكتابات الحديثة حول مقاصد الشريعة، وهم في تفاعلٍ دائمٍ معها.

مقاصد الشريعة في المنظور التصحيحي

كما نجد أيضًا مجموعة متنوعة من العلماء الذين يستخدمون خطاب مقاصد الشريعة في حجاجهم لبناء تأويلات جديدة للقرآن والسُّنة. وغالبًا ما يُشار إلى هؤلاء العلماء في الأدبيات بأنهم «تصحيحيون» أكثر مما هم إصلاحيون. ويدافع كورنر (Korner) عن جهود هؤلاء العلماء: 

«في استخدام رؤى غير مرتبطة حتى الآن بتأويل القرآن، ومعالجتهم المتكرِّرة للمنهج، واستعدادهم لتجريب مقاربات جديدة، ووعيهم بفعل شيء ذي صلة بالإسلام في مجمله، وهو ما يبرِّر صفة «التصحيحيين» بدلًا من «الإصلاحيين»»(48).

أما الجانب الأكثر وضوحًا للحجج التصحيحية، فهو الدور الأساسي الذي تُسنده إلى تأويلات ما بعد التنوير في فهم القرآن والسُّنة. فوفقًا لهؤلاء العلماء، فإن النقد المستمر للمنهج العلمي التقليدي في قراءة القرآن والسُّنة هو أمر محوريّ؛ لأن المشاكل الحديثة للمسلمين هي في الأساس مشاكل تأويليَّة. فعدم وجود منهجية تفسير مستدامة في العلوم الإسلامية هو سبب هذه المشكلة الأساسية، ومقاصد الشريعة أداة من بين أدوات أخرى يمكن أن تُساعد في بناء منهجية جديدة لتفسير القرآن والسُّنة.

وتُعَدُّ «مدرسة أنقرة» أشهر مجموعة من مجموعات العلماء الذين يوظفون المقاصد في خدمة مطلب القيام بمراجعة تأويلية أوسع. ويتصور محمد باجاجي (مواليد 1959م) -وهو أبرز وجوه هذه المدرسة ومن أكثر الأكاديميين نفوذًا في كليات الإلهيات- تأويلات قرآنية تصحيحية تستدعي التقليد التأويلي الألماني. فنحن نجد في كتابات باجاجي إشاراتٍ إلى الشاطبي ومقاصد الشريعة مقترنة بمناقشات وإشارات إلى شلايرماخر (Schleiermacher) ودلتاي (Dilthey) وهايدغر (Heidegger)، وخاصةً غادامير (Gadamer). ويُعيد باجاجي عدم وجود منهجية تأويلية شاملة أساسًا إلى عدم قدرة علم أصول الفقه الكلاسيكي على استدماج مصادر المعرفة الحديثة. وفي هذا السياق، يرى باجاجي أن الفقه -الذي يعني في الأصل «الفهم»- جعل من القرآن نصًّا قانونيًّا في المقام الأول، وذلك بخاصة بتأثيرٍ من الشافعي (ت 820م)، وبذلك فُصِلَ القرآن عن مبادئه الأخلاقية الأساسية التي تسمح للقارئ بتجاوز ظاهر النص وأن يفهمه بنفسه(49).

محمد باجاجي

محمد باجاجي

كما يؤكِّد باجاجي كذلك أن الأدوات الكلاسيكية للفقه -مثل الاستحسان- التي تقلِّل من هيمنة التفاسير اللغوية للقرآن والسُّنة، قد تعرضت للهجوم من قِبَل الشافعي ومَنْ جاء بعده من الفقهاء، في حين استخدم علماء مثل الشاطبي الاستحسان والاستقراء لاستنتاج الكليات الأخلاقية من الجزئيات. وفي هذه المقاربة الأخيرة، تُحدَّد الأحكام الشرعية وفقًا للمبادئ الأخلاقية العليا للقرآن (المقاصد)، وما غاية التفكير سوى تحقيق الخير الأسمى(50).

ويرى باجاجي أن المصلحة مصدر من خارج القرآن استمدَّه الشاطبي من تجارب معيشيَّة. وهنا، يستشهد بثلاث مقولات كلاسيكية من مقاصد الشريعة من أجل إثبات حجَّته القائلة بأن المصلحة سمحت للشاطبي بتجاوز ظاهر النص(51). ويتمثَّل دور مقاصد الشريعة في رؤية باجاجي في استقاء مبادئ أخلاقية من القرآن تسمح بترتيبٍ هرميٍّ للقِيم التي يجب اتباعها في حياتنا. وفي هذا السياق، يؤكِّد أن الخلط أو المساواة بين التطبيق الحرفي للأحكام القرآنية وبين القيم العليا التي يُهتدى بها، ليس إلَّا تعاميًا عن المنظور الأخلاقي وانحرافًا عن روح القرآن(52).

وفي تحديه وجهة النظر التي تعدُّ القرآن كتابَ قوانين، يُجادل باجاجي بأن القرآن الكريم هو -في المقام الأول- دليلٌ إلى تحقيق المقاصد الإلهية الأخلاقية. ومن خلال تبنِّي آراء أبي زيد والاستشهاد بأقوال إسماعيل الفاروقي (ت 1986م)، يصل باجاجي إلى حد اقتراح تجاوز التصنيف الكلاسيكي للمقاصد لصالح الأخلاق. ويؤكِّد في هذا السياق:

«نحن نحتاج اليوم إلى تحسين النموذج الكلاسيكي (لمقاصد الشريعة)، أو حتى إنتاج نماذج جديدة. ويُمكن انتقاد الشاطبي لأنه وضع الأخلاق في أدنى مستوى في نظريته المقاصدية (أي في فئة التحسينيات) ... وتتمثَّل المهمَّة الجوهرية للمسلمين (اليوم) في إعادة تحديد المحتوى القِيمي للقرآن بشكل منهجي»(53).

ولا تتنزل المقاربة المقاصدية عند باجاجي ضمن إطار قانوني أو إصلاحي، بل هو يستخدمها ليعضد برنامجه التأويلي والأخلاقي الأوسع. وقد استدعى العلماء مقاصدَ الشريعة بوصفها دليلًا، لا لتأسيس منهجية في مراجعة التفسير فحسب، بل من أجل بناء منهجية جديدة في علم الحديث بشكل خاص. ويشير محمد غورمز (مواليد 1959م)، الرئيس السابق (2010-...) لرئاسة الشؤون الدينية، وهو عالم حديث محترم وله صلات وثيقة بمدرسة أنقرة، يشير إلى مقاصد الشريعة في أعماله المختلفة بوصفها دليلًا إلى منهجية جديدة في علم الحديث. ويجادل غورمز بأنه: 

«لم تظهر (في علم الحديث الكلاسيكي) منهجية لفهم الحديث والسُّنة وتفسيرهما. وعلاوة على ذلك، فإن طريقة الفهم التي طوَّرها علم أصول الفقه من أجل سدِّ هذه الفجوة المنهجية لم تكن مرضيةً»(54).

ووفقًا لغورمز، فإن بناء مثل هذه المنهجية يتكوَّن من ثلاثة أبعاد. الأول: هو إعادة بناء علوم الحديث من خلال إعادة التساؤل عن أهدافها الرئيسة ونطاقها، بالإضافة إلى إعادة النظر في مقولاتها الفرعية. ثانيًا: سيستفيد علم الحديث وينبغي أن يستفيد منهجيًّا من علوم السيميائيات والتأويليات الحديثة(55). وأخيرًا: يجب إعادة النظر في أولويات علم أصول الفقه. وواضح أن إعادة ترتيب أولويات المبادئ العليا التي تُوظَّف في منهجية الفهم التي يتبنَّاها علم أصول الفقه، يمكن أن تجعل من أصول الفقه منهجًا قابلًا للتطبيق في علوم الحديث.

ولا مشاحة في أن مقاصد الشريعة التي طوَّرها كلٌّ من الجويني (ت 1085م) والغزالي (ت 1111م) والرازي (ت 1210م) والشاطبي، هي التي ستؤسِّس ترتيب أولويات القيم وتحديد المبادئ العامَّة للحديث(56). وفي هذا الاقتراح الثلاثي المستويات للرئيس السابق لرئاسة الشؤون الدينية، يعتمد بناء منهجية علوم الحديث بشكل أساسي على مقاصد الشريعة من حيثُ إن علم أصول الفقه هو ما سيكون العمود الفقري للمنهجية الجديدة في علوم الحديث. 

وقد قدَّم أستاذ آخر في علوم الحديث في جامعة أنقرة، وهو خيري قاراباش أوغلو (مواليد 1954م)، مقترحًا مشابهًا لـ«منهجية حديثية بديلة»، وذلك من خلال مقاربة تصحيحية للحديث تلعب فيها مقاصد الشريعة دورًا فرعيًّا. ولئن كان نقد قاراباش أوغلو لمنهجية الحديث مشابهًا لنقد غورمز، إلَّا أنه -على عكسه- يعدُّ «السُّنة» مقابلًا لمفهوم «الإسلام»، مع الإشارة إلى القرضاوي وفضل الرحمن والشاطبي. فالسُّنة لا تقتصر على اللفظ، بل هي روح وحكمة، ومقاصدها موضَّحة في القرآن. ويجادل قاراباش أوغلو بأنه:

«علينا أن نفكِّر بجدية في الرأي القائل بأن السُّنة هي تفسير للقرآن وتطبيق له، وأن جذور السُّنة تُوجد في القرآن. ويعود أصل هذا الرأي إلى أُمِّ المؤمنين عائشة (ت 678م) (زوج النبي) قبل أن يتبنَّاه الشاطبي ... وأنه يجب أن يُنظر إلى السُّنة على أنها فتح للقرآن على الحياة»(57).

فالسُّنة هي نظرة للعالم (weltanschauung) تتألَّف من مبادئ تنظِّم الفرد والمجتمع والكون، ومهمَّة المؤمن هي تحديد المقاصد والأهداف العليا التي شكَّلت السُّنة والحديث(58). ومن ثَمَّ فإنه تُوجد حاجة إلى مقاربة تفسيرية أوسع للسُّنة والحديث تأخذ في الاعتبار مقاصد الشريعة. وبهذا، يقدِّم علماء مدرسة أنقرة -من خلال دعواتهم إلى تأسيس منهجية تأويلية موحّدة قائمة على الاجتهاد الموجّه نحو المقاصد- اقتراحًا تصحيحيًّا متماسكًا وشاملًا.

وفي هذه المقترحات «التصحيحية»، يلعب خطاب مقاصد الشريعة دورًا ثانويًّا في مشاريع فقهية أو تأويلية أو فلسفية أوسع، وكلها تُعطي الأولوية للأخلاق بدلًا من الشريعة. ومن ثَمَّ فإن الإشارات إلى مقاصد الشريعة لا تعمل بوصفها خطابًا مستقلًّا أو أداةً لإصلاح قانوني إسلامي. وبدلًا من ذلك، تُستخدم مقاصد الشريعة بوصفها أداة تقليدية أصيلة للتغيير القانوني ذات دور ثانوي في تشكيل فكرة أخلاقية للتجديد تتمحور حول الاجتهاد، ولها دور مساعد في بناء منهجية تأويلية جديدة.

الإصلاح على حساب التقليد: المقاصد مقابل الشريعة

إن المقاربة الشعبية للشريعة تفصلها بوضوحٍ عن «الإسلام» وتفصل الأخلاق عن القانون، وتُنشئ -من ثَمَّ- تصورات متعدِّدة بشأن المقاصد. فمن جهة أولى، نجد أن الشريعة في نظر العديد من المسلمين في تركيا تتعلَّق بالشرع، أي بالقوانين واجبة التطبيق. ومن ناحية أخرى، نجد أن مقاصد الإسلام تُفهم على أنها تتجاوز بكثيرٍ مجرَّد التطبيقات القانونية والسياسية وأنها أكثر ارتباطًا بالمبادئ الأخلاقية والروحانية العليا. فالمقاصد -من هذا المنظور السائد- تتجاوز الشريعة القانونية أو تجعلها ببساطة غير ذات صلة بالإسلام تمامًا.

ترتبط الشريعة بالجانب الخارجي للإسلام، لكن حقيقتها أو نواتها ولُبّها أعمق من ذلك بكثير وأعلى مقامًا.

ولذلك، ولكي يكون المرء مسلمًا، فإنه لا يحتاج حتى إلى التفكير في ماهية الشريعة، ما دامت مقاصد الدين واضحة جدًّا لجميع الناس، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين. ومن المهم ملاحظة أن تصوُّر الشريعة ليس قانونيًّا أو رجعيًّا بالضرورة عند جميع مَن يؤيد فصل الأخلاق عن القانون. فبعضهم يرى الشريعة أخلاقيةً حصرًا، ومن ثَمَّ ليس لها أيُّ محتوى قانوني أو مُلزِم. وكونهم مسلمين يعني اتباع الشريعة التي ليس لها أثر شرعي، وهذا ما يتبنَّاه العلويون ومختلف الجماعات الصوفية. فمعظم هؤلاء علمانيون بشكل صريح من الناحية القانونية والسياسية والتنفيذية، ويرون أن هذا مطلبٌ مهمٌّ ليكون المرء مسلمًا معاصرًا. ومن الواضح أن محتوى إسلامهم الأخلاقي -أي كرامة الإنسان ومساعدة المحتاجين والسعي إلى الصلاح والصفاء الروحي- مدفوعٌ بالمُثُل والمصطلحات الروحية الراسخة. وهكذا ترتبط الشريعة بالجانب الخارجي للإسلام، لكن حقيقتها أو نواتها ولُبّها أعمق من ذلك بكثير وأعلى مقامًا. وهذه المفاهيم الأخلاقية المتنوعة لـ«أهداف الإسلام العليا» أو «الحكمة الإلهية» تُغذّيها الصوفية والإسلام الشعبي، ولا تترك مجالًا لخطاب إصلاح قانوني بديل، وتكفّ الأفكار عن أن تكون إصلاحية إذا ما اعتمدت خطاب الشريعة.

ويستخدم محمد داغ (مواليد 1943م)، الأستاذ الفخري في علم الكلام في جامعة 19 مايو، يستخدم المقاصد في مثل هذا المنظور، وحجَّته غير مستوحاة من خطاب المقاصد الشرعي التقليدي، بل تتغذى أساسًا من فهم أخلاقي لمقاصد الشريعة:

«تختلف الأحكام الاجتماعية والسياسية باختلاف الزمان والمجتمع؛ ومن ثَمَّ فهي صالحة فقط في تلك الظروف. ومن ثَمَّ فإن القرآن لا يهدف إلى حكم أو تنظيم كل مجتمع بمثل هذه الأحكام. فالهدف الحقيقي للقرآن ... هو الارتقاء بالناس أخلاقيًّا»(59).

ويؤكِّد داغ أن الحاجة اليوم ليست إلى التجديد أو الإصلاح، بل إلى إعادة بناء عقلية علمية ووضعية(60)، وأنه غير مطلوب من الإسلام أن يُسهِم في نظرية المعرفة الحديثة؛ لأن هدفه الأساسي ومقصده الأسنى هو ضبط الإيمان والأخلاق. وعلى سبيل المثال، وفيما يتعلَّق بمسألة الحجاب، يؤكِّد داغ أن هدف القرآن ليس ضبط المظهر الخارجي للناس، بل تحقيق الطهارة الداخلية والعفَّة(61).

وتوجد مجموعة صغيرة من العلماء تفصل بين الشريعة والإسلام مستخدمةً في ذلك أصول الفقه. وبالنسبة إلى هؤلاء العلماء، فإن الديمقراطية العلمانية هي نظام إسلامي في جوهره؛ لأن الوصول إلى الحداثة العلمانية يعني تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية. ومن بين هؤلاء العلماء نجد أن يَشَار نوري أوزتورك (مواليد 1945م) هو العالم الوحيد الذي يُقيم مشروعه بكل وعيٍ على مقاصد الشريعة. وهو أستاذ فخري في جامعة إسطنبول ومحامٍ وكاتب رأي وسياسي يظهر بانتظام في وسائل الإعلام. وحجَّة أوزتورك الرئيسة هي أن الشريعة مع اختلافها عن الإسلام، إلَّا أن علماء الكلام والتقليديين خلطوها بالفقه المليء بالتناقضات وبعددٍ من الأحكام التي لم يُوجبها القرآن(62).

ويستخدم أوزتورك -وهو المتضلع في أصول الفقه- خطاب مقاصد الشريعة للتأكيد على حقيقة الدين، وهي حقيقة أعمقُ بكثيرٍ من جوانبه القانونية. ومن ثَمَّ فإن الشريعة الكلاسيكية هي طريقة الأمس. أما العلمانية -بحسب أوزتورك- فهي التي تحفظ قِيم الوحي الإلهي وأهدافه من خلال منع مأسسة الدين باعتباره القوة الشرعية المهيمنة(63).

فالعلمانية بالنسبة إليه هي نظرة كونية ونظام قانوني سياسي يقوم على معاملة الجميع على قدم المساواة بغض النظر عن التزاماتهم الدينية، ومبدأ العدالة هذا هو القيمة الجوهرية للقرآن. فالقرآن لا يسمح بالعلمانية فحسب، بل هو يشترطها. وبهذا، فإن العلمانية مطلب أساسي لكي يكون المرء مسلمًا معاصرًا ناضجًا. كما يؤكِّد أوزتورك كذلك أن الإسلام ضد الهيمنة الدينية وأنه ينبع من حق الاختيار الحر كما يؤكِّد القرآن وكما يذكِّرنا به بعض العلماء مثل الشاطبي. وبناءً على نظريته في مقاصد الشريعة، توصل أوزتورك إلى بعض الآراء المثيرة للجدل فيما يتعلَّق ببعض الممارسات الدينية. فعلى سبيل المثال، يرى أوزتورك أن الهدف الأعلى لطقس الأضحية هو إطعام الفقراء، وأنه تُوجد طرق أفضل لا دماء فيها لتحقيق هذا الهدف(64).

كما يرى أن الصلوات المفروضة يُمكن أن تُؤدى باللغة الأُم وبأشكال أكثر مرونةً مما يُصوّرها العلماء. كما يرى جواز الجمع بين الصلوات اليومية إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وهذا نقلًا عن الشاطبي(65). وفيما يتعلَّق بالحجاب، يرى أوزتورك أن القرآن والسُّنة أكثر تساهلًا بكثيرٍ مما ترى السلطات الدينية المزعومة(66). وفي مواجهة هذا «الاستبداد المقيت وغير الإسلامي» بالدين من قِبَل خبراء الدين، يدافع أوزتورك دائمًا عمَّا يُسميه «الإسلام القرآني»، مما يُعطي أولوية جذرية للالتقاء بالقرآن على حساب الفقه والمؤسسات التقليدية، مؤكدًا بذلك وبشكل قاطع أن الإسلام قرآنيٌّ بحت(67)

ولا يتعارض منظور أوزتورك للمقاصد مع منظور العلماء التقليديين فحسب، بل يتعارض أيضًا مع الرؤية المقاصدية السائدة، وخاصةً رؤية رئاسة الشؤون الدينية التي تحصر استخدام المقاصد في حالاتٍ غير مسبوقة في مجال المعاملات. ومن ناحية أخرى، يتَّهمه منتقدوه بأنه «إصلاحي»، بينما يعرِّف أوزتورك نفسه باستمرار بأنه مُجدِّد يُعيد بناء الإسلام وتجديده على أساس القرآن، وذلك على عكس الإصلاحي الذي يشتهر بعمله حسب نموذج «مستورد من الغرب»(68).

وعلى غرار الأصوات التقليدية التي تنتقد أفكاره، يرفض أوزتورك أن يُصنَّف على أنه «إصلاحي»، ويعلن أنه ضد الإصلاح ومع التجديد التقليدي. ولئن كان التوسُّع في تطبيق المقاصد الشرعية ليشمل العبادات أحد أهم الانتقادات الموجَّهة إلى أوزتورك كما في حالة التضحية بالحيوان أو الصلاة باللغة الأُم، إلى جانب استخدام المصلحة ومقاصد الشريعة لتجاوز القراءة «الحرفيَّة» للنص كما في حالة الحجاب، فإن ذلك لم يمنع -من ناحية أخرى- أن يتَّهمه المتطرفون العلمانيون بعدم فهم الأُسس الحقيقية للعلمانية التي لا يمكن التوفيق بينها وبين التدين(69).

خلاصات

ورثت تركيا المعاصرة تقاليدَ فكرية قوية وراسخة في التاريخ وغير قانونية (أو حتى مناهضة للقانون في بعض الأحيان) حول مقاصد الإسلام العليا والحكمة الكامنة وراء الشريعة. وقد أعاقت الفكرة السائدة التي ترى أن تلك المقاصد تتجاوز الخطابات القانونية ظهورَ بيئة مفاهيمية وأخلاقية وكلامية وسياسية تجعل من المقاصد العليا أداةً قانونية واعية لإصلاح إسلامي يكون وفيًّا لروح القرآن والسُّنة. كما كان لوجود أدوات بديلة للتغيير القانوني داخل أصول الفقه -مثل الاجتهاد والإجماع والعُرْف والمصلحة- دورٌ مهمٌّ في عملية الإصلاح. وإلى جانب التصور الأخلاقي القانوني التقليدي للشريعة، نجد تصورين موجودين بالفعل يفصلان الأخلاق عن القانون، وقد اكتسبا قوتهما من مصاحبتهما مسار الإصلاحات في أواخر الإمبراطورية العثمانية.

ومنذ ذلك الحين، أضحى يُنظر إلى الشريعة إما بوصفها دليلًا أخلاقيًّا للحياة دون أي محتوى قانوني، أو على أنها نظام قانوني حصرًا منفصل عن الإسلام يحتاج إلى الإصلاح أو التخلي عنه تمامًا. وفيما يتعلَّق بمفهوم «الإصلاح»، فقد تمَّ تصوُّره في الغالب على أنه تدخل أجنبي وتهديد للتراث الكلاسيكي. ولذلك، لم يُوظَّف مفهوم مقاصد الشريعة لدعم مطلب الإصلاح الإسلامي بهذا المعنى. وبدلًا من ذلك، فإن مفهوم «التجديد» هو الذي حظي بالقبول للتعبير عن التغيير الأصيل في التقليد القانوني الأخلاقي المرن بطبيعته. ويستخدم العلماء التقليديون الأكثر إلمامًا بأصول الفقه مقاصدَ الشريعة للتعبير عن التقليد وعن التجديد داخل التقليد، أي في تعارضٍ مع الإصلاح، في حين يستخدم العلماء التصحيحيون مقاصد الشريعة لدعم مشاريعهم التأويلية الأوسع، وبناء منهجية شاملة للعلوم الإسلامية قائمة على الاجتهاد. وأخيرًا، يقترب العلماء العلمانيون من الإصلاح الإسلامي القانوني من خلال التفكير الموجَّه نحو المقاصد، حيث تقترب مقترحاتهم من إسلام خالٍ من الشريعة.


الهوامش

(1) Binnaz Toprak & Ali Carkoğlu, Religion, Society and Politics in a Changing Turkey, trans. Ciğdem Aksoy Fromm, ed. Jenny Sanders (Tesev, 2006), 81.

(2) Hakan Yavuz, “Islam without Shariʻa?” in Shariʻa Politics, ed. Robert Hefner (Bloomington: Indiana University Press, 2011), 149.

(3) Ibid., 164–165.

(4) Ibid., 152.

(5) Ibid.

(6) Bernard Weiss, The Spirit of Islamic Law (Athens: University of Georgia Press, 1998), 56–58.

(7) Yavuz, “Islam without Shariʻa?” 173–174 (emphasis mine).

(8) نحن نتابع أحمد عاطف في ترجمة لفظ «المصلحة» بـ (utility) بدلًا من (good)، مما يستحضر موضوعات أرسطية «لا صلة لها بالسياق الإسلامي وتميل إلى إرباك القارئ بدلًا من توجيهه». انظر:

Ahmad Atif Ahmad, Structural Interrelations of Theory and Practice in Islamic Law (Brill, 2006), 142.

(9) Yavuz, “Islam without Shariʻa?”, 166–167.

(10) Hayrettin Karaman, İslam’ın Işığında Gunun Meseleleri, vol. 2 (İz Yayıncılık, 2003), 82–83.

(11) Hayrettin Karaman, Yeni Gelişmeler Karşısında İslam Hukuku, 2nd ed. (İklim Yayınları, 1987), 50–54.

(12) Hayrettin Karaman, “Laikliğin Tarifi (3),” Yeni Şafak, October 27, 2006.

(13) Hayrettin Karaman, “Batı ve İslami Maksatlar,” Yeni Şafak, October 6, 2011.

(14) للحصول على الرواية التقليدية الموازية لحسنو أكتاس (مواليد 1950م) (الاسم المستعار ليوسف كريم أوغلو)، الذي تظهر كتاباته في مجلة ميساك (Misak) شديدة المحافظة التي يمتلكها، انظر:

Yusuf Kerimoglu, Fıkhi Meseleler (Olcu Yayınları, 1987), 109–124.

(15) Nihat Dalgın, “Ozel Gunlerdeki Kadınların İbadeti”, İslam Hukuku Araştırmaları Dergisi, 9 (2007), 387.

(16) Nihat Dalgın, “İslam Hukuku Acısından Musluman Bayanın Ehl-i Kitap Erkekle Evliliği”, İslam Hukuku Dergisi, 2 (2003), 131–156.

(17) Mehmet Erdoğan, İslam Hukukunda Ahkamın Değişmesi (MUİFV, 1990), 55.

(18) Bediuzzaman Said Nursi, Risale-i Nur Kulliyatı: Kaynaklı, İndeksli, Lugatli, II vols (YeniAsya, 1994), 1159–1160, 1848–1850.

(19) “Fethullah Gulen Bir Reformist Midir?”, Fethullah Gulen, last modified January 26, 2012 (accessed June 17, 2013), http://tr.fgulen.com/content/ view/20201/5/.

(20) “Fethullah Gulen Bir Reformist Midir?”.

(21) “Bediuzzaman’ı Anlamak Uzerine”, Metin Karabasoglu (accessed June 17, 2013), http://www.cevaplar.org/index.php?content_view=3676&ctgr_id=138.

(22) Tahsin Gorgun, “Dunyevileşme ve Makasıd,” Din ve Hayat, 3 (2011), 14–15.

(23) Ibid., “Dunyevileşme ve Makasıd,” 14–15.

(24) Tahsin Gorgun, “Siyasallaşan Dunyada Dini İlimlerin Değişen Statuleri”(paper presented at Turkiye’ de İslamcılık Duşuncesi Sempozyumu, Istanbul, May 17–19, 2013).

(25) Gorgun, “Siyasallaşan Dunyada Dini İlimlerin Değişen Statuleri.”

(26) المرجع نفسه. كان من أهم مشاريع الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر تدوين الشريعة بين عامي 1869 و1876 م مع «المجلة» التي ظلَّت سارية المفعول حتى إلغائها عام 1926م.

(27) “Diyanet Kurul Kararları, 2005,” PRA (accessed June 17, 2013), http://www. diyanet.gov.tr/turkish/dy/KurulDetay.aspx?ID=1134.

(28) “Diyanet Kurul Kararları, 1980,” PRA (accessed June 17, 2013), http://www. diyanet.gov.tr/turkish/dy/KurulDetay.aspx?ID=3.

(29) “Diyanet Kurul Kararları, 2000,” PRA (accessed June 17, 2013), http://www. diyanet.gov.tr/turkish/dy/KurulDetay.aspx?ID=8.

(30) Ahmet Yaman, ed., Makasıd ve İctihad (Yediveren Yayınları, 2002).

(31) Rahmi Telkenaroglu, “Makasıd İctihadına Dayanan Kulli Kaideler,” Usul, 10 (2008), 39.

(32) Yaman, Makasıd ve İctihad, 11, 178.

(33) Yunus Vehbi Yavuz, “Maksadi Yorum,” İHD, 8 (2006), 41.

(34) Yunus Vehbi Yavuz, “Kur’an Hukumlerinin Amacları” (Bursa, 1988), 1–33.

(35) Yaman, Makasıd ve İctihad, 180.

(36) Ibid., 185–190.

(37) المرجع نفسه، ص224-225. يشير يمان هنا إلى أن مقاصد الشريعة عرضة لخطر دائم -على حد تعبير خالد أبو الفضل- من استدعاء «سلطة المؤلف (الله) لتبرير استبداد القارئ. يمكن للإنسان فقط أن يمثّل جهوده في البحث عن هذه الحقيقة ... والله أعلم». انظر:

Khaled Abou El Fadl, “Islamic Authority”, in New Directions in Islamic Thought, ed. Karl Vogt et al. (I.B. Tauris, 2009), 129.

(38) Ahmet Yaman, “Dinin Kaynağı Ben Miyim”, Timeturk, August 17, 2011.

ومع ذلك، يجب أن يكون المرء حذرًا للغاية بشأن عدم إبطال الإجماع عند يمان. انظر:

Ahmet Yaman, “İslam Hukuk Mirasını Algılama ve Uygulama Yontemi Uzerine”, Divan, 13 (2002/2), 309–310).

(39) Ali Pekcan, İslam Hukukunda Gaye Problemi, 2nd ed. (Ek Kitap, 2012).

(40) بشأن الخطوات الأولى لتطبيق مقاصد الشريعة «كمفتاح لحقوق الإنسان الإسلامية الأصيلة»، انظر:

Recep Ardoğan, “İslam’da İnsan Haklarının Teolojik Değeri” (paper presented at İnsan Haklarında Yeni Arayışlar Sempozyumu, May 27–29, 2006), 277–304.

(41) Mohammad Hashim Kamali, Maqasid al-Shari’ah Made Simple (IAIS, Malaysia, 2008), 11–15.

(42) Sherman Jackson, “Literalism, Empiricism, and Induction”, Michigan State Law Review (2006), 1479–1480.

(43) See, for example, Yunus Vehbi Yavuz, “Dindarlıkta Reform”, Habervaktim, February 22, 2009.

(44) Ahmet Yaman, “Nasdan Olguya Başortusu”, EskiYeni, 8 (2008), 103–108.

(45) Yaman, Makasıd ve İctihad, 187–190.

(46) Pekcan, İslam Hukukunda Gaye Problemi, 191–192.

(47) Ibid., 156–157, 308, 406.

(48) Felix Korner, Revisionist Koran Hermeneutics in Contemporary Turkish University Theology (Ergon Verlag, 2005), 60.

(49) See Mehmet Pacacı, Kur’an ve Ben Ne Kadar Tarihseliz? (Ankara Okulu, 2000), 34.

(50) Pacacı, Kur’an ve Ben, 48, 65.

(51) Ibid., 49–50.

(52) Ibid., 50–51.

(53) Ibid., 50.

وللحصول على اقتراح موازٍ موجَّه نحو المقاصد لمنهجية تأويلية جديدة تتماشى مع أبي زيد، انظر:

Mustafa İslamoğlu, “Lafız, Mana, Maksat”, Yeni Şafak, April 8, 2000.

(54) Mehmet Gormez, “Sunnet ve Hadis’in Anlaşılması ve Yorumlanmasında Metodoloji Sorunu”, Journal of Islamic Research, 10 (1997), 35.

(55) Ibid., 35–39.

(56) Ibid., 38.

(57) Hayri Kırbasoglu, İslam Duşuncesinde Sunnet. Eleştirel Bir Yaklaşım (Ankara Okulu, 2001), 238–239.

وينتقد التقليديون بشدَّة هذا التعريف للسُّنة. انظر على سبيل المثال:

Hayrettin Karaman, “Maksat İslam’ı Kuşa Cevirmek Değilse”, Altınoluk, 114 (1995), 41–44.

(58) Kırbasoglu, İslam Duşuncesinde Sunnet, 89–90, 111–116.

(59) Mehmet Dag, “İslam’da Ortunme Uzerine”, İslam İlimleri Enstitusu, 5 (1982), 191.

(60) Mehmet Dag, “İslam Dininde Reform, Ama Nasıl?”, Cumhuriyet, October 4, 2004, 2.

(61) Dag, “İslamda Ortunme Uzerine”, 190.

ويُظهر هجوم محمد أردوغان المباشر على وجهة نظر داغ الأخلاقية حول حجاب النساء على أساس مقاصد الشريعة، يُظهر مدى التوتُّر بين المفاهيم المتضاربة للمقاصد الإلهية. انظر:

Erdoğan, İslam Hukukunda Ahkamın Değişmesi, 55.

(62) Yaşar Nuri Ozturk, Kur’an Verileri Acısından Laiklik (Yeni Boyut, 2003), 45.

(63) Yaşar Nuri Ozturk, Din ve Fıtrat (Yaradılış), 2nd ed. (Yeni Boyut, 1992), 33–34.

(64) Yaşar Nuri Ozturk, İslam Nasıl Yozlaştırıldı? (Yeni Boyut, 2000), 407.

وقد تعرضت هذه الحجة المقاصدية للهجوم لا من قِبَل التقليديين فحسب، بل كذلك من قِبَل رئاسة الشؤون الدينية وعلماء المقاصد الذين يتبعون الخط التقليدي مثل يمان. انظر على سبيل المثال:

Yaman, Makasid ve Ictihad, 187.

(65) Yaşar Nuri Ozturk, Kur’an Uyarıyor (Tevhid Mucadelesi), 4th ed. (Yeni Boyut, 1999), 52.

(66) Yaşar Nuri Ozturk, Kur’an’ı Anlamaya Doğru, 10th ed. (Yeni Boyut, 1999), 237–239.

(67) Yaşar Nuri Ozturk, İslam’ı Anlamaya Doğru, 3rd ed. (Yeni Boyut, 1997), 165.

ومن المثير للاهتمام أن هذا الدور المتميز الممنوح للقرآن كان علامة رئيسة لعلماء مقاصد الشريعة الكلاسيكيين أيضًا. يرى وائل حلاق أن هذا التركيز المفرط على القرآن كان السبب الرئيس لعدم توافق خطاب مقاصد الشريعة مع النظرية القانونية المعقَّدة للغاية. انظر:

Felicitas Opwis, Maslaha and the Purpose of the Law (Brill, 2010), 331.

(68) Ozturk, İslam’ı Anlamaya Doğru, 164–165; Ozturk, Kur’an Uyarıyor, 202–204.

(69) يجمع ياسين جيلان -أستاذ الفلسفة في جامعة الشرق الأوسط التقنية- بين هذين النقدين في قراءته لأوزتورك. انظر:

“Yaşar Nuri Ozturk’un Misyonu”, Yasin Ceylan (accessed June 17, 2013), http://www.phil.metu.edu. tr/yceylan/works/ysr-nr-ztrk.html.