الإسلامي العلماني أو العلمانية المقنَّعة

المغرب مسجد سياسة إسلام

المقدمات والفرضيات

نسعى في هذه المقالة إلى مساءلة المتغيرات في وعي الإسلاميين بالعلمانية عبر تجربتَيْن من تجاربهم: التجربة التونسية والتجربة المغربية، ممثَّلتين في القياديَّيْن صالح كركر(۱) وسعد الدين العثماني(۲). أما سبب اختيارنا لهاتين التجربتَيْن القياديتَيْن، فهو أن لديهما اتجاهًا مختلفًا في رسم حدود العلاقات بين الديني والسياسي، لم نجد مثله في عموم أدبيات الإسلام السياسي.

فقد دعا صالح كركر إلى أن تتخلَّى حركة النهضة عن صفتها السياسية، وأن توجِّه عملها إلى الأبعاد الدينية والتربوية والعلمية على هيئة جمعياتٍ وأنشطة يضمُّها «تيار»(۳) علنيٌّ مفتوح للجميع، وليس له من الأبعاد التنظيمية إلَّا ما تستدعيه الأعمال الإدارية. وترافق هذا المقترح مع الدعوة إلى إنشاء حزبٍ علمانيٍّ بالكامل، يمكن لمن شاء من الإسلاميين ممارسة السياسة الانضمام إليه بصفته مواطنًا(٤)، لا بصفته إسلاميًّا. وتكون وظيفة هذا الحزب هي النضال من أجل دولة الحق والقانون بعيدًا كل البُعْد عن دولة الوحي(٥).

وأما سعد الدين العثماني فكانت الأطروحة الأهم التي أوقف عليها عددًا من كتبه ومقالاته هي تلك القائلة بضرورة التمييز بين الديني والسياسي، وعدَّها أطروحةً ثالثةً في مواجهة الأطروحة العلمانية القائلة بالفصل، وضديدتها القائلة بالوصل، أي بالدولة الدينية. والمهم فيما قاله ليس الدعوة إلى التمييز فحسب، على أهميتها، وإنما في اعتباره أن ذلك التمييز ليس بدعةً مُحدَثة، بل له أصول في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة. ففي هذا النوع من التصرفات لم يكن النبيُّ -في اعتقاده- يتصرَّف عن وحي، بل عن رأيٍ لا يُمكن أن يدخل فيه الإلزام كما في التصرفات التشريعية العامَّة مثلًا.

وكان اطلاعنا على ما كتبه القياديان الإسلاميان في سياقَيْن مختلفَيْن تمامًا حافزًا لنا على صياغة السؤال التالي: هل يشهد فضاء الأيديولوجيا العربي بدءًا من تسعينيات القرن العشرين ولادة عسيرة لما يمكن تسميتُه بالإسلامي العلماني؟


الهوامش

(۱) ليست السطور التالية ترجمةً لصالح كركر، وإنما هي معلوماتٌ بسيطة تعطي القارئ فكرةً أوَّليَّةً عن صاحب المراجعات المولود بولاية المنستير سنة ۱۹٤۸م، ويُعَدُّ أحد المؤسسين الأوائل للجماعة الإسلامية التي صارت فيما بعد حركة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة. وقد ترأس حركته بضعة أشهر في سنة ۱۹۸۷م، ورأس مجلس شوراها، وناب رئيسها. وكان رجل التنظيم الأول، أسَّسه وانكشف على يديه سنة ۱۹۸۰م. وفي مسيرته السياسية الطويلة تعرض مرارًا للمحاكمة، وحُكم عليه غيابيًّا بالإعدام سنة ۱۹۸۷م. وفي منفاه حكمت عليه الدولة الفرنسية بالإقامة الجبرية سنة ۱۹۹۳م في قضية تفاصيلها وأسبابها الحقيقية ما زالت محوطةً بالكثير من الغموض. وقد استمرت هذه الإقامة الجبرية إلى ما بعد سقوط بن علي، وفي سنة ۲۰۱۲م عاد إلى تونس مريضًا من أثر تبعات جلطة دماغية أصابته سنة ۲۰۰٥م. وتوفي صالح كركر في أكتوبر من السنة نفسِها. أما سيرته العلمية فتدور حول اختصاصه في الاقتصاد والإحصاء، حيث له درجة ثالثة من الدراسات المعمَّقة في الاقتصاد، وشهادة الدكتوراه في الإحصاء بالمعهد العالي للتصرف بتونس. ولصالح كركر بعض المؤلفات بالإضافة إلى هذه المراجعات ومقالاته السياسية المتفرقة، منها: «رؤى في النظام الاقتصادي في الإسلام»، و«نظرية القيمة: العمل والعمال والعدالة الاجتماعية في الإسلام وفي المذاهب والنظم الوضعية»، و«تبعية العالم الثالث في ظل النظام العالمي الراهن».

(۲) يُغني وجود سعد الدين العثماني المولود سنة ۱۹٥٦م في رئاسة الحكومة المغربية عن الترجمة له، ونكتفي هنا بذكر أهم آثاره المتعلِّقة بموضوعنا، التي اعتمدناها في بناء عملنا بدرجاتٍ متفاوتة: في الفقه الدعوي: مساهمة في التأصيل (الدار البيضاء: منشورات حركة الإصلاح والتجديد، ط٤، ۱٤۱۷هـ/۱۹۹٦م)؛ جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية (القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط۱، ۱٤۳٤هـ/۲۰۱۳)؛ تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية (الرباط: منشورات الزمن، ط۱، ۲۰۰۳م)؛ الدين والسياسة: تمييز لا فصل (القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط٦، ۲۰۱٥م).

(۳) صالح كركر، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة (فرنسا: ط۱، ۱۹۹۸م)، ص٥۳.

(٤) المرجع نفسه، ص۸۲.

(٥) تجدر الإشارة إلى أن فكرة صالح كركر منطلقها اعتبار الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الحركة الإسلامية هو التحزب السياسي. وهي فكرة تشبهها -على اختلافٍ واضحٍ في السياق- فكرة الإسلامي المغربي فريد الأنصاري، ففي عام ۲۰۰۷م وجَّه الأنصاري نقدًا قويًّا للحركة الإسلامية في المغرب في كتابه «الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب»، حيث ذكر أن أكبر خطأ ارتكبته الحركة الإسلامية هو إنشاء حزب سياسي، مما مثَّل مشروع إجهاز على البُعْد الدعوي. انظر تفاصيل ذلك في: فريد الأنصاري، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب: انحراف استصنامي في الفكر والممارسة (مكناس: منشورات رسالة القرآن، ط۱، ۲۰۰۷م).