التاريخانية

التاريخانية

تقديم المترجم

لماذا التاريخانية؟

لأنها من الكلمات – والمعاني – الأكثر تردادًا في حقل الدراسات الثقافية عمومًا، والدراسات الدينية في الوقت الحالي. ومع ذلك، فإن المصطلح ومع كثرة استعماله والإحالة عليه في الكتابات العربية، فإنه يبقى محاطًا بكثيرٍ من الغموض واللبس والعمومية والنسبوية التي يمكن معها توظيف المفهوم نفسه في رؤيةٍ ما وعكسِها.

ومن ثَمَّ فإن اتخاذ موقف من التاريخانية، سواء بالتبنِّي أو المواجهة أو الأخذ والرد، ينبغي أن يقوم على تصور سليم ووافٍ وتاريخاني لها أيضًا - وهذه مفارقة أخرى -.

فما معنى التاريخانية [أو التاريخية] بالتحديد؟ وما أبرز مبادئها؟ وما معنى أن نصف رؤيةً أو تصوُّرًا ما بأنه تاريخانيٌّ؟ وهل تستلزم الفلسفة التاريخانيةُ حَبْسَ مفهومٍ معيَّن في سياق التاريخ بحيث لا يتجاوزه؟ أم مراعاة سياق تاريخيٍّ معيَّن لفهم مفهومٍ ما؟ وهل هي مضادَّة بالضرورة للقيم المتعالية أم يمكن أن تحايثها في تصوُّرٍ ثقافيٍّ ما؟ وكثير من الأسئلة الأخرى التي يمكن أن نثيرها حول التاريخانية.

ولأنَّ في التاريخانية – برأينا -، بما هي مذهب في دراسة التاريخ من جهة، وبما هي منظور وخطاب وأداة معرفية ونموذج تفسيري وتأويلي من جهة أخرى: إمكاناتٍ عديدةً يمكن استعمالُها والانتفاعُ بها في تقديم قراءات دينيةٍ أكثرَ مواكبةً لراهننا، تعرض لمشكلاتنا ولمشكلات التراث، وتفهم عوامله التأسيسية وسياقاته وتناقضاته مع بعض ظواهر الحياة المعاصرة؛ فقد كان من اللازم ترجمة بحثٍ يتضمَّن تأريخًا فكريًّا للتاريخانية وأهم مبادئها وإشكالاتها، بما أن ذلك الاتجاه قد نشأ في الغرب أساسًا.

ومن هنا تنبع أهمية الفصل المترجم لفريدريك بيزر – أحد الباحثين البارزين في مجال الدراسات الفكرية الأوروبية في عصر التنوير – حول (التاريخانية). حيث يتضمَّن ذلك الفصل تتبُّعًا مورفولوجيًّا وتاريخيًّا لمصطلح التاريخانية، من حيث نشأته، وتطوره التاريخي. وأهم ما يتسم به هذا الفصل من هذه الناحية: هو ممارسته لفرزٍ دقيق وتفصيل بين الاتجاهات المختلفة والآراء المختلفة – إلى حدِّ التبايُن – التي اندرجت أو كانت تندرج جميعُها تحت مصطلحٍ واحدٍ هو «التاريخانية». كذلك يتضمَّن هذا الفصل ذكرَ أهم مبادئ التاريخيانية وتطبيقات هذه المبادئ، وبيان أبرز رموز التاريخانية وأعلامها وكتاباتها، والصراعات الفكرية التي رافقت تشكُّل هذا الاتجاه، في عصرٍ ازدهرت فيه فلسفة التاريخ مع وجود هيجل وماركس بطبيعة الحال. وكذلك عرض الفصلُ لأهم الإشكالات التي تواجه فلسفة التاريخانية، وهي مشكلة (النسبوية)، وناقشها من زوايا مختلفة، ليصل بالحديث عن (أزمات التاريخانية)، ويختم فصله بنقطة مهمَّة حول (دراسة التاريخانية)، بيَّن من خلالها كيفية التأريخ للتاريخانية ودراستها والمشكلات المنهجية التي قد تعترض ذلك.

إن التركيز من خلال ترجمة هذا الفصل عن (التاريخانية) على قضية (الترجمة الوظيفية) لهو أمرٌ يشغل بالي كثيرًا. وأقصد به تحديدًا أن ننحو بالترجمة نحو المناهج والقضايا والجبهات الفكرية التي تمس حاجتُنا إليها. فكثيرٌ من المجالات الفكرية – سواء أكانت في الدراسات الدينية أو العلوم الإنسانية – ما زالت تعاني فقرًا منهجيًّا كبيرًا، بسبب قلَّة أو ندرة الأدبيات المنهجية التأسيسية فيها باللغة العربية، والمأمول أن تقوم حركة الترجمة بسدِّ ذلك الثَّغْر بأن تركِّز في اختياراتها على الأعمال المؤسِّسَة للمناهج والأفكار، وكذلك على أجود الدراسات الأجنبية التي تعالج القضايا والمسائل التي نحتاج إلى الاطلاع على الجديد فيها بما يعود على أدواتنا المعرفية والبحثية بالتجويد، وهي الفائدة العظمى المرجوَّة في نهاية الأمر، وليس الاتجاه بالترجمة نحو القضايا الرائجة الجماهيرية أو الكتب الأكثر مبيعًا أو الكتب الجدلية التجارية فحسب، أو التوسُّع في ترجماتٍ لا تضيف للمكتوب بالعربية شيئًا ذا بال.