الشعبوية والدين
هذا الفصل من دليل أوكسفورد للشعبوية، كتبه: جوزيه بيدرو زوكيتي، وترجمه للعربية: إسلام أحمد. (النص الأصلي)
مُلَخص
ظلَّت دراسة العلاقة بين الشعبوية والدين لوقت طويل حقلًا غير مطروق في مجال البحث العلمي الاجتماعي، وتُقدِّم هذه الورقة نظرة شاملة عن الشعبوية الدينية التي تُعَدُّ نمطًا فرعيًّا من الشعبوية، وستُحلَّل الشعبوية الدينية في بُعدَيْها: ١) التمظهر الديني الواضح المتمثِّل في تسييس الدين.٢) التمظهر الديني الخفي المرتبط بعملية تقديس السياسة في المجتمعات المعاصرة، وتُختَتَم الورقة بنقاشٍ حول العلاقة بين السياسة والدين ومدى الحاجة إلى التركيز على التقاطُعات المتكرِّرة بين المجالَيْن.
«إن العلاقة بين الشعبوية والدين واضحةٌ وضوحَ الشمس» «هكذا يُقرِّر أحد الباحثين في الشعبوية (Zanatta, 2014)، ومع أن هذا هو الواقع فعليًّا، إلا أن دراسة العلاقة الخاصة بين ظاهرة الشعبوية والدين لم تُحقق تقدُّمًا ملحوظًا، بل ظلَّت مجالًا بحثيًّا مُهمَلًا (Mudde, 2015: 446)، ومن جهة التعريف الأيديولوجي للشعبوية -المتَّبَع في هذه الورقة- يكاد يكون هناك إجماع على العناصر الأساسية للظاهرة أو الحد الأدنى من جوهرها المفاهيمي. وباختصار، فإن الشعبوية تربط السياسةَ بإرادة الشعب وتجعل عالم السياسة قائمًا على التعارُض العمودي بين فئتَيْن متجانستَيْن متعاديتَيْن تمامًا وهما: الشعب والنخبة، ثم يُطلَق على كل فئة منهما حكم مختلف، فالشعب مفخَّم وموصوف بأوصاف التعظيم، أما النخبة فمُدانة (Woods, 2014: 3–5)، ويُصوّر هذا الصراع على أنه صراع بين الخير والشر، ولذلك فإن دراسي الشعبوية كثيرًا ما يلجؤون إلى كلمة «المانوية» (Manichaeism) ذات الأصل الديني(١) لوصف مركزية هذه المثنوية في الرؤية الشعبوية للعالم (Hermet, 2007: 81; Hawkins, 2010: 5; de la Torre, 2015: 9). ومع وضع هذا «الحد الأدنى الشعبوي» (populist minimum) في الاعتبار (Abromeit et al., 2016: xiii)، فلا بُدَّ من النظر إلى الصلة بين الشعبوية والدين بوصفها جزءًا من نمط فرعي من الشعبوية (de la Torre and Arnson, 2013b: 375; Rovira Kaltwasser, 2015: 216).
ولأن الشعبوية الدينية (religious populism) تعمل من خلال الفاعلين الدينيّين أو السياسيّين وما يرتبط بهم من قواعد انتخابية، فإنها تشترك مع الشعبوية في مركزها المفاهيمي، ولكنها تُعِيد إنتاجها في نغمة أو طريقة دينية مخصوصتَيْن (Apahideanu, 2014: 77)، فالشعبوية الدينية ذات بُعدَيْن، ولن يكون بإمكاننا الوصول إلى رؤية شاملة لدورها في المجتمعات المعاصرة إلا من خلال النظر إلى جانبَيْ هذا النمط الفرعي من الشعبوية كلَيْهما، وأحد بُعدَيّ الشعبوية ديني صريح بمعنى أنه يتشكَّل من خلال الدين، إذا فهمنا الدين بالمعنى الضيق بوصفه علاقة مع المجال الإلهي، ويرتبط هذا التمظهُر للشعبوية الدينية غالبًا -ولكن ليس بالضرورة- بالأديان التقليدية المنظمة، ويُعلِن أنه يتبع أو يُحقِّق إرادة الله الذي تشعر الجماعات [الدينية] أو تؤمن بأن لها علاقة مميزة معه. وباختصار، فهؤلاء الشعبويون يرون أنهم «ينوبون» عن الله في محاربة أعدائه. أما البُعد الثاني للشعبوية الدينية فهو بُعدٌ ديني خفي، يتعلَّق بـ«تقديس السياسة» (sacralization of politics) في المجتمعات المعاصرة، إن هذا البُعد ديني بالمعنى الأوسع لكلمة الدين؛ إذ يرتكز قبل كل شيء على تجربة المقدَّس والوظيفة التي يؤدِّيها عبر تمييز الجماعة -بمهمتها العلمانية الدنيوية- عن غيرها، بوصفها قوة مُطلَقة متعالية(transcendent) من شأنها أن تُغيِّر سياسات الشر اليومية الدنيوية تمامًا، وعلى الرغم من أن هذَيْن الجانبَيْن من الشعبوية الدينية ينبغي أن يظلَّا متميّزَيْن، فإنهما يتشابَكان ويَتلاقَحان، والأهم من ذلك أن العلاقة الخاصة مع القوة الإلهية العُليا قد تظهر أحيانًا -في بعض الحالات (الاستثنائية) المتطرفة- في دعاوى الجانب الديني الخفي من الشعبوية الدينية.
يتناوَل القسمان التاليان بُعدَيّ الشعبوية الدينية: تسييس الدين وتقديس السياسة، ثم يُقدِّم الجزء الأخير من النص -تماشيًا مع أهمية النموذج الاستنتاجي- التجريبي في دراسة الشعبوية (Moffitt and Tormey, 2014: 390; Woods, 2014: 7–9) توصيفًا تجريبيًّا أكثر تفصيلًا لأمثلة من الشعبوية الدينية في القرن الحادي والعشرين في أوروبا وأمريكا اللاتينية (بمثالَي «الجبهة الوطنية» في فرنسا (Front National) [حاليًا «والتجمُّع الوطني» (Rassemblement National)] في ظل قيادة جان-ماري لوبان Jean-Marie Le Pen، والثورة البوليفارية Bolivarian Revolution بقيادة الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز Hugo Chávez).
الشعبوية الدينية (١): الشعبوية وتسييس الدين
لَطالما فسَّرت الدراساتُ التي أُجرِيَت حول الجماعات أو الحركات الشعبوية الدينية التي تتبنّى صراحة تفسيرًا مُتعاليًا (transcendent) للواقع الإنساني -(قد يتضمَّن علاقة ما مع الغيبي) في الجزء الأكبر منها- تلك الجماعات والحركات من خلال عدسات مفهوم «تسييس الدين» (politicization of religion)، الذي يُشير إلى الطرق التي كانت الأديان تعمل من خلالها -قديمًا وحديثًا، سواء في الأشكال المعتدلة أو المتطرفة (Linz, 2004: 111–12)- على شرعنة نظام اجتماعي ما أو نظام حكم معين أو مجتمع سياسي مخصوص ضد القوى الهدَّامة، وفي حالة الشعبوية الدينية، فإن هذا [المفهوم] يعني استخدام ديانة سماوية أو نصية من أجل مُبارَكة قضية ما، وتتَّبع رؤيةُ العالم التي يعتنقها هؤلاء الشعبويون إملاءات الكتب أو التعاليم المقدسة التي يؤمنون بأنها وحيٌ إلهيّ، وعادة ما يُشيرون في صراعهم مع أعداء الشعب المُفترَضين إلى تلك النصوص والكلمات المقدسة (متخذين دورَ المفسرين)، وذلك لتبرير دورهم وتصرفاتهم وأهدافهم الأوسع، ولا تقتصر الطريقة التي يتبدَّى من خلالها هذا النوع من الشعبوية الدينية على أي ديانة بعينها، بل هي عابرة للاختلافات العقدية والانقسامات الطائفية.
المسيحية
إن المثال التاريخي الأول للشعبوية الدينية الذي عادة ما يُشار إليه في الأدبيات العلمية بوصفه الحركة الشعبوية الأولى، هو «حزب الشعب» الأمريكي(People’s Party) الذي اشتهر في تسعينيات القرن التاسع عشر، وقد كانت «الإنجيلية» (evangelicalism) هي الإطار الأبرز الذي كانت هذه الموجة الشعبوية الأهلية -التي تشكَّلت في غالبها من الفلاحين والعمال في ولايات «الجنوب العميق» والولايات الغربية [في أمريكا]- تنظر من خلاله إلى المسائل الاقتصادية والسياسية في زمنها، وقد تمثَّل عملهم في إعادة إحياء العلاقة المفقودة مع الحقوق والحريات والقيم غير القابلة للتصرف التي منحها الله لأمريكا التي كانت تتعرَّض لهجوم النخَب (ومعظمهم من الأثرياء والمؤسسة السياسية الحاكمة، بل وكل صاحب سُلطة بما في ذلك رجال الدين التقليديون)؛ إذ أقامَت تلك النخَب -وبصورة جائرة- مجتمعًا ظالمًا وقمعيًّا وغيرَ أخلاقي، وبهذا النحو «وبينما كانت مُثُلهم الدينية تضع معالم الطريقة التي فهم بها الشعبويون أنفسَهم وحركتَهم، كانوا يؤطِّرون إصلاحاتهم السياسية والاقتصادية ضمن سردية كونية كبرى تؤلِّب قوى الرب والديمقراطية ضد قوى الشيطان والطغيان».
وتعهَّد الشعبويون من خلال العمل السياسي -في خطابهم الموجَّه إلى قاعدة انتخابية تستوعب اللغة الدينية- بإعادة البلاد إلى المسار الذي مَنَّ الله به على أمريكا.
علاوة على هذا «وبينما قاموا بذلك، أدَّت هذه الأنماط الفكرية إلى شحن الحركة بحسٍّ مقدَّس -بل بحس رُؤيَويّ قياماتي- بإلحاح المهمة والحاجة إلى الاستعجال في إنجازها» (Creech, 2006: xviii–xix)، ولهذا السبب انحاز الكُتَّاب والخطباء الشعبويون إلى الإرث التنبّؤي، و«استدَعَوا -مرارًا وتكرارًا- نزولَ حساب الله -ومراده للأمة الأمريكية- بالمذنبين الدنيويين الذين جمعوا ثرواتهم ظُلمًا ووظَّفوا قوتهم ونفوذَهم لإبقاء الناس العاديين مستعبَدين» (Wiliams and Alexander, 1994: 7)، وتعهَّد الشعبويون من خلال العمل السياسي -في خطابهم الموجَّه إلى قاعدة انتخابية تستوعب اللغة الدينية- بإعادة البلاد إلى المسار الذي مَنَّ الله به على أمريكا، ومع اقتراب القرن العشرين تساءل جيمس ويفر (James B. Weaver) الخطيبُ الشعبوي والبطلُ السابق في الحرب الأهلية [الأمريكية] قائلًا: «ألا يُمكننا أن نعتقد -باحترام- أن نضال الشعب المضطهَد في يومنا هذا من أجل إعادة استثمار طاقاتهم في أراضيهم وأموالهم وطُرُقهم هو أيضًا أمرٌ سماوي؟» (Wiliams and Alexander, 1994: 8).
من الواضح أن خطاب تسييس الدين ينتشر في جغرافيا واسعة، وأن نطاقه لم ينكمش في العالم العلماني -المزعوم- المعاصر، ففي تسعينيّات القرن الماضي وحتى العقد الأول من القرن الحالي، شهدت اليونان إفصاحَ بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية عن خطاب شعبوي، وقد ارتبط خطاب تسييس الدين هذا بمسألة الدفاع عن الهُوية الوطنية لليونان -المرتكزة على الثقافة الهلِّينية والمذهب الأرثوذكسي- ضدَّ قوى الشر وأعداء «شعب الله المبارَك»، وعلى نحو شعبوي بامتياز، قام رئيس الأساقفة كريستودولوس (Archbishop Christodoulos) بتقسيم المجتمع إلى معسكرَيْن متصارعَيْن، وفرَّق «بين ‹نحن› قوى الرب/الطيّبين (أي الشعب كما تُمثِّله الكنيسة تحت ظل الرب) و‹هُم› (الحكومة المُلحدة التحديثية العقلانية القمعية)»، وفي خطابٍ وجَّهه إلى أولئك الذين أرادوا تقويض الأسس التقليدية لليونان، حذَّرهم قائلًا: «إنكم تضيِّعون وقتكم… فـ‹شعب الله› لا يَتْبَعكم… وأنتم لا تُعبِّرون عن الشعب» (Stavrakakis, 2005: 242–3, 241).
ويبدو أن الشعبوية الدينية قد نمَت في بولندا في حقبة ما بعد الحرب الباردة أيضًا، وذلك عبر أنشطة القس الكاثوليكي الأب تادِيوِش ريدزيك (Father Tadeusz Rydzyk) وشبكته الإعلامية، وقد كانت محطة «راديو ماريّا» (Radio Maryja) الإذاعية -التابعة للأب ريدزيك، ويتكون جمهورها الأساسي من البولنديّين الريفيّين كبار السن- تدعو إلى نسخة معينة من الكاثوليكية البولندية بوصفها «أيديولوجيا نضالية» تُمثِّل الإذاعة تجسيدًا لها (Porter-Szucs, 2011: 271). ورؤيتها تُقسِّم العالَم إلى المؤمنين (الأناس الطيّبين ولكنهم مستبعَدون ومُحبَطون) وأعدائهم الشيطانيّين -أعداء الرب والإنسان معًا، وقوى الشيطان المخلِصة- وأحيانًا يُصوَّرا ويُعبَّر عنهم على نحوٍ تآمري مع لمسات معادية للسامية ومناهضة للماسونية، وقد تسلَّلت هذه القوى الشيطانية العازمة على تدمير الأمة وكنيستها، إلى مؤسسات البلاد (والكنيسة) وسيطرت عليها، وقد وَجَّه الفاتيكان والأسقفية البولندية اللومَ والتوبيخ -مرارًا وتكرارًا- إلى هذا الخطاب الديني المُسيَّس (Buzalka, 2005; Stępińska, Lipiński, Hess, and Piontek, 2016).
هناك اختلاف آخر في الشعبويات الدينية، هو أن بإمكانها أن تنشأ أيضًا من داخل حركة شعبوية علمانية أكبر، وهذا هو الحال مع «إنجيليّي الشاي» (Teavangelicalism) (Brody, 2012)، وهم تيار نشأ من أول حركة شعبوية يمينية في الولايات المتحدة خلال القرن الحادي والعشرين، وهي «حزب الشاي» (Tea Party) (الذي تمتَّع منذ بدايته بدعم قوي من الإنجيليّين)، ومن جهة مبرِّرات «إنجيليّي الشاي» هؤلاء للانخراط في العمل السياسي، فإنهم يرَون أن المسائل الاجتماعية جزء من عملية التعبئة، ولكن الدفاع «التوراتيّ» عن حكومة صغيرة ومُحافظة مالية -ترتكز على تفسير «أخلاقيّ» للاقتصاد- هو أيضًا جزءٌ مهم من هذا الانخراط السياسي الجديد، أما الحكومة دائمة التمدد والتوسع التي تتحوَّل إلى دولة قمعية هائلة، فينظر إليها «إنجيليّو الشاي» على أنها تناقض المنظور الأخلاقي لنصوص الكتاب المقدَّس جوهريًّا وتُهدِّد جميع الأمريكيّين، فـ«الحكومة الضخمة» (big government) تُسهِّل حُكمَ القلِّة للكثرة، وتُعطي نفوذًا غيرَ محدود لأقلية تستحوذ على السلطة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى القمع المُدان على نطاقٍ واسع في الكتاب المقدَّس، وتُؤطَّر الحملة لإقامة حكومة محدودة دستوريًّا ضمن هذا الدفاع عن الحرية (وهو مبدأ وهبه الله للبشر) ضد الاستبداد، وفي نهاية المطاف ضد الاستعباد.
وكما يرى جوناثان ويكفيلد (Jonathan Wakefield) مؤلف كتاب «إنقاذ أمريكا: رؤية مسيحيئة لحركة «حزب الشاي» (Saving America: A Christian Perspective of the Tea Party Movement)» فحتى الإنفاق الحكومي الذي صار خارجًا عن السيطرة، هو جزء من عملية إخضاع الأمريكيّين والأجيال القادمة لحياة من العبودية مُحدَّدة سلفًا، لدفع الضرائب من أجل سداد الدين الخارج عن السيطرة، وتعاليم العهد الجديد من إنجيل مَتَّى تقول: إنه «لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سَيِّدَيْن»، وهو ما يراه «إنجيليّو الشاي» تخييرًا بين إقامة حكومة يقودها ملكٌ من ملوك الدنيا أو إقامة حكومة الرب وحده لا شريك له، إن هذه التعاليم قوة حافزة لكثير من النشاط الإنجيليّ ضمن حركة «حزب الشاي».
وبِناءً على هذا، فإن الآفاق السياسية لـ«إنجيليّي الشاي» واسعة، فالسرديات الداخلية تزعم أن الهدف هو إعادة أمريكا إلى جذورها المسيحية اليهودية، وهو ما يجعل نشاطهم السياسي يتوجَّه نحو إصلاح أوسع للمجتمع، لا إلى تغييرات تجميلية ضئيلة تعجز عن عكس اتجاه الانهيار الأمريكي، وليس من الغريب أن نجد أيضًا في دوائر «إنجيليّي الشاي» إشارات إلى «صحوة»، بوصفها تقريبًا مُتجدّدًا بين الناس والرب (ضد النخَب السياسية والاقتصادية والثقافية الشريرة)، وهذا بالطبع يعني أن أعضاء «حزب الشاي» -من منظور «إنجيليّي الشاي»- يجب عليهم أيضًا أن ينخرطوا -بشكلٍ حاسم- على المستوى الثقافي -وهو الساحة التي تُتَداوُل فيها الأفكار وتتشكَّل فيها القيم الروحية- لمُجابَهة السيطرة اليسارية على الثقافة الشعبية والقطاع الترفيهي (Wakefield, 2013).
وأخيرًا، وضمن التكوينات السياسية العلمانية أيضًا، قد تظهر ديناميات تسييس للدين تُوظَّف فيها المسيحية (أو العالم المسيحي على وجه الدقة) لتصبح أحد المُحدِّدات الأساسية للهُوية، وليس بالضرورة بوصفها مسألة إيمانية أو التزامًا دينيًّا، وقد وقَع هذا -على سبيل المثال- في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين حين استند كثير من الحركات الشعبوية اليمينية الأوروبية إلى ارتباطهم بـ«الهُوية المسيحية لأوروبا» بوصفها وسيلة لتمييز الشعب الأصلي الصالح وثقافته العريقة عن ثقافة «الآخَر» الخطِر المُهدِّد (شبح «أسلمة» القارة). وفي هذه الحالة، فإن الانتماء الثقافي لا الاعتقاد الديني، هو ما يُحدِّد مسألة طريقة استحضار الدين (Marzouki et al., 2016).
الإسلام
دومًا ما يَستدعي الشعبويون الدينيون الآخرون نضالَ «الشعب المضطهَد» -حتّى وإن جرى تفسيره في سياقات دينية متنوعة، وكان لأهداف مختلفة- للاحتجاج به في تسويغ أفعالهم بوصفها إنفاذًا لما يعدُّونه الأمر «الإلهي» أو تماشيًا معه. ومن الأمثلة على هذا، صعود الإسلام السياسي بوصفه «تسييسًا متطرفًا لديانة تقليدية» (Payne, 2008: 31)، وقد كانت نقطة الانطلاق الأساسية للشعبوية الدينية الإسلامية هي تسييس المذهب الشيعي في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979م، حين أعلن آية الله الخميني -بوصفه مفسّرًا للتراث الديني- أن القضية الثورية هي قضية «المحرومين» في مقابل النخَب التقليدية (Halliday, 1982–3; Alamdari, 1999: 32)، وقد برز التفسير الديني للأحداث مرة أخرى -مصحوبًا برؤية مسيحانية [في السياق الإسلامي: مهدوية] (messianism) واعتقادٍ بعودة الإمام الغائب- خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد (٢٠٠٥-٢٠١٣م)، الذي تعهَّد -بصفته «رجل الشعب»- بـ«العودة إلى مُثُل» الثورة الإسلامية في معارَضة -غالبًا- لطبقة رجال الدين الحاكمة، وهو ما يستحق قطعًا إدراجه تحت هذا النمط الفرعي للشعبوية الدينية (Dorraj, 2014: 134–40).
وحُلِّل «الجهاد العالمي» الذي ما زال ضمن الإطار الواسع للإسلام السياسي، بوصفه «شكلًا معاصرًا للشعبوية الدينية»، فقد أسس سرديَّة ترى أن الأمة الإسلامية قد تدنَّست بمجتمع «الجاهلية»، وهو مصطلحٌ يُشير إلى ما كان في الجزيرة العربية من شرك قبل الإسلام، ولكنه «يُلصَق [أيضًا] بالدول القومية العلمانية الحديثة، والثقافة العالمية التي يُهيمن عليها الغرب، والنخَب التي تُسيِّر تلك الدول وهذه الثقافة»، و«مهمة الجماعة المؤمنة أن تنهض وتُعلِن الجهاد من أجل صدِّ الكفر الأكبر، واستعادة الوطن المقدَّس للمؤمنين» (Yates, 2007: 129–30)، وحتى إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من العمل لاستخلاص الأُطُر الشعبوية التي وُلِدت -في سياقات مختلفة تمامًا- من رحم الإسلام السياسي (كي لا تضيع وسط الحِمَم الدينية)(٢)، فقد كان هذا الأمر -في مشهد الشعبوية الدينية- هو بالتأكيد التعبير الأكثر تطرُّفًا وعنفًا عن الحاجة التي يشعر بها الشعبويون الدينيون دائمًا إلى المواءمة بين العالم العلماني(secular) والعالم المتعالي (transcendental).
وأخيرًا، يجب الإضافة هنا أنه في المجتمعات المسلمة المعاصرة، يمكن أن تقتصر هذه التعبئة الشعبوية للأمة -بوصفها وكيلة عن «الشعب» ضدَّ النخب الخبيثة- على حدود الدولة القومية، وقد تنطوي أو لا تنطوي -على الأقل صراحة- على الدعوة إلى إقامة دولة تقوم على الشريعة الإسلامية، فهذه «الشعبوية الإسلامية الجديدة» في القرن الحادي والعشرين -في أماكن مثل مصر وتركيا وفي إندونيسيا بدرجة أقل- تجمع تحت مظلَّة أمة متجانسة ومهمَّشة، مجموعةً واسعة من الفئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحرومة في مواجهة نظام سياسي/اجتماعي تراه غيرَ عادل وغيرَ أخلاقي، وقد تشنُّ حربها -بنجاح أو دونه- في إطار السياسة الديمقراطية (Hadiz, 2016).
اليهودية
فيما يتعلَّق بالديانة اليهودية، يمكننا أيضًا ضمّ حزب «شاس» الإسرائيلي الحَريدي (الأرثوذكسي المتطرف) (واسمه يعني «حُرَّاس التوراة») ضمن نطاق الشعبوية الدينية، وهو أمرٌ يُشكِّك في -أو على الأقل هو استثناء من- ذلك التأكيد على أن الأحزاب الدينية لا تُعَد عادةً [أحزابًا] شعبوية (Hawkins, 2010: 40)، فبوصفه مدافعًا عن السكان السفارديّين في إسرائيل، وعن دولة تُدار وفق الشريعة اليهودية، يُنظَر إلى حزب «شاس» في الوقت نفسه على أنه «حزبٌ شعبوي بامتياز» نظرًا لتوجّهه المناهض للنخبوية (لا سيّما ضد [اليهود] الأشكناز)، ونظرًا أيضًا لجاذبيّته لدى الطبقات الاجتماعية المضطهَدة، إضافةً إلى رفضه عددًا غفيرًا من «الآخَرين»، كالمهاجرين الأفارقة والفلسطينيّين والإسرائيليّين ذوي الأصول الروسية (Weiss and Tenenboim-Weinblatt, 2016).
من المهم أن ينظر الباحثون فيما وراء الديانات الإبراهيمية الثلاث، وتحديد إن كان هناك ظهور لشعبويات دينية أم لا في البيئات الثقافية والدينية الأخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار «هندوتفا» (Hindutva) في الهند (Frykenberg, 2008) أو القومية البوذية السنهالية (Sinhalese Buddhist nationalism) في سريلانكا (Berkwitz, 2008) ساحاتٍ خصبة للبحث، نظرًا لحقيقة أن أحد المؤشرات الواضحة -كما أشرنا- على إمكانية وجود شعبوية دينية هو تسييس الخطاب الديني والعقلية الدينية.
الشعبوية الدينية (2): الشعبوية وتقديس السياسة
إذا كانت هذه الشعبويات الدينية -المتناوَلة آنفًا- تَرتكز على تعريف ظاهراتي ضيق صِيغَ من حيث العلاقة بكائن أو قوة أو روح متعالية، فإن التمظهر الثاني للشعبوية الدينية في العالم الحديث يرتبط بفهم وظيفي أوسع [للدين] يُعبَّر عنه من خلال علاقة مع المقدَّس/القُدسيّ (sacred/holy)، الذي ينطوي في هذه الحالة على عملية تقديس للسياسة تحدث عندما تكتسب السياسة طبيعة متعالية. فحينها لا تصبح السياسة أمرًا دنيويًّا أو شأنًا محدودًا، بل يُنظَر إليها وتُعاش خبرتها بوصفها أداة للتغيير التام ترتكز على الأساطير والطقوس والرموز التي تُثير شعورًا بالتضامن الجماعي وتُعطي معنى نهائيًا لحياة المجتمعات ومصيرها.
إن تقديس السياسة ظاهرة غربية حديثة، ولا يمكن فصلها عن السير الوطيد نحو عقلنة الحياة الإنسانية، والاستعاضة عن الأسطورة بالحسابات [العقلانية]، وظهور مجتمع خالٍ من السحر، والاستقلال العام للسياسة عن الديانات التقليدية الراسخة، وقد شرَح ماكس فيبر (Max Weber) عمليةَ العَلْمنة التدريجية هذه بوضوح في كتاباته عن فلسفة التاريخ مطلعَ القرن العشرين، غير أنه في عالم السياسة، ومن بداية عملية العَلْمنة تقريبًا، مُلِئ هذا «الفراغ الروحي» بحركات تسعى إلى خلق جنة على الأرض، ومنح التوجيه الروحي والمعنى للحالة الإنسانية، وقد وصف كثير من الكتَّاب -منذ الثورة الفرنسية إلى الآن- ما سمَّاه المؤرخ جاكوب تالمون (Jacob Talmon) «المسيحانية السياسية» (political messianism)(٣) التي تعتنقها هذه الحركات، وقد رأى ريمون آرون (Raymond Aron) وهو مراقب فطِن لسياسات القرن العشرين، أن هذه «السياسة الألفية»(٤) (millenarian politics) -التي كان يمكن أن يكون لها دور إيجابي في «العصور الهادئة السعيدة» لا في أوقات الأزمات- هي نوعٌ من السياسة «يمنح هدفًا… بقيمة مطلَقة. أو مرَّة أخرى، يخلط بين مجتمع في التاريخ أو مجتمع واقعي أو آخر سيتمّ إنشاؤه، والمجتمع المثالي الذي من شأنه أن يُحقِّق غايات السياسة الإنسانية» (1978: 239).
وقد أدَّى الاهتمام بالأبعاد السياسية والدينية للأيديولوجيات الجماهيرية في القرن العشرين (لا سيما الفاشية والشيوعية والنازية)، وخاصة اهتمام المؤرخين وعلماء الاجتماع بها، إلى تصويرها على أنها أديان سياسية (Gentile, 2006)، فقد اتَّسمت بمستوى عالٍ من التزام الأعضاء بها على نحوٍ يُشبه العقائد الدينية، وببُعد مجتمعي وهدف نهائي تمثَّل في تحقيق الخلاص لا خارج هذا العالم بل داخله، وهذا ما مثَّل -من ثَمَّ- نقلًا للمقدَّس من المجال الديني إلى عالم السياسة، مُمثَّلًا في تلك الأيديولوجيات الكلية، وشكَّلَ تقديس السياسي «تحوّلًا في هيئة المقدس في العصور الحديثة» (Sironneau, 1982: 576)، ولم يكن هذا النقل للمقدَّس سمة من سمات الأنظمة الشمولية وحدها، إذ يُلاحظ روبرت بلّه (Robert Bellah) كيف عمل هذا البُعد «الديني» في إطار إحدى الديمقراطيات التمثيلية في القرن العشرين [وهي الديمقراطية الأمريكية]، ومع ذلك فُصِل مفهوم الدين السياسي عن عصر الديمقراطية، مع بعض الاستثناءات (Zúquete, 2007; Augusteijn, Dassen, and Janse, 2013)، وظلَّ يُنظَر إليه في الأساس على أنه «رفيق» الشمولية، من قبيل الماركسية-اللينينيّة، والاشتراكية القومية [النازية]، والفاشية الإيطالية (Gregor, 2012: 281–2).
إن من المهم أن نتذكر أن علينا ألَّا نتجاهل إمكانية وجود معنى آخر للتعالي، وهو الوصول إلى ما وراء حدود ما هو موجود بالفعل، إلى ما هو أبعد من الآن وما هو أبعد من حصر الحقيقي في الفعلي.
ومع ذلك، لا بُدَّ من النظر إلى التحول في هيئة المقدَّس -وتمظهُراته في السياسة- بشكل أكثر اتساعًا؛ لأن الحداثة كما يقول بيتر بيرغر (Peter L. Berger) أستاذ علم اجتماع الدين، لا تؤدِّي بالضرورة إلى العلمانية بل إلى التعددية: «فربّما فَقَدَ الرجلُ الحديث الحديقةَ المسحورة التي سكَنها أسلافُه، ولكنه في المقابل يواجه بالفعل بازارًا من هذه الحدائق، وعليه الانتقاء من بينها» (2011: 136)، وبهذا المعنى يُقدِّم هذا البُعد الثاني للشعبوية الدينية واحدة من هذه «الحدائق المسحورة» المتاحة أمام الرجل الحديث، إذ يُشكِّل هذا البُعد ويُقدِّم علاقةً حميمية مع المقدَّس، فالشعب يُعاد تشكيله وتكريسه، وتُشنّ الحرب ضد أعدائه بوصفهم تجسيدًا للشر على الأرض، وتُفسَّر السياسة وتُعاش ويُشعَر بها على أنها قضية مُتعالية. ومن ثَمَّ، فإن من المهم أن نتذكر أن «علينا [في الوقت الحالي] ألَّا نتجاهل إمكانية وجود معنى آخر للتعالي، وهو الوصول إلى ما وراء حدود ما هو موجود بالفعل، إلى ما هو أبعد من الآن وما هو أبعد من حصر الحقيقي في الفعلي» (Calhoun, 2012: 359). وبناءً عليه، فإن تقديس سياسة الديني تُعِيد السحر إلى المشهد السياسي.
فلا عجب إذن -وإلى حدٍّ كبير مقارَنةً بالأحزاب والحركات الأخرى- من أن الباحثين في الشعبوية، أو عددًا لا بأس به منهم على الأقل، يلاحظون تقارُبَ الشعبوية مع الدين، لا من حيث الجوهر بل من حيث التشابُه. ومن ثَمَّ، فإن هذا البُعد الثاني للشعبوية الدينية مُعترَفٌ به على أنه بدهيٌّ تقريبًا من خلال التفكير التناظري (analogical thinking) (٥)، من حيث كونه «يبدو مثلَ» الدين (Paul, 2013: 26). وفي فضح ريتشارد هوفشتاتر (Richard Hofstadter) لدعاوى الشعبوية الأمريكية لاحظ وجود «مَيل في سياساتِنا» لـ«عَلْمنة رؤية للعالم مستمدَّة من الدين، وللتعامل مع القضايا السياسية في إطار تصوِّر مسيحي، ولصبغها برمزيات مظلمة مستمدَّة من جانب معيَّن من التراث المسيحي» (1996: xi)؛ ولأن السياسة في إطار الشعبويات قضية تستهلك [المنشغلين بها] تمامًا، وترتكز على التعارض الجوهري بين النخَب والشعب -الذي يميل إلى البروز بوصفه قوة مطلَقة من أجل الخير في المجتمع ضد الفاسدين والملوَّثين المتجسِّدين في أولئك الآخرين- فيُنظر إلى العالم السياسي ويُشعَر به ويُعاش بوصفه تعارُضًا ثنائيًّا بين المقدَّس (القضية والقيادة والشعب)، والمدنَّس (أولئك الذين يعارضون المقدَّس)، وتُضفي هذه القسمة الثنائية نوعًا من الصلاحية على النضال السياسي الذي يغرسه تصورٌ وخطابٌ يقوم على المقابلة بين «الخير والشرّ»، بحيث تنفصل السياسة عن «الطبيعي» وتحمل بدلًا من ذلك وعدًا بتحقيق الاستثنائي (promise of the extraordinary)، وليس من المستغرب أن يكون الشعبويون «ما زالوا يؤمنون بالمقابلة الأحادية بين الحقيقة والكذب» (Godin, 2012: 17)، فالمقدَّس يفهم أيضًا في نهاية المطاف على أساس أنه «ما لا جدال فيه» (Moore and Myerhoff, 1977: 20).
وفي وصف الحركات الشعبوية، تتكرَّر الإشارات إلى «التصور شبه الديني» أو «النغمات شبه الدينية» أو «الفحوى شبه الدينية» للسياسات الشعبوية التي «يصبح فيها السياسيُّ أخلاقيًّا، بل دينيًّا» (de la Torre, 2000: 15; Taggart, 2002: 78; Canovan, 2002: 29). وبالمثل، تنتشر في الأدبيات إشارات وتلميحات إلى الطابع الخَلاصي في تلك الحركات؛ إذ يرى الباحثون أن الشعبوية تُشكِّل «رحلة سياسية نحو الخلاص» (Panizza, 2013: 114)، أو «حملة خلاصية مقدَّسة» (de la Torre and Arnson, 2013b: 353)، وفي حين أن الشعبويّين «ينذرون بالهلاك الوشيك، فإنهم يُقدِّمون أيضًا [سُبُلَ] الخلاص» (Albertazzi and McDonnell, 2008: 5)؛ لأن «المطالَبة بقطيعة مُطهِّرة أو خلاصية» (Taguieff, 2007: 48) مع الوضع الراهن هي إحدى السمات المُميِّزة للتعبئة الشعبوية. وبالمثل، لاحظ دارسو الشعبوية استخدامَ اللغة الدينية، على الأقل في عدد لا بأس به من الحالات المدروسة.
إضافة إلى ذلك، تستند الدعاية الشعبوية أحيانًا إلى حُجج وصور وتشبيهات وأمثال دينية (de la Torre, 2015: 10)، ويمكن إدراج هذه السمة ضمن مقاربة أخرى تصنِّف الشعبوية بوصفها طريقة «دُنيا» في العمل السياسي، فمن خلال استخدام مُفردات دينية شعبية شائعة ومُحددة ثقافيًّا، يُميِّز الفاعلون الشعبويون أنفسَهم عن أسلوب الصوابية السياسية المُهذَّب والعقلاني -والكوزموبوليتاني- في العمل السياسي، كما يفعل السياسيون على الطرف «العالي» في السياسة (Ostiguy, 2017).
وعلى هذا النحو، فإن استحضار الديني ليس مجرَّد وسيلة للامتياز عن الطرق الراسخة للسلوك السياسي السائد، بل لانتهاكها أيضًا، وهذا مرتبط -بالطبع- بأهمية «علامات الهُوية» (markers of identity) -التي تُضيف إلى الفاعل الشعبوي أصالةً مُتصوَّرة- في النمط الشعبوي لتحديد الهُوية (Panizza, 2013: 91–4). وختامًا، ومن أجل تعميق المُقارَبة التناظرية في دراسة الشعبوية والدين، يُركِّز الباحثون على الحاجة -القائمة على حالات عملية مدروسة- إلى إضافة عُمق رمزي في دراسة الشعبوية. ومن ثَمَّ، «إذا كانت الشعبوية تُقدِّم ما هو أكثر من العوائد الاقتصادية، فنحن بحاجة إلى معرفة المزيد عن الأبعاد الرمزية للتفاعُلات الشعبوية» (de la Torre and Arnson, 2013b: 374)، وهو ما يعني في هذه الحالة إثراءَ فهمِنا للدور الذي تلعبه فيها «تجربةُ المقدَّس» أو الأبعاد الثقافية للدين.
علاوة على هذا، فإن «الوعدَ بتحقيق الاستثنائي» الذي تحمله الشعبوية -وهو تمكينٌ شعبيّ قد يؤدي إلى استبدال/تجديد النخَب السياسية على الأقل، أو بشكل عام إلى إعادة تأسيس النظام السياسي (Roberts, 2015: 142)- هو وعدٌ يرتكز على نظرة مُوسَّعة للعمل السياسي بوصفه أداة شاملة. وعلى الرغم من أن مثل هذه «الأسس الشعبية» ليست شائعة في «الديمقراطية»، فإنها ليست بالشيء «الغريب» عنها، بل هي جزء من تاريخها (Kalyvas, 2008: 7). إضافة إلى هذا، فقد أَوْلَى المنظِّرون السياسيّون اهتمامًا بهذه المكانة التي يحظى بها الخلاصيّ (the redemptive) في السياسة الحديثة، فقد رآه الفيلسوف السياسي مايكل أوكيشوت (Michael Oakeshott) بُعدًا يكشف عن «سياسات الإيمان» (politics of faith)، [يُعتبَر] فيها «الكمال أو الخلاص أمرًا لا بُدَّ من تحقيقه في هذا العالَم، فبإمكان الإنسان تحقيق الخلاص في التاريخ»، وفي مقابلها «سياسات الشك» (politics of skepticism) التي تُقدِّم مقاربة تجزيئية للسياسة، إذ تفصل شؤون الحكم عن السعي الإنساني نحو الكمال (1996: 23, 31)، واستنادًا إلى تحليل أوكيشوت تُقدِّم مارغريت كانوفان (Margaret Canovan) تفسيرًا للظاهرة صار [اليومَ] سائدًا في نظرية الشعبوية، وربطَت كانوفان السياسات الشعبوية -الوعد بالوصول إلى عالم أفضل من خلال عمل الشعب المتعالي ذي السيادة- بجانبٍ مُحدَّد للديمقراطية أقل عقلانية وأكثر عاطفية، ويحوي عنصرًا إيمانيًّا قويًّا يعمل على امتداد آفاق الخلاص لا ضمن حدود البراغماتية التي هي الوجه الآخر للديمقراطية. وهنا، في هذا التوتر [القائم] بين الدنيويّ (السياسة الروتينية) والاستثنائي (السياسة الخلاصية) تسكن الشعبوية (1999: 11; 2005: 89–90).
غير أن الادعاءات بأن المقدَّس دخَل المجالَ السياسي -وإن كان بتمويهٍ علماني- وأن الشعبوية الدينية هي مظهرٌ من مظاهره، هي ادعاءاتٌ محلّ نزاع ومثيرة للشك، ويزعم هذا الطرح أن النكهة الدينية ورؤى التغيير والآمال ليست بالأمر الذي تنفرد به الشعبوية، ويستمر هذا الرأي قائلًا: إن «الحركات الشعبوية ليست الوحيدة التي تتبنّى نمطًا سياسيًّا يقوم على فكرة الخلاص، فكل حزب سياسي يطرح في حملاته وعودًا بالخلاص، فهل يحوّل هذا تلك الأحزاب تلقائيًّا إلى أحزاب شعبوية؟ أشك في هذا»، ومن ثَمَّ «لا بُدَّ أن يكون هناك شيءٌ أبعدَ» من الالتزام شبه الديني بمثل هذا الوعد بتحقيق الخلاص(Prud’Homme, 2001: 54–5)، وربما تُسهِم حقيقة أن العلاقة بين الشعبوية والدين قد جرى تناوُلها -غالبًا- باستخفافٍ -مع التركيز في الغالب على الملاحظات المطروحة حول المفردات الدينية أو التصور الديني- في ذلك التشكُّك والسعي نحو تفاصيل حول «شيء أبعدَ» من المفترَض أن يُميِّز هذه العلاقة عن الفاعلين غير الشعبويين الآخرين.
ومن أجل التغلُّب على هذه المقاومة ولتشديد القبضة التحليلية على الشعبوية الدينية -إذ كانت العلوم السياسية، باستثناء الفلسفة السياسية، غالبًا ما تُقلِّل من شأن الأُطُر المقدَّسة وتُعطي الأولوية للتفسيرات الذرائعية والمادية- لا بُدَّ للباحثين أن يتعاملوا مع هذه المسألة بطريقة غير تجزيئية. فعليهم بدلًا من هذا، ومن خلال التركيز على الواقع الإمبيريقي، استنتاج السمات الجوهرية لعملية «تقديس السياسة» في هذه الحركات السياسية الحديثة، وعزل تلك السمات وتسليط الضوء عليها. وهذه المقاربة الأيديولوجية/الخطابية -الساعية إلى القبض على فهم هذه الجماعات لذاتها (كيف ترى نفسها وتتصور دورها، بالنظر إلى دينامياتها الداخلية بدلًا من فرض نظرة خارجية)- يجب أن تكشف بشكل منهجي عن التمظهُرات المختلفة للديناميَّات الدينية وكيفية تفاعُلها، ومن ثَمَّ تعرض خطابًا مقدَّسًا ومتماسكًا متأصِّلًا في تلك الحركات، وتوضح الخطاب الخلاصي الذي يُوحِّد الخطاب الشعبوي ويدعمه.
وباختصار، ينبغي لهذه المقاربة الأيديولوجية/الخطابية أن تعرض الشعبويات الدينية بوصفها أديانًا سياسية تتّسِم بتفاعُلٍ دينامكي بين القيادة الكاريزمية وسردية الخلاص والطقوس وإقامة جماعة أخلاقية ترى نفسَها ذات مهمة جَمعية تتمثَّل في محاربة الأعداء المتآمرين وتخليص الأمة من أزمتها المزعومة. وتُشكِّل هذه السمات مجتمعة نمطًا مثاليًّا صُنِّف بوصفه سياسة تبشيرية (missionary politics) (Zúquete, 2013)، ويساعد هذا الاستقصاء التحليلي في إعادة تقييم الاعتقاد بأن الأديان السياسية -بسبب نضوج مجتمع أصبح الآن «في براثن الحداثة»- كانت واهنة بشكل واضح لدرجة أنها كانت في طريقها إلى خارج العالم(Burrin, 1997: 342)؛ ولأن هذه الأديان السياسية غير مُقيدة بالماضي (ومن ثَمَّ لم يَعُد يُنْظَر إليها على أنها من آثار الأيديولوجيات الشمولية العملاقة التي كانت في القرن العشرين)، فيُنظر إليها على أنها ما تزال ذات صلة بالسياسات الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين.
لا يجب أن تكون هناك تعميمات شاملة فيما يتعلَّق بالشعبوية الدينية، فليست جميع الشعبويات الدينية تُبدي جميع السمات التي تجعلها قريبة من النمط المثالي.
ومع أن جميع الشعبويات تشترك في جوهر مفاهيمي واحد، فإنها ليست جميعها متشابهة، ولا تتطوَّر بالشدة ذاتها أو تُبدي الحماسة نفسَها أو تشترك في الادعاءات الأساسية ذاتها، ويأتي هذا الإدراك للدرجات المختلفة من الشعبوية في قلب تقسيمات الشعبوية إلى تلك «الصلبة» أو «المُستقطَبة» والنسخة «الناعمة» «التدرُّجيّة» (serial) والأقل راديكالية (de la Torre and Arnson, 2013a; Roberts, 2013)، وقد صاغ بعضُ العلماء هذا التقسيم على أنه انقسام بين الشعبوية «التامة» والشعبوية «الفارغة» (Jagers and Walgrave, 2007)، وهذا يعني أنه لا يجب أن تكون هناك تعميمات شاملة فيما يتعلَّق بالشعبوية الدينية، فليست جميع الشعبويات الدينية تُبدي جميع السمات التي تجعلها قريبة من النمط المثالي، بل إن التحليل الإمبيريقيّ هو ما سيُظهِر درجة شدّة ومدى حمل كلِّ مجموعة لمثل هذا البُعد غير المادي (إطار التقديس)، وسيُظهِر أيضًا -وهو الأغرب- إن كان ذلك قد تمَّ بصورة تامة (ومن ثَمَّ يُمثِّل شبه تكرار للنمط المثالي).
في الوقت ذاته، وكما يَرِد كثيرًا في الأدبيّات، فإن ظهور الشعبوية وتطورها مشروطٌ بعددٍ من العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية، فالسياقات المختلفة تُولِّد إمكانات مختلفة لنجاح الشعبوية، ومن ثَمَّ تؤثر في تطور الشعبويات الدينية الكاملة أيضًا، وفي حين أن البيئات المؤسسية القوية (النظم الحزبية المتماسكة القادرة على توجيه المطالب الاجتماعية، إضافةً إلى التمثيل السياسي الشامل) قد تكون ذات أثر تقييدي، ويبدو أن المؤسسات الضعيفة (دولة غير فعَّالة ونظام حزبي مشوَّه وتمثيل سياسي منخفض) تُمهِّد الطريقَ أمام بروز تحدٍّ شعبوي للوضع الراهن، وينطبق هذا المنطق نفسُه على تأثير الثقافة السياسية (وما بها من أنظمة معنى ومتغيرات ثقافية) في قدرة الحركات الشعبوية على التعبئة من عدمها في النطاقات الجغرافية المختلفة (Pasquino, 2008: 21–7; Roberts, 2015).
عناصر السياسة المقدَّسة والدين المُسيَّس
بعد وضع ما سبق في الاعتبار، يتحوَّل الانتباه الآن إلى مظهرَيْن بارزَيْن للشعبوية الدينية -وهما دينان سياسيّان في حد ذاتهما- ظهرَا وتطوَّرا في منطقتَيْن كانت فيهما الشعبوية هي الأقوى بالتأكيد في العقود الأخيرة، وكانتا بالفعل محور المقارنة العابرة للأقاليم: وهما أمريكا اللَّاتينية وأوروبا (Mudde and Rovira Kaltwasser, 2013)، وتكشف هذه الأمثلة أنه في الحالات المتطرِّفة للشعبوية، قد تكون هناك عناصر من كلٍّ من السياسة المقدَّسة والدين المُسيَّس، بمعنى رؤية للعالم تقوم على تقليد إكليركيّ أو كتابيّ، وهذا يعني أن الفصل بين تقديس السياسة وتسييس المقدَّس في حالة بعض الفاعلين الشعبويين، قد لا يكون واضحًا بما يكفي، ولكنه قد يتضمَّن بُعدًا توفيقيًّا (syncretic).
وإذا وضعنا السياقات المؤسسية جانبًا يمكننا القول -لا سيما فيما يتصل بالشعبوية الدينية- إن الخلفية الثقافية/الدينية تلعب دورًا محوريًّا في قدرة هذه الحركات على الحشد، وإن هذا الصدى الثقافي يُسهِّل كلًّا من عمليتَيّ التعبير عن الرسالة الشعبوية الدينية واستقبالها، فلَطالَما كان دور الدين في أمريكا اللاتينية واضحًا ملموسًا، ويُعزَى أحد العوامل الرئيسة التي تجعل الشعبوية هناك «أرضية منتخَبة» (tierra electa) إلى ديمومة وحيوية «مخيال كُلِّي» متجذِّر بعمق في «البنَى الروحية والمعيارية للديانة المسيحية» (Zanatta, 2008: 40–1).
وعلى العكس من هذا، شهدت أوروبا أيضًا (أو على الأقل أوروبا الغربية) التي يُنظَر إليها على أنها «الرجل المتفرِّد» (odd man out) (Clark, 2012: 193)، أو المثال الوحيد الذي ما يزال ينطبق عليه أطروحة العَلمَنة (secularization thesis)، تطوّرَ مثال مبدئيّ للشعبوية الدينية، وترتبط في هذه الحالة الأرضية الثقافية/الدينية التي ستنمو عليها الشعبوية الدينية بما أُطلِق عليه اسم «نزع السحر الثاني للعالَم» (second disenchantment of the world)، أو انهيار الأيديولوجيات الكلية وسرديَّاتها الملحمية العظيمة المانحة للهُوية، مما خلَق فراغًا (أزمة معنى) مُلِئ بوعود الأمن (إطار للمعنى) والنهوض الأخلاقي والروحي (Lecoeur, 2003: 173–92).
ومن ثَمَّ، فإن هذيَنْ النموذجَيْن الإمبيريقيّيْن -حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي اليميني المتطرف بقيادة مؤسِّسه جان-ماري لوبان (1972-2011م)، وثورة هوغو شافيز البوليفارية اليسارية في فنزويلا (1999-2013م)- على الرغم من تبايُنهما في الجغرافيا والأيديولوجيا ومستوى النفوذ السياسي (فقد كان لوبان في المعارضة السياسية وكان شافيز على رأس الدولة)، فإنهما يُشكِّلان أمثلة نموذجية على السياسات التبشيرية، من خلال عرضها إطارًا مقدَّسًا -بنية خطابية/أيديولوجية- يدعم ويُسهِم في تشكيل الهُوية الجماعية وتعبئتها. وبإيجاز، فهذه الأديان السياسية تقوم على ثلاث ركائز مقدَّسة كبرى: القيادة الكاريزمية، والجماعة الأخلاقية، ومهمة تحقيق الخلاص.
قيادة كاريزمية
على الرغم من أنه لا يُنظَر عادةً إلى القيادة الكاريزمية على أنها ضمن محدِّدات الشعبوية وتعريفها، وإنما هي مجرد ميسِّر مهم [لبروز التوجهات الشعبوية] (Hawkins, 2010: 42; Rovira Kaltwasser, 2015: 193)، فإنها تظل بالتأكيد سمة بارزة من سمات الأمثلة النموذجية المثالية على الشعبويات الدينية، فهذه الحركات لديها سرديات داخلية تمنح القائد وَضعًا مسيحانيًّا (messianic) وتُمِدِّه بسُلطة مقدَّسة، وهناك ما يُسمَّى «صناعةً» تتشكَّل من كلمات القائد وأفعاله وعمل المتعاونين المقرَّبين (الزُّمرة coterie)، إضافة إلى معتقدات الأتباع وهي صناعة تبني صورة للقائد بوصفه شخصية تبشيرية (missionizing figure) ذات خصائص تاريخية.
هناك ستُّ صور رئيسة ترتبط بالقائد:
١- الصورة الأولى هي صورة القائد بوصفه نبيًّا (Prophet)، فالقادة رجالٌ سابقون لأوانهم، وفي كلِّ ما تسرده هذه الحركات من قصص، يجري -باستمرار- تفسير أحداث مختلفة بوصفها دليلًا على الرؤية الثاقبة التي يمتلكها القائد. وفوق كل شيء، يحظى القائد-النبي بالثناء على قوله الحقائق الصعبة وعلى التزامه الدؤوب -عبر استعمال «الكلمة»- لفضح وتحطيم أكاذيب النموذج الرسمي السائد، التي تروّجها النخَب من أعداء الشعب، وباستخدام تعبير جيمس سكوت (James C. Scott) فإن النبوة تُتيح صوتًا «للنص الخفي» (hidden transcript) حول المشاكل «الحقيقية» التي تؤثِّر في المجتمعات، بينما تشوِّه «النص العام» (public transcript) (1990: 221–2)، وتتعزّز الطبيعة النبوية للقادة من خلال الطريقة التي يُحطِّمون بها -في أعين أتباعهم- الرؤية الخاطئة التي تطرحها الجماعات السائدة، ويُجسِّدون الأصوات التي تخضع أو سبق أن خضعت للهيمنة.
٢- الصورة الثانية هي صورة القائد بوصفه النموذج الأخلاقي الأمثل (Moral Archetype)، فقد صوَّرَت سردياتُ تلك الحركات قادتها على أنهم شخصيات نموذجية (exemplary)، وهذا بالطبع يُنظَر إليه منذ أمد بعيد على أنه جزء من ذخيرة القيادة الحقيقية، ففي القرن التاسع عشر عبَّر المُنظِّر الاجتماعي والتر باغوت (Walter Bagehot) من العصر الفيكتوري، عن اعتقاده بأن «الرجل تَسُوقُه القدوة لا الحُجّة»، فقد كان «شائعًا» أن «حياة المعلِّمين هي التي تنتشر في الأوساط وليس مبادئهم» (1874: 59)، وفي هذه الحالات المعاصرة تنبع قوة نموذج القائد من صفاته الشخصية ومن إنجازاته الحياتية.
٣- الصورة الثالثة هي صورة القائد بوصفه شهيدًا أيضًا (Martyr)، فالنصوص الداخلية لهذه الحركات تشترك في فكرة تضحية القائد بذاته من أجل القضية، فكلُّ قائد يتنازَل عن مصالحه الشخصية ورفاهيته، بل وصحته في سبيل المهمة [المَنوطة به]، وتُمثِّل سيرتهم دليلًا على استبسالهم. علاوةً على هذا، كثيرًا ما يُلمِّح هؤلاء القادة إلى إمكانية تعرُّضهم للاغتيال، ويُعزِّز التعرض للمحَن والابتلاء تلك الصورة التبشيرية للقائد بوصفه شخصية بطولية وصبورة، تختبر الآلام والمحَن من أجل إنجاز المهام.
لأن هؤلاء القادة من الشعب فإن لديهم صلة مباشرة وعفوية وبدهية دون وسيط بما يُفكّر فيه الشعب حقًّا، بغض النظر عن مدى خداع الدعاية الصادرة عن المؤسسة الحاكمة والإعلام الذي يقوده الأقوياء.
٤- القائد هو الشعب (People): فالحركات ترسم صورةً لقادتها بوصفهم تجسيدًا «للرجل العادي»، يتَّسمون بالصفات والمواقف المعتادة وأنماط الحياة اليومية، فهم يجسِّدون التوجه المتطرِّف في العداء للنخبة (radical anti-elitism) لدى هذه الحركات التي يقودونها، وتكون شخصيّتهم وسلوكُهم على النقيض من النخَب المتحفظة التي لا تخدم سوى مصالحها الذاتية، تلك النخبة التي يحتقرها موظّفو الدرجات الدُّنيا من السُّلَّم الوظيفيّ؛ ولأن هؤلاء القادة من الشعب فإن لديهم صلة مباشرة وعفوية وبدهية دون وسيط بما يُفكّر فيه الشعب حقًّا، بغض النظر عن مدى خداع الدعاية الصادرة عن المؤسسة الحاكمة والإعلام الذي يقوده الأقوياء، هذا البُعد الديموطيقي (demotic)(٦) حاسمٌ لاستراتيجيّتهم المتمثلة في إضفاء الشرعية على الذات بوصفهم منقذي جماعتهم.
٥- وعلى المنوال نفسِه، يُنظَر إلى القائد أيضًا على أنه هو الحزب (Party)، فقد عملت الأحزاب السياسية للحفاظ على صَدارة القائد، وعلى الارتباط الشخصي بين الأتباع وقائدهم. فحقيقة أن كل قائد كان حاضرًا وقتَ إنشاء الحزب (فهو المؤسس) تُمثِّل عاملًا آخرَ يُفسِّر الطبيعة شديدة الشخصية لكل تنظيم [من تلك التنظيمات]، إذ يُنظَر إلى تلك الأحزاب على أنها نتاج التزام القائد ورؤيته، فالقائد يشعر شعورًا طبيعيًّا بالاستحقاق الذي يخوله البتَّ في المسائل المتعلقة ببنية الحزب وعملية صنع القرار فيه.
٦- وينتج من ذلك، فوق كل شيء، أن القائد هو المُبشِّر (Missionary)، وتتمثَّل السردية المحورية الناتجة عن «صنعة» كلٍّ من لوبان وشافيز في تقديس القائدَيْن بوصفهما شخصيّتَيْن شبيهتَيْن بالمنقذ، ولديهما شعورٌ بوجود مهمة على عاتقَيْهما لإنقاذ الجماعة [التي ينتمي إليها كلٌّ منهما]، ويؤكِّد هذا الموضوعُ الأساسي المبدأَ القائل -وفقًا لروبرت توكر (Robert C. Tucker)- بأنه تبعًا لماكس فيبر فإن «القيادة الكاريزمية هي على وجه التحديد قيادة خَلاصية أو مسيحانية بطبيعتها… وهنا يكمن تميُّزها» (1968: 743). ومع ذلك، لا ترتبط الدينامية التبشيرية فقط بإعلان بسيط عن مهمة القائد، فـ«صِيَغ الخلاص» (1968: 751) ضرورية ولكنها ليست كافية، ولا بُدَّ للمهمة أن تنال قوَّتها من قدرة القائد على تجسيدها ونقل إلحاح المهمة وضرورتها للعصر (نقطة التحول) إلى أتباعه.
وعلى مستوى أعمق، فإنه يتعامل مع مسألة الأصالة، ومن ثَمَّ فالإحساس بوجود مهمة شخصية أمر شائع في سيَر هؤلاء القادة، ولم ينسَ لوبان قط الإشارةَ إلى تبنّي الدولة الفرنسية له في شبابه بوصفه «تلميذ الأمة» (pupil of the nation)، قائلًا: «شعرتُ أن لديّ دورًا ما في الحياة، أن أكون فرنسيًّا أكثر من الآخرين» (Zúquete, 2007: 81)، أما شافيز فقد كتب في معتقله -بعد الانقلاب الفاشل الذي حاول الإطاحة بالحكومة الفنزويلية- خطابًا إلى صديق له قال فيه: «لا أُريدُ لنفسي شيئًا أكثر من أن أكون مع أحلام وآمال شعبي، وهذه هي التسوية الهائلة التي أشعر بها الآن على عاتقي، أشعر يا صديقي العزيز أن قوة أعتى منّي تسحبني كما يحدث في الأعاصير، لا أشعر بالانتماء إلى ذاتي، بل أشعر أن هذا يتجاوزني، ليس لدي طموحات شخصية» (Garrido, 2002: 91)، وتكثُر ديناميات «قبل» و«بعد» في وصف تأثير القيادة في حياة الناس.
فعلى سبيل المثال «كنا مثل تلك الحيوانات الصغيرة المحبوسة، التي تتلقَّى في فمها طعامَها اليومي، لقد فَقَدنا القدرةَ على الوجود وعلى الدفاع عن أنفسنا والقتال من أجل ما كان لنا… حتى جاء شافيز» (Roz, 2003: 52)، وقد كان لوبان أيضًا أحد رجال الأقدار من هذا الطراز، وفي أوقات التراجع والاضطرابات «كان لوبان في كل مرة يتحدَّث فيها عن فرنسا وماضيها ومستقبلها، يظهر في صورة ذلك الذي يُمسك بعصا الحضارة الفرنسية، ذلك الذي يُمسك بالشعلة، الشعلة الفرنسية القادمة من بعيد، وليس لنا الحق في أن ندعها تخمد، لقد كان طموحه الأول -بغض النظر عن مصيره الشخصي- أن يظلَّ مخلصًا لهذا الواجب» (Daoudal, 2002: 21).
إن القادة -إذن- هم تجسيد حيّ للقضية، وهكذا يتأكَّد استنتاج هوارد غاردنر (Howard Gardner) القائل بأن جانبًا حاسمًا من جوانب القيادة بوصفها سردية هو مجموعة من «قصص الهُوية». وفي تفاعُل هؤلاء القادة -بمفردهم ومن خلال تلاميذهم- مع الأتباع، تنتج مثل هذه القصص باستمرار: «عن أنفسهم، وعن جماعاتهم، وعن الأماكن التي أتوا منها، وتلك التي يتَّجهون إليها، وعمَّا كان ينبغي الخوف منه، والنضال ضده، والحلم به» (1995: 14)، ولكن مدى تشخيص كل قائد للسردية (القصة) أمرٌ بالغ الأهمية، وإلا فإن الفعالية ستتقوَّض، ثم تتلاشَى في نهاية المطاف. ولذلك، فالطريقة التي يُنفِّذ بها القائد مهمته لها أهمية كبيرة في تطور الديناميَّات الكاريزمية (Willner, 1984: 58–9)؛ إذ إن تجسيد القائد لروح المهمة ومضمونها يُعزِّز شعور الجدارة بالثقة من الجماعة وفي داخلها، فمن الأرجح أن يقبل الأتباع التحوّلات التي تقع في الاستراتيجية أو السياسات؛ لأنهم يثقون أن القائد الذي يعرف ما هو الأفضل لجماعته، لن يفعل أبدًا أيَّ شيء يضرُّ بها. وهذا يعكس الانفصال عن النظام العقلاني المميِّز لتعريف فيبر للهيمنة الكاريزمية: «إنها مكتوبة… لكني أقول لكم» (1958: 250).
جماعة أخلاقية
في الوقت ذاته، فإن السردية المتأصلة عن «الاختيار» و«الانتخاب»، المنسوبَيْن إلى الشعب (الذي هو الكيان الوطني البطولي الحقيقي)، إضافة إلى جعله تجسيدًا «للخير» خلال النضال ضد «الشر» (و«الشر» هو أولئك «الآخرون» الذين يعارضون الشعب، ويمثلون عدوَّه، وغالبًا ما يشاركون في تدبير المؤامرات ضده)، هي سردية تُحوّل نشطاءها إلى جماعة أخلاقية (moral community)، وترتقي هذه الجماعة إلى مرتبة كيانٍ مقدَّس، فتنفصل عن الفساد الدنِس المُحيط بها، من خلال ديناميات لاهوت سياسي يتشكَّل من الأساطير والطقوس والرموز، وتُمثِّل الشخصيات التاريخية صورًا رمزية لجوهر الجماعات المعنية، ففي حالة حزب «الجبهة الوطنية» تُمثِّل شخصية كلوفيس الأول (Clovis I) وشخصية جان دارك (Jeanne d’Arc) خصوصًا، مرجعيات وطنية مقدَّسة ورموزًا خالدة لعظمة فرنسا واستقلالها وسيادتها.
أما الثورة البوليفارية فقد انطلقَت إلى آفاق جديدة تتمثَّل في عبادة سيمون بوليفار(Simón Bolívar)، فهو روحٌ حية ودليل للنشاط الثوري ودائمًا ما يُشبَّه زمن شافيز بالعصر الذي كان في ذلك المحرِّر، فهو النضال المتواصل نفسه لتحرير فنزويلا من مخالب القلِّة، وفي كل حالة من تلك الحالات يتعزَّز هذا الارتباط بين قداسة الشخصيات الماضية والقادة المسيحانيّين في الحاضر عبر طقوس شاملة، في شكل مواكب وتجمُّعات/مسيرات في الأماكن المقدَّسة للحركات أو أحرامها. وتعمل لحظات العبادة هذه أيضًا على تجسيد الطبيعة المجتمعية للقيادة الكاريزمية المتجذِّرة في النشوة الجماعية والانفعال الجماعي (Lindholm, 1990; Tiryakian, 1995)، فالطقوس تتيح رؤية القيم غير المادية التي هي في صميم الرابطة الكاريزمية، والتي تحوّل جماعة الأتباع إلى جماعة أخلاقية توحِّدها مشاعر المحبة والإخاء والمثالية والصلاح، وهذا التحويل إلى طقوس يُخْضِع هذه الجماعة الأخلاقية للتجربة، فالطقوس تساعد على تعزيز الشعور بالجماعية بوصفها شعبًا مختارًا، وتلعب دورًا حاسمًا في شرعنة الأبعاد الخلاصية (soteriological) لتلك الجماعة، ومن المهم أن نُشير إلى أن علم الاجتماع الثقافي قد عزَّز بلا شك من فهم دور الرمزية والطقوسية في الصراع على السلطة السياسية، من حيث اندماج الأداءات بين القادة والجماهير (Alexander, 2011).
مهمة لتحقيق الخلاص
يرتبط كل هذا بالنظرة إلى السياسة على أنها مهمة خلاصية تمتد عبر الأطُر الخطابية (سواء اللفظية أو الرمزية) لهذه الأديان السياسية، ويُكمل المفهومَيْن التوأمَيْن عن التاريخ المقدَّس (sacred history) والمكان المقدَّس (sacred place) مفهومٌ ثالث لا يقل أهمية، وهو مفهوم الوقت المقدَّس (sacred time)، فهناك أسطورة أخروية (eschatological) تقع في قلب نظرتهم إلى العالم (Tudor, 1972: 92)، فلا يجب أن يؤدّي رفض الحاضر إلى زواله فحسب، بل يُتوَّج نشاطهم السياسي بـ«مجتمع قادم» (a society to come)، يُصوَّر على أنه عصر جديد من الوفرة. وهناك «امتلاء للزمن» (fullness of time) (Talmon, 1962: 130) ليس -مع ذلك- دينيًّا بمعنى كونه إعجازيًّا أو معتمدًا على كيان خارق للطبيعة، فقد كانت «الاعتقادات الألفية» لهذه الحركات سياسية؛ إذ إن انقلاب الشؤون وظهور نظام جديد سيحدث داخل العالم، والشر الحاضر سيُفسح المجال أمام مستقبل خلاصي.
وفي الوقت نفسه، تُثبت الديناميات الداخلية لهذه الحركات -إلى حد ما- ذلك التأكيد على أن البعد العلماني للشعبوية الدينية يَفترض أيضًا وجودَ «علاقة خاصة» مع الإلهي في الحالات القصوى، ولتحقيق هذه المهمّة، كان لوبان غالبًا ما يُعطي انطباعًا بأن جماعته ترفُل في نِعَم الله، وكان مما قاله «كما جاء في الإنجيل المقدَّس، ‹إنْ لَم يحفَظ الربُّ المدينة، فبَاطِلًا يَسهَرُ الحارِس›»، وقد أكَّد لوبان -بغموض أحيانًا وصراحة في أحيان أخرى- على اعتقاده بأن قوَّة خارقة للطبيعة ستساعد جماعته في مسعاها نحو تحقيق الخلاص لفرنسا، وكما أشار لوبان فإن «التاريخ في لُبِّه ليس سلسلة بسيطة من الأسباب والنتائج، بل طيفٌ مفاجئ للأحداث التأسيسية» وما يُسمّيه «ساعات القدر… تلك التمظهرات التي تتجلَّى فيها العناية الإلهية». وباستخدام تعبير أشاعه البابا يوحنَّا بولس الثاني (John Paul II)، دعا مؤسِّس حزب «الجبهة الوطنية» أبناءَ شعبه إلى «اجتياز عتبة الأمل» مضيفًا «لسنا وحدنا، فقد بدأ الشعب الفرنسي تحرُّرَه وعنايةُ الله تحوطنا وترعانا»، لكن «وجود الله معهم» ليس دعوة إلى السلبية، فقد أعلن لوبان لأتباعه أن «العناية قد تتصرَّف بغض النظر عن ضعف روح المقاومة، ولكنها كما نعلم لا تُعِين إلَّا من أعانوا أنفسهم» (Zúquete, 2007: 88–91).
وفي حالة «الجبهة الوطنية»، كانت الجماعة -التي قام الحزب/الجبهة بدمجها وإحيائها- هي التي ستؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى تجديد القيم وإلى الانبعاث الأخلاقي، بما يضع حدًّا للمادية والفردانية -قوى التفكّك- التي أفسدت فرنسا الخالدة. وزَعمَ لوبان في خطاب له أن «العدّو فيكم، ففي أرواح الفرنسيّين وقع التشوّه، وفي أعماق قلوبكم وأُسَرِكم وطلاقكم وكنائسكم ومدارسكم وصحفكم ومحاكمكم وكُتبكم… في كلِّ الأفكار الخاطئة والخواطر السلبية… في دواخلنا، يكمُن الشر الذي يُضعِف فرنسا الأمة والدولة، وفي دواخلنا يمكن أن نعثر على سبل بقائهم» (2001)؛ ولأن الشر يغمر الأرجاء، فإن نجاح «الجبهة الوطنية» سيجلب حتمًا -ومن وجهة نظر وجودية- تطهيرًا لهذا الشر إذ يقهره الخيرُ، وهذا هو المصير الذي تُبشِّر به «الاعتقادات الألفية» السياسية لدى الحزب.
وهذه الدينامية أوضح في حالة الثورة البوليفارية، فـ«اشتراكية القرن الحادي والعشرين» في نسختها النهائية، تتوافَق مع أسطورة «المملكة النهائية» (Final Kingdom)، والقائد في الواقع هو مَن أعلن ذلك: ستستمر الثورة البوليفارية حتى «تصبح المملكة التي أعلنها المسيح حقيقة واقعة، مملكة المساواة مملكة العدالة، هذا هو نضالنا»، وهذه المملكة ستضم العالم كلَّه: «لا يُمكننا أن نسمح للعالَم بالوصول إلى النهاية… إذا ضحَّينا من أجل البلاد، حينها فقط سننقذ أنفسَنا والعالم بعد ذلك» (2005: 721–2)، ومع أن كثافة الرؤى «الألفية» تتبايَن من مجموعة إلى أخرى، فإن الصورة الكلية هي صورة جماعة واقعة بين عصرَيْن -على أعتاب العالمَيْن- تُحذِّر من النصر الوشيك لقوى الشر، وتنادي باستجابة شمولية (totalistic) ستدحَرُها وتفتح طاقة النور أمام مستقبل يَنعم بالخلاص.
الأديان السياسية دومًا ما تكون مشروطة ومؤقتة، فهي ليست كيانًا دائمًا ولكنها في الواقع محدودة زمانيًّا بالضرورة.
إن سياسات الخلاص التي تنتهجها هذه الحركة هي انعكاس للأسطورة الأُخروية التي تدمج الواقع في كلٍّ متماسك، ولا تفصل الماضي عن المستقبل، وتُفسِّر دور الجماعة في التاريخ ومعنى وجودها، ولهذا السبب يجب أن تسعى السياسة إلى إحداث تحوُّل كلِّي، فتقوم بإزالة الشرور (الظلم وعدم المساواة والإقصاء والقمع والانحطاط والتفسّخ... إلخ) وتقدِّم إجابة عن سؤال الوجود نفسه (Garcia-Pelayo, 1964: 192–3; Sironneau, 2000: 63–4)، وكما كتب هنري دروش في كتابه «سوسيولوجيا الأمل» (Sociology of Hope)، «من النادر ألَّا يلتمس العهدُ المسيحاني في جِدَّته وحداثته ماضيًا بعيدًا أو غيرَ معروف أو منسيًّا أو غيرَ واعٍ، يستحضره في الحاضر من أجل إيجاد خطّته للمستقبل» (1979: 91–2)، والمركزية التي يحظى بها عصر جان دارك أو بوليفار في التوقعات من «العالم القادم»، والاحتفالات الطقوسية به داخل هذه الحركات الشعبوية النبوية-الخلاصية (prophetic-soteriological)، تؤكِّد بالفعل هذه الحقيقة، غير أن هذه الأديان السياسية دومًا ما تكون مشروطة ومؤقتة، فهي ليست كيانًا دائمًا ولكنها في الواقع محدودة زمانيًّا بالضرورة، فهي تعتمد أيضًا على عوامل تترواح بين التغييرات في القيادة (نتيجة التقدم في السن أو الوفاة)، إلى التخفيف من الشعور بالأزمة التي غذَّت دينامياتها أول الأمر، مما يجعل الدين السياسي يذبل بمرور الوقت وينحصر في مجموعة صغيرة من المؤمنين الصادقين.
خاتمة: بحثًا عن التجديد في السياسة
لا بُدَّ للأعمال التي تتناول النمط الفرعي الديني من الشعبوية أن تتجاوز تركيزَها الأساسي على العالم المسيحي الغربي، وكذا معاييرَ الديمقراطيات الليبرالية، إلى أنظمة هجينة أخرى، إذ ما يزال التركيز متمحورًا -بشكل كبير- حول الغرب. وفي هذا الصدد، يُعَدُّ صعودُ الشعبوية الدينية (في بُعدها الديني الصريح الأول) قوة مضادة لرؤية الحداثة الغربية التي تُصوَّر بوصفها موضعًا للانعتاق ونزع السحر، وبوصفها محكومة بالعقلانية الشكلية؛ إذ تعمل الحركات الشعبوية الدينية على إعادة السحر إلى العالم، وإظهار الاعتقاد بأن هناك ترابطًا بين الإرادتَيْن الإنسانية والإلهية.
وبالمثل، فإن انتشار الشعبوية الدينية (في بُعدِها الثاني الضمني) يُتيح بديلًا عن «نزع السحر عن السياسة» (disenchantment of politics) المنتشر في المجتمعات الديمقراطية الحديثة في وقت انحسار الأحزاب الجماهيرية التي تشهد تراجُعًا في العضوية، فضلًا عن نمو السخط السياسي وهيمنة الطبقات البيروقراطية والتكنوقراطية على الحكومات. وبعد «القضاء التدريجي على السياسة بوصفها أداة للخلاص في هذه الدنيا» المتجذِّر في المشاريع الكبيرة والرؤى الطامحة لعالم أفضل (Van Kersbergen, 2010: 41)، تميل الشعبويات الدينية (بدرجات متفاوتة) إلى غَمر المجال السياسي بحماسة وحمية دينيتَيْن، تنبّؤًا برؤية للسياسة تكون فيها أداة لتأسيس مجتمع جديد.
وكما نعلمُ فقد شهد التاريخ عددًا من التحذيرات من عواقب «العصر الآلي» (mechanical age)، وكما لاحظ توماس كارليل، فإن «ما يهمّنا اليوم هو المادي والعملي المباشر فحسب، لا الإلهيّ والروحيّ» (1869: 333)، ولكن حتى مع الإقرار بأن النشاط السياسي قد يتجلَّى في أماكن أخرى (مثل الحركات الاجتماعية)، فإن الحقيقة هي أن اللَّامبالاة تجاه السياسة التقليدية ووسائل التمثيل التقليدية قد أصبحت وكأنها وضعًا حداثيًّا (modern condition)، وقد أُلقِيَت أيضًا باللائمة في صعود الشعبويات المتجذرة في أُطُر الخلاص السحرية، على هذا «التشويه» للسياسة التقليدية وتقليص مكانة الأحزاب السياسية (Mastropaolo, 2008: 40)، فإذا كانت السياسة -كالمعتاد- مُرادِفةً لكونها شأنًا بيروقراطيًّا وتكنوقراطيًّا، فإن الشعبوية ليست «سياسة عادية» (normal politics) (Moffitt and Tormey, 2014: 393)، ترتبط الشعبوية -وهذا يأتي في الصدارة بشكل مثالي في حالة الشعبوية الدينية- ببُعدٍ من الخيال والتعجب والأساطير، يمتد إلى ما يتجاوز بكثير النظرة الباردة للسياسة بوصفها تنظيمًا وإدارة (Oudenampsen, 2010: 20; Augusteijn, Dassen, and Janse, 2013: 258)، وبُغية تفسير نجاح جاذبية الدعوات الشعبوية في السياسة الديمقراطية، فإن من الضروري أيضًا مراعاة ما يوصف بأنه «الدور المحوري الذي تلعبه مشاعر الشغف» (Mouffe, 2005: 69) في تشكيل وتعبئة الهُويَّات السياسية الجمعية، ومن ثَمَّ جاءت الدعوة إلى تنشيط الحياة الديمقراطية من خلال «إعطاء الديمقراطية فرصة جديدة للحياة وقوةً جديدة وشغفًا جديدًا» - فهي مطلوبة لأن «كلمة ‹الديمقراطية› تحوَّلت إلى كلمة باهتة» (Touraine, 1997: 190). وهذا هو الحال حتى إذا كان هناك تحذير متكرِّر من الذهاب بعيدًا باتجاه «الإيمان والخلاص» في السياسة الحديثة، والمخاطر الكامنة التي تُمثِّلها صيغ «اللاهوت السياسي» (political theologies) (Arato, 2015: 50)، إضافة إلى الحاجة إلى إيجاد توازُن ضروري بين السياسة الذرائعية (instrumental politics) والسياسة بوصفها حماسة (enthusiasm) (Ezrahi, 2002: 181).
وإجمالًا، فإن أهم ملاحظة يمكن أن تنبثق من هذه النظرة العامة على عملية التعبير عن الدعوات الشعبوية في السياسة الحديثة، هي أن من الضروري التركيز على الدوائر الشعبوية لا على مطالبها المادية فحسب، بل -وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لاستيعاب القوة التعبوية للشعبويات الدينية بجميع أشكالها- على المصفوفة الثقافية-الدينية والرمزية غير المادية، وتوقعاتها ورغباتها الشعبية وآمالها المتعالية في وجود أكثر إشباعًا وإرضاء، ومن شأن هذا النهج أن يُسهِم مباشرة في دراسة السياسة والدين في القرن الحادي والعشرين والصلة القائمة بينهما، فهناك مواجهةٌ متكرِّرة بين المجالَيْن، فيها الكثير من التقاطعات والتداخلات، وليس الصدام.
الهوامش
(١) في إشارة إلى الحركة الدينية العتيقة التي قسَّمت رؤيتها الجذرية العالَمَ إلى مبدَأيّ النور والظلام المتضاربَيْن تمامًا (Hutter, 2006: 1142–4).
(٢) أظنّ أن الكاتب هنا يقصد تمييز الشعبويّات التي ظهرت في إطار الإسلام السياسيّ عن الشعبويات الدينية الأخرى. (المترجِم)
(٣) ترتكز أساسًا على الفكرة الخلاصية وأصلها المتمثِّل في عودة المسيح المخلِّص في نهاية الزمان. بَيد أن هناك خلافًا بين اليهودية والمسيحية (والإسلام بالطبع) في تعيين شخص مسيح ومخلِّص آخر الزمان. (المُراجع)
(٤) الاعتقادات الألفيَّة millenarianism/millennialism: هي اعتقاداتٌ في عصر سعيد أو حلول تغييرات جوهرية ومفصلية تأتي على رأس الألفية الجديدة أو القرن الجديد، وهي أحد مباحث علم الأخرويات/الإسخاتولوجيا (eschatology). من هنا مثلًا كان التأهُّب والاحتفالات التي شهدناها منذ أكثر من عشرين عامًا مع اقتراب عام 2000م، فهي جذوة من هذه الاعتقادات، وإنْ لم يَعُد لها حضور قوي في الأذهان اليوم. (المترجِم)
(٥) ويقصد به التفكير المنصبّ على البحث عن الخصائص المتشابهة والعناصر المتناظِرة بين الظواهر. (المُراجِع)
(٦) أي كَون الخطاب جماهيريًّا شعبيًّا موجَّهًا إلى عوام الناس. (المترجِم)
المراجع
- Abromeit, John, Bridget Maria Chesterton, Gary Marotta, and York Norman (eds). 2016. Transformations of Populism in Europe and the Americas: History and Recent Tendencies. London: Bloomsbury.
- Alamdari, Kazem. 1999. “Who holds the power in Iran? Transition from populism to clientelism,” CIRA Bulletin, 15(1): 31–4.
- Albertazzi, Daniele and Duncan McDonnell. 2008. “Introduction: the sceptre and the spectre,” in Danielle Albertazzi and Duncan McDonnell (eds), Twenty-First Century Populism: The Spectre of Western European Democracy. New York: Palgrave Macmillan, 1–11.
- Alexander, Jeffrey. 2011. Performance and Power. Malden: Polity Press.
- Apahideanu, Ionut. 2014. “Religious populism: the coup de grâce to secularisation theories,” South-East European Journal of Political Science, II (1, 2): 71–100.
- Arato, Andrew. 2015. “Political theology and populism,” in Carlos de la Torre (ed.), The Promise and Perils of Populism: Global Perspectives. Lexington: University Press of Kentucky, 31–58.
- Aron, Raymond. 1978. “History and politics,” in Miriam Bernheim Conant (ed. and trans.), Politics and History: Selected Essays by Raymond Aron. New York: The Free Press, 237–48.
- Augusteijn, Joost, Patrick Dassen, and Maartje Janse. 2013. Political Religion Beyond Totalitarianism: The Sacralization of Politics in the Age of Democracy. New York: Palgrave Macmillan.
- Bagehot, Walter. 1872. Physics and Politics, reprint. Charleston: BiblioBazaar.
- Berger, Peter L. 2011. Adventures of an Accidental Sociologist: How to Explain the World without Becoming a Bore. Amherst: Prometheus Books.
- Berkwitz, Stephen C. 2008. “Resisting the global in Buddhist nationalism: Venerable Soma’s discourse of decline and reform,” The Journal of Asian Studies, 67(1): 73–106.
- Brody, David. 2012. The Teavangelicals: The Inside Story of How the Evangelicals and the Tea Party are Taking Back America. Grand Rapids: Zondervan.
- Burrin, Philippe. 1997. “Political religion: the relevance of a concept,” History and Memory, 9(2): 321–49.
- Buzalka, Juraj. 2005. “Religious populism? Some reflections on politics in post-socialist South-East Poland,” Slovak Foreign Policy Affairs, 6(1): 75–84.
- Calhoun, Craig. 2012. “Time, world, secularism,” in Philip S. Gorski, David Kyuman Kim, John Torpey, and Jonathan VanAntwerpen (eds), The Post-Secular in Question: Religion in Contemporary Society. New York: New York University Press, 335–65.
- Canovan, Margaret. 1999. “Trust the people! Populism and the two faces of democracy,” Political Studies, 47(1): 2–16.
- Canovan, Margaret. 2002. “Taking politics to the people: populism as the ideology of democracy,” in Yves Mény and Yves Surel (eds), Democracies and the Populist Challenge. London: Palgrave Macmillan, 25–44.
- Canovan, Margaret. 2005. The People. Cambridge: Polity Press.
- Carlyle, Thomas. 1869. Critical and Miscellaneous Essays: Collected and Republished, Vol. 2. London: Chapman and Hall.
- Casanova, José. 2011. “Religions, secularizations and modernities,” European Journal of Sociology, 52(3): 425–45.
- Chávez, Hugo. 2005. “Selección de discursos del presidente de la República Bolivariana de Venezuela, Tomo VII.” Caracas: Ediciones de la Presidencia de la República: 721–2.
- Clark, J. C. D. 2012. “Secularization and modernization: the failure of a ‘grand narrative,’” The Historical Journal, 55(1): 161–94.
- Creech, Joe. 2006. Righteous Indignation: Religion and the Populist Revolution. Urbana: University of Illinois Press.
- Daoudal, Yves. 2002. La face cachée de Le Pen. Paris: Éditions Godefroy de Bouillon.
- Davie, Grace. 2010. “Resacralization,” in Bryan S. Turner (ed.), The New Blackwell Companion to the Sociology of Religion. Malden: Wiley-Blackwell, 160–77.
- de la Torre, Carlos. 2000. Populist Seduction in Latin America. Athens: Ohio University Press.
- de la Torre, Carlos. 2015. “Introduction: power to the people? Populism, insurrections, democratization,” in Carlos de la Torre (ed.), The Promise and Perils of Populism: Global Perspectives. Lexington: University Press of Kentucky, 1–28.
- de la Torre, Carlos and Cythia J. Arnson. 2013a. “Introduction: the evolution of Latin American populism and the debates over its meaning,” in Carlos de la Torre and Cythia J. Arnson (eds), Latin American Populism in the Twenty-First Century. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1–35.
- de la Torre, Carlos and Cythia J. Arnson. 2013b. “Conclusion: the meaning and future of Latin American populism,” in Carlos de la Torre and Cythia J. Arnson (eds), Latin American Populism in the Twenty-First Century. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 351–76.
- Desroche, Henri. 1979. The Sociology of Hope, trans. Carol Martin-Sperry. London: Routledge and Kegan Paul.
- Dorraj, Manochehr. 2014. “Iranian populism: its vicissitudes and political impact,” in Dwayne Woods and Barbara Wejnert (eds), The Many Faces of Populism: Current Perspectives. Bingley: Emerald Books, 127–42.
- Ezrahi, Yaron. 2002. “Political style and political theory—totalitarian democracy revisited. Comments on George L. Mosse paper,” in Yehoshua Arieli and Nathan Rotenstreich (eds), Totalitarian Democracy and After. London: Frank Cass, 177–82.
- Frykenberg, Robert E. 2008. “Hindutva as a political religion: an historical perspective,” in Roger Griffin, Robert Mallett, and John Tortorice (eds), The Sacred in Twentieth-Century Politics: Essays in Honour of Professor Stanley G. Payne. New York: Palgrave Macmillan, 178–220.
- Garcia-Pelayo, Manuel. 1964. Mitos y simbolos politicos. Madrid: Taurus.
- Gardner, Howard. 1995. Leading Minds: An Anatomy of Leadership. New York: Basic Books.
- Garrido, Alberto. 2002. El otro Chávez: testimonio de Herma Marksman. Mérida: Producciones Karol.
- Gentile, Emilio. 2006. Politics As Religion. Princeton: Princeton University Press.
- Godin, Christian. 2012. “Qu’est-ce que le populisme?,” Cités, 49(1): 11–25.
- Gregor, A. James. 2012. Totalitarianism and Political Religion: An Intellectual History. Palo Alto: Stanford University Press.
- Hadiz, Vedi R. 2016. Islamic Populism in Indonesia and the Middle East. Cambridge: Cambridge University Press.
- Halliday, Fred. 1982–3. “The Iranian revolution: uneven development and religious populism,” Journal of International Affairs, 36(2): 187–207.
- Hawkins, Kirk A. 2010. Venezuela’s Chavismo and Populism in Comparative Perspective. New York: Cambridge University Press.
- Hermet, Guy. 2007. “Populisme et nationalisme,” in Jean-Pierre Rioux (ed.), Les populismes. Paris: Éditions Perrin, 61–83.
- Hofstadter, Richard. 1996. The Paranoid Style in American Politics and Other Essays. Cambridge: Harvard University Press.
- Hutter, Manfred. 2006. “Manichaeism,” in Kocku von Stuckrad (ed.), The Brill Dictionary of Religion, Vol. 2. Leiden: Brill, 1142–4.
- Jagers, Jan and Stefaan Walgrave. 2007. “Populism as political communication style: an empirical study of political parties’ discourse in Belgium,” European Journal of Political Research, 46(3): 319–45.
- Kalyvas, Andreas. 2008. Democracy and the Politics of the Extraordinary: Max Weber, Carl Schmitt, and Hannah Arendt. New York: Cambridge University Press.
- Kersbergen, Kees van. 2010. “Quasi-messianism and the disenchantment of politics,” Politics and Religion, 3: 28–54.
- Le Pen, Jean-Marie. 2001. “21ème fête des Bleau-Blanc-Rouge,” September 23. http://www.frontnational.com/doc_interventions_detail.php?id_inter=15, accessed July 21, 2005.
- Lecoeur, Erwan. 2003. Un néo-populisme à la française: trente ans de Front national. Paris: Éditions La Découverte.
- Lindholm, Charles. 1990. Charisma. Cambridge: Basil Blackwell.
- Linz, Juan J. 2004. “The religious use of politics and/or the political use of religion: ersatz ideology versus ersatz religion,” in Hans Meier (ed.), Totalitarianism and Political Religions: Concepts for the Comparison of Dictatorships, trans. Jodi Bruhn. New York: Routledge, 107–25.
- Marzouki, Nadia, Duncan McDonnell, and Olivier Roy (eds). 2016. Saving the People: How Populists Hijack Religion. London: C. Hurst and Co.
- Mastropaolo, Alfio. 2008. “Politics against democracy: party withdrawal and populist breakthrough,” in Danielle Albertazzi and Duncan McDonnell (eds), Twenty-First Century Populism: The Spectre of Western European Democracy. New York: Palgrave Macmillan, 30–48.
- Moffitt, Benjamin and Simon Tormey. 2014. “Rethinking populism: politics, mediatisation and political style,” Political Studies, 62: 381–97.
- Moore, Sally F. and Barbara G. Myerhoff. 1977. “Introduction: secular ritual, forms and meanings,” in Sally F. Moore and Barbara Myerhoff (eds), Secular Ritual. Amsterdam: Van Gorcum, 3–24.
- Mouffe, Chantal. 2005. “The ‘end of politics’ and the challenge of right-wing populism,” in Francisco Panizza (ed.), Populism and the Mirror of Democracy. London: Verso, 50–71.
- Mudde, Cas. 2015. “Conclusion: some further thoughts on populism,” in Carlos de la Torre (ed.), The Promise and Perils of Populism: Global Perspectives. Lexington: University Press of Kentucky, 431–51.
- Mudde, Cas and Cristóbal Rovira Kaltwasser. 2013. “Exclusionary vs. inclusionary populism: comparing contemporary Europe and Latin America,” Government and Opposition, 48(2): 147–74.
- Oudenampsen, Merijn. 2010. “Speaking to the imagination,” Open, 20: 6–20.
- Ostiguy, Pierre. 2017. “Populism: A Socio-Cultural Approach,” in Cristóbal Rovira Kaltwasser, Paul Taggart, Paulina Ochoa Espejo, and Pierre Ostiguy (eds). The Oxford Handbook of Populism. New York: Oxford University Press.
- Panizza, Francisco. 2013. “What do we mean when we talk about populism?,” in Carlos de la Torre and Cythia J. Arnson (eds), Latin American Populism in the Twenty-First Century. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 85–115.
- Pasquino, Gianfranco. 2008. “Populism and democracy,” in Danielle Albertazzi and Duncan McDonnell (eds), Twenty-First Century Populism: The Spectre of Western European Democracy. New York: Palgrave Macmillan, 15–29.
- Paul, Herman. 2013. “Religion and politics: in search of resemblances,” in Joost Augusteijn, Patrick Dassen, and Maartje Janse (eds), Political Religion Beyond Totalitarianism: The Sacralization of Politics in the Age of Democracy. New York: Palgrave Macmillan, 15–32.
- Payne, Stanley F. 2008. “On the heuristic value of the concept of political religion and its application,” in Roger Griffin, Robert Mallett, and John Tortorice (eds), The Sacred in Twentieth-Century Politics: Essays in Honour of Professor Stanley G. Payne. New York: Palgrave Macmillan, 21–35.
- Porter-Szucs, Brian. 2011. Faith and Fatherland: Catholicism, Modernity, and Poland. New York: Oxford University Press.
- Prud’Homme, Jean-François. 2001. “Un concepto evasivo: el populismo en la ciencia política,” in Guy Hermet, Soledad Loaeza, and Jean-François Prud’Homme (eds), Del populismo de los antiguos al populismo de los modernos. México City: El Colegio de México, 35–63.
- Roberts, Kenneth M. 2013. “Parties and populism in Latin America,” in Carlos de la Torre and Cythia J. Arnson (eds), Latin American Populism in the Twenty-First Century. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 37–60.
- Roberts, Kenneth, M. 2015. “Populism, political mobilizations, and crisis of political representation,” in Carlos de la Torre (ed.), The Promise and Perils of Populism: Global Perspectives. Lexington: University Press of Kentucky, 140–58.
- Rovira Kaltwasser, Cristóbal. 2015. “Explaining the emergence of populism in Europe and the Americas,” in Carlos de la Torre (ed.), The Promise and Perils of Populism: Global Perspectives. Lexington: University Press of Kentucky, 189–227.
- Roz, José Sant. 2003. Bolívar y Chávez. Merida: Fuerza Bolivariana de la Universidad de Los Andes.
- Scott, James C. 1990. Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts. New Haven: Yale University Press.
- Sironneau, Jean-Pierre. 1982. Sécularisation et religions politiques. Paris: Mouton Éditeur.
- Sironneau, Jean-Pierre. 2000. Métamorphoses du mythe et de la croyance. Paris: L’Harmattan.
- Stavrakakis, Yannis. 2005. “Religion and populism in contemporary Greece,” in Francisco Panizza (ed.), Populism and the Mirror of Democracy. London: Verso, 224–49.
- Stępińska, Agnieszka, Artur Lipiński, Agnieszka Hess, and Dorota Piontek. 2016. “Research on populist political communication in Poland,” in Toril Aalberg et al. (eds), Populist Political Communication in Europe: A Cross‐National Analysis of XX European Countries. London: Routledge, 311–25.
- Taggart, Paul. 2002. “Populism and the pathology of representative politics,” in Yves Mény and Yves Surel (eds), Democracies and the Populist Challenge. New York: Palgrave Macmillan, 62–80.
- Taguieff, Pierre-André. 2007. “Le populisme et la science politique,” in Jean-Pierre Rioux (ed.), Les populismes. Paris: Éditions Perrin, 17–59.
- Talmon, Yonina. 1962. “Pursuit of the millennium: the relation between religious and social change,” Archives Européennes de Sociologie, 3(1): 125–48.
- Tiryakian, Edward A. 1995. “Collective effervescence, social change and charisma: Durkheim, Weber and 1989,” International Sociology, 10(3): 269–81.
- Touraine, Alain. 1997. What is Democracy?, trans. David Macey. Boulder: Westview Press.
- Tucker, Robert C. 1968. “The theory of charismatic leadership,” Daedalus, 97(3): 731–56.
- Tudor, Henry. 1972. Political Myth. London: Macmillan.
- Wakefield, Jonathan. 2013. Saving America: A Christian Perspective of the Tea Party Movement. Houston: Crossover.
- Weber, Max. 1958. The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism. New York: Scribner.
- Weiss, Naama and Keren Tenenboim-Weinblatt. 2016. “Israel: right-wing populism and beyond,” in Toril Aalberg et al. (eds), Populist Political Communication in Europe: A Cross‐National Analysis of XX European Countries. London: Routledge, 207–20.
- Williams, Rhys and Susan M. Alexander. 1994. “Religious rhetoric in American populism: civil religion as movement ideology,” Journal for the Scientific Study of Religion, 33(1): 1–15.
- Willner, Ann Ruth. 1984. The Spellbinders: Charismatic Political Leadership. New Haven: Yale University Press.
- Woods, Dwayne. 2014. “The many faces of populism: diverse but not disparate,” in Dwayne Woods and Barbara Wejnert (eds), The Many Faces of Populism: Current Perspectives. Bingley: Emerald Books, 1–25.
- Yates, Joshua J. 2007. “The resurgence of jihad and the specter of religious populism,” SAIS Review of International Affairs, 27(1): 127–44.
- Zanatta, Loris. 2008. “El populismo, entre religión y política: sobre las raíces históricas del antiliberalismo en América Latina,” Estudios Interdisciplinarios de América Latina y el Caribe, 19(2): 29–45.
- Zanatta, Loris. 2014. “La relación entre populismo y religión salta a la vista,” La Voz, July 10. http://www.lavoz.com.ar/ciudad-equis/la-relacion-entre-populismo-y-reli…, accessed October 1, 2015.
- Zúquete, José Pedro. 2007. Missionary Politics in Contemporary Europe. Syracuse: Syracuse University Press.
- Zúquete, José Pedro. 2008. “The missionary politics of Hugo Chávez,” Latin American Politics and Society, 50(1): 91–121.
- Zúquete, José Pedro. 2013. “On top of the volcano: missionary politics in the twenty-first century,” Politics, Religion and Ideology, 14(4): 507–21.