اختصاص محاكم القاضي في العصر الأموي
المقدمة
اطرد في المصادر ذكر القضاة مع نزر من أصحاب الولايات في الإدارة الإسلامية المبكرة. فقد دأب مؤرخو العصور الوسطى -مثل خليفة بن خياط [ت: 240هـ/854م] والطبري [ت: 310هـ/923م]- على ذكر أولئك الذين تولوا قضاء المدن الكبرى، مع حكامها ورؤساء الشرطة فيها إبان العصر الأموي[1]. وينتصب القضاء في المصادر التاريخية مَعْلمًا للاستمرار الإداري منذ عهد الراشدين وما تلاه. ورغم تطاول العمر به وأهميته البارزة لكل من النظام الإداري وبيان الحكم الشرعي، فلم يُحفظ إلا النزر اليسير عن العمل الفعلي لجهاز القضاء خلال العصر الأموي. فلم تبق السجلات الأرشيفية -بافتراض أنها وُجِدت يومًا ما- ولا حُفِظَت الوثائق القضائية، ولا الأدلة الإجرائية.
لا جرم -إذن- أن تعتمد دراسة القضاء في الحقبة الأموية على مصادر لاحقة كُتِبَت إبان العصر العباسي أو بعده. وقد حملت هذه المصادر فرضيات متنوعة عن طبيعة القضاء، مبنية على تصورات مصنفين لاحقين عن أصول المؤسسات العباسية التي كانت أوغل في الرسمية. وقد وُجَّهت هذه الفرضيات، وطورًا شوَّهت، النقاشات الوسيطة والحديثة عن القضاء في العصر الأموي. وعلاوة على ذلك، فنقاشات العصر العباسي اللاحقة حول اختصاص القاضي قد أعقبت ظهور محاكم المظالم التي أتاحت للتقاضي مقامًا قانونيًّا بديلًا، وتداخلت وظائفها مع محاكم القضاة. وبأثر من ذلك أسقطت هذه المعالجات اللاحقة للقضاء صورةَ نظام التقاضي الذي قام على نظاميْن من المحاكم في العصر العباسي على العصر الأموي، حين لم يكن ثَمَّ إلا مؤسسة واحدة رسميًّا على الأقل.
سيركز هذا البحث نقاشه على حدود الاختصاصات القضائية، ابتغاءَ تحديد المدى الذي بلغته ولاية القاضي القانونية خلال العصر الأموي. وسيبدأ بخلاصة للرؤى التقليدية عن وظيفة القاضي واختصاصه، ثم يُعرِّج على معالجة أشد عناية بالقضايا المروية في المصادر. وبناءً على تلك القضايا التي يُفترض أن القضاة نظروها سيقدم رؤى لنطاق ولاية القاضي وصلاحياته. وختامًا، سيعرض تصورًا أدق للحدود الاختصاصية لسلطة القضاة، ويبُرز السلطة الحقيقة التي كان يسعهم ممارستها.
سلك الدرس العلمي الحديث شِعْبين مختلفين -وإن التقيا أحيانًا- في النظر إلى طبيعة القضاء الإسلامي المبكر ونشأته. عدَّ التفسير الأول القاضي -في جوهر الأمر- تجليًّا إسلاميًّا للحَكَم القبلي. ففي المجتمع العربي التقليدي فُوِّض الحكام في حل المنازعات في مجتمعاتهم القبلية المستقلة. وحظي هؤلاء بالإجلال لحكمتهم وإنصافهم وإحاطتهم بالأعراف القبلية. وربما لم يكن حذق هؤلاء بالتفاوض أقل أهمية من معرفتهم بالأعراف المتبعة؛ إذ كانت سلطتهم -وقد افتقدوا القوة القاهرة التي تحمل على امتثال أحكامهم- موقوفة على رضا أولئك الذين يحكمون فيهم. ولم تكن عواقب تحدي قضاء الحكام مُعينة، فقد يلحق الأذى سمعة أولئك الذين نكثوا وعودهم بالنزول على التحكيم مظهرين في الآن نفسه الاستخفاف ببعض وجهاء المجتمع. وربما دعا ذلك -إن جلَّ الخَطْب- المجتمع كله إلى إنزال الجزاء بهم. ومع ذلك لم تكن ثَمَّ آلية معتمدة لإنفاذ قضاء الحَكم، أو عقاب من تمرد عليه.
فظهور الإسلام إذن -بناءً على هذا التفسير- يعني أن قضاة المنازعات التقليديين هؤلاء ظلوا أعضاء مبجلين في المجتمع موسومين بالحكمة والعدل، وقد أمسوا الآن مُعيَّنين، أو على الأقل أقرَّهم الخليفة أو الوالي على مناصبهم. وهكذا فإن القاضي ظل في آخر الأمر على منصبه الذي حازه في ثقافة قبلية عربية أسبق، وأضحى الآن مصطبغًا بالإسلام، وخوَّله إقرار الخليفة سلطانًا فوق سلطانه. ساد هذا النظر في الدرس الحديث للفقه الإسلامي المبكر. وكان شاخت (Schacht) صريحًا في جزمه بأن القاضي «قد استولى على كرسي الحَكَم وعصاه»[2] .
وأما المقاربة التفسيرية الثانية للقضاء فترى القاضي امتدادًا إداريًّا للوالي و/أو الخليفة نفسه. ويفترض هذا التصور للمنصب نهجًا أشد نزوعًا نحو المركزية والاستبداد في الإدارة القانونية. ووفقًا لهذا النموذج فقد عمل القاضي منفِّذًا لأحكام الخليفة وقراراته، يحمل المجتمع على ضرب من التماثل الذي يقرِّره الخليفة. وبأثر من هذه الوظيفة التنفيذية التي يؤديها القاضي، تشكّل ما يدعوه جوزيف شاخت «الممارسة الإدارية الأموية»[3]. وقد قيَّد هذا التماثل -المفهوم ضمنًا من التصور السابق للقضاء- استقلال القاضي إلى مدى بعيد، فلم يسعه –خلافًا للمُحكم- أن يصدر في قضائه عن الفوارق الدقيقة في أفراد القضايا، أو عن المصالح العظمى للمتقاضين. بل كان يفرض أحكامًا سلف إقرارها من الوالي أو الخليفة. لقد أمست وظيفته –في هذا النموذج- أوغل في الإدارية.
ينبع عن هذا التفسير أثر آخر، وهو أن ولاية القاضي قد قُيِّدت بإشراف الوالي، فلم يكن بوسعه -وهو الذي استمدَّ سلطانه من الوالي- أن يعارض إراداته؛ إذ كان رئيسَه القادر على إلغاء أحكامه. وعلاوة على ذلك، فقد وَسِع الوالي أن يعدل عن تفويض غيره سلطته القضائية إلى استبقائها لنفسه. وقد جلَّى هذا النظر إميل تيان Emile Tyan الذي تصور سلطة هرمية من الخليفة إلى الوالي إلى القاضي[4]. وكذلك أبان عنه شاخت، حيث جزم أن «إدارة العدالة إبان عهد الأمويين كانت في أيدي ولاة الأقاليم، أما القضاة الذين يعيّنونهم فكانوا بمنزلة وكلاء عن الولاة الذين فوضوهم بعضَ ما لهم من وظائف»[5]. وفي الحقبة الأخيرة اعتمد ماتيو تيلييه Mathieu Tellier رؤى مقاربة[6]. وحاول شاخت -بقدر ما- أن يسلك كلا الطريقين، فالقاضي -كما يؤكد- حَكَم، غير أن الوالي على نحو ما قد حاز السلطة جميعًا[7]. وذهب وائل حلاق بأخرةٍ مذهبًا قريبًا ومتناقضًا فيما يبدو، فهو يجزم من جهة أن القاضي من المتقدمين كان في جوهر الأمر حَكَمًا، لكنه يعود فيصفه بـ«وزير الأمير»، الذي كان «في العادة تابعًا» له[8].
سعى الدارسون من جهة أخرى إلى ملء الفراغ الوثائقي للعصر الأموي بالاعتماد على مصادر الحقبة العباسية، مفترضين أن لما وُصِف من هياكلها البيروقراطية سوابق أموية أقدم.
استُمدت هاتان الرؤيتان المتمايزتان عن نشأة القضاء ووظيفته من شاغليْن مركزييْن في درس مؤسسات الحقبة الأموية، فقد سعى الدارسون المحدثون من جهة، إلى العثور على برهان على استمرار الماضي الجاهلي عبر العناية بمواطن الشبه بين مؤسسات الحقبة الأموية وأسلافها عند المتقدمين من العرب والبيزنطيين والساسانيين. وإذن كان القاضي مجرد «حَكم» قد اتخذ اسمًا جديدًا ذا ولاية لا بُدَّ منه، يُلبس أحكامه عباءة الإسلام لا لبوس العرف. وسعى الدارسون من جهة أخرى إلى ملء الفراغ الوثائقي للعصر الأموي بالاعتماد على مصادر الحقبة العباسية، مفترضين أن لما وُصِف من هياكلها البيروقراطية سوابق أموية أقدم[9]. وتذهب هذه المقاربة إلى أن للهياكل الهرمية التي أنشأتها إصلاحات عدة من الخلفاء العباسيين -وقد فصلها ماتيو تيلييه- جذورًا سابقة. وتتجلى في صورة النظام القضائي الأموي هذه نوع تجلٍّ رؤيةٌ مثالية للقضاء ظهرت في مصادر شتى من أدب القاضي، كُتبت بعد تقادم عهد بني أمية.
إن استقراء مصادر أخرى غير متخصصة لا سيما مصنفات التراجم، يُقدِّم رؤية أخرى عن القضاء واختصاصه أثناء العصر الأموي. فلم يكن القاضي -كما سيوضح النقاش الآتي- حَكَمًا اتُّخِذ له اسم آخر، ولا كان ساعد الوالي المذعن، بل كان مدى سلطانه وحدود اختصاصه أشد تعقيدًا، وربما يُثير الدهش أنها كانت أظهر تحديدًا. ولكي نبلغ هذه النتيجة فلا بُدَّ من استقراء ألوان القضايا التي يفترض أن القضاة قد نظروا فيها، مع التنبه إلى ضروب أخرى لم يُؤذن لهم بالقضاء فيها. ويُتيح لنا تحليل هذه القضايا الواقعية فهم الحدود القانونية لاختصاص القاضي، ومدى سلطانه على طبقات الناس المتفاوتة من الصفوة ومن دونهم. ومن حسن الطالع أن بقيت في مصادر متنوعة، روايات قدرٍ من الوقائع التي نظر فيها القضاة الأمويون وإن لم تبلغ حد الكثرة.
أخبار قضاة مصر- الكِندي
بينما لم يكن لدى محاكم القاضي في الحقبة الأموية شيء يشبه الأرشيف، فقد اسْتَبْقت المصادر روايات عدد كاف من القضايا. وكَثُر في "أخبار القضاة" لوكيع [ت: 306هـ/918م] و"أخبار قضاة مصر" للكندي [ت: 350هـ/961م] بخاصة الأخبار التي تقصُّ أعمال القضاة[10]. وزيادة على ذلك تُوفر التراجم المفردة للقضاة في مصنفات التراجم معلومات مهمة، وتزودنا القضايا الواردة في هذه المصادر -بلا ريب- ببصائر نافعة عن مدى ولاية القضاة، على أنه يجدر بنا التنبه إلى المدى المحدود لهذه القضايا. فلم تكن هذه المصنفات أرشيفًا كاملًا، وما قصد مؤلفوها أن يؤدوا بها عملًا إداريًّا، بل تضمنت هذه المصادر -وحسب- القضايا التي وجدها مصنفون لم يعاصروها مهمةً وجديرةً بالعناية لضروب من الأسباب. ولا يبدو أن اختيارهم لما يُدوَّن وما يطرح جليُّ الأسس. وليس ثَمَّ دلالة واضحة على مدى شمول المصادر التي نقلوا عنها مادتهم. فكثير من تراجم القضاة الأمويين لا تتحدث عن القضايا التي نظروا فيها، لكن تراجم آخرين منهم تتضمن أخبارًا وافرة عن مثل تلك القضايا. وقد انْتُقِيَت القضايا التي ستناقش تباعًا باستقراء التراجم وغيرها من الروايات عن نحو 75 قاضيًا أمويًّا. ولا تمثل هذه المادة عينة شاملة ولا عشوائية من هذه القضايا، وإنما سيقت أمثلة لبصيرة تقدمها عن هيكل القضاء الأموي، ووظيفته، وكيفية النظر -في أزمنة لاحقة- إلى الجذور الأموية لمؤسسة القضاء.
مجالات اختصاص القاضي
تتصل جملةٌ غالبةٌ من القضايا المروية في المصادر بما سماه الباحثون المحدثون بـ«قانون الأسرة»، وفيها نزاعات الزواج والطلاق والميراث. وتشيع بصفة خاصة قضايا الزواج والطلاق. وبعض هذه القضايا معتاد، ومثالها ما رواه وكيع من ردِّ سعيد بن أشوع (قاضي الأمويين بالكوفة (105-113هـ/724-731م) نكاحًا يفتقر إلى الكفاءة. ولم يسم وكيع المتقاضيين، ولم يُفصل طبيعة الافتقار إلى الكفاءة. ومن الجلي مع ذلك أن سلطان القاضي في الحكم بصحة النكاح لم يكن محل نزاع[11]. وفي مصر ولي يونس بن عطية (ولي القضاء 84-86هـ/703-705م)- القضاءَ لحسمه النزاع حول دفع نفقة إحدى المطلقات. ومرة أخرى، تغيب تفاصيل القضية (بل وتفاصيل حكمه أيضًا)[12]. وأمر توبة بن نمر (قاضي مصر 115-120هـ/733-738م) رجلًا طلَّق امرأته أن يُمتعها، ولما أبى الرجل ردَّ [توبةُ] شهادتَه في أمر استقبل[13].
وثَمَّ قضايا أخرى في النكاح والطلاق كانت أشد تعقيدًا وأولى بالعناية. ومن هذا حُكم قاضي البصرة إياس بن معاوية (ولي القضاء 99-101هـ/717-719م) في قضية طلاق مُحيرة. وفيها زعم الزوج أن الطلاق غير واقع؛ إذ كان سكرانًا في حينه[14]. وتختلف روايتا وكيع [للقضية] في دقائق مهمة، بله هويةَ المتقاضييْن. فكلا الزوجين -على أولى الروايتيْن- من عشيرة المهلب النافذة، وحين ردت الزوجة كأسًا من النبيذ ناولها الزوج إياها، جهر بأنه سيبتُّ طلاقها إذا لم تشربها (أنت طالق ثلاثًا إن لم تشربيه)، وبعد استمرار إبائها (وتحطم كأس النبيذ) زعمت أنه طلقها، لكنه جحد أنه طلقها ثلاثًا. وقد أقر إياس -حسب هذه الرواية- وقوعَ الطلاق بشهادة امرأة لم تُسم قد حضرت الواقعة. وأما في رواية وكيع الثانية فلم يُسم المتقاضيان، حيث عُرِّف الزوج بأنه رجل من بني كِرام ختن للوالي، واكتُفي في زوجته بأنها من قبيلة الحُدَّان. وفيها تدفع الزوجة السابقة زعم الزوج السكرَ بشهادة عبد لها أعتقته بأخرة، حيث شهد أن الزوج كان في صحوه [غير سكران]. وقد جلب إثبات الطلاق على إياس حنق الوالي عدي بن أرطاة، ودفعه إلى الفرار. ولا ريب أن هذه الأخبار تتطرق إلى ضروب من الأسئلة الفقهية المعقدة، تضم وقوع طلاق الثلاث في مجلس واحد، وأثر السكر في أهلية الرجل للطلاق، وقبول شهادة النساء والعتقاء (وربما وقع إعتاقهم بسبيل المكاتبة). وأمر آخر ذو أهمية هو ظهور ديناميات السلطة بين العشائر النافذة والولاة والقضاة. وإذا صح أن هذه القضية تُمثل ممارسة معيارية، وليست مجرد خبر للّهو، أمكن استخلاص نطاق واسع من النتائج عن الفقه الأموي منها وحدها.
وفي قضية أخرى فسخ قاضي المدينة أبو بكر بن عبد الرحمن (ولي القضاء 114هـ/732م) نكاحًا وقع على إباء من أهل العروس. وربما كان فرار النساء للزواج وتعاسة أهلهن بذلك شائعًا في عصور الإسلام الأولى قدر شيوعه اليوم، غير أن الفريد في هذه القضية أن الزوج كان أيوب بن سلمة خال الخليفة هشام، وعروسَه الفارة هي فاطمة حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب. وقد رد إخوتها الأربعة الصِّهر[15]، ورفعوا الأمر إلى الوالي فأحاله إلى القاضي[16]، فقضى بفسخ النكاح، ليُثير بذلك حنق أيوب الذي أبى النزول على القضاء، فضُرِب جزاء لامتناعه. فانقلب أيوب إلى ابن أخيه الخليفة يطلب وساطته. وكان جواب هشام محيرًا على نحو ما، فقد أنَّب خاله وتوعده أن يلقى من الضرب أشد مما كان، لكنه كان عونًا له في آخر الأمر، فقد وبَّخ الوالي، وكذلك أمر به أن يُضرب[17]. وعلاوة على ذلك، فقد أمر أيضًا أن ينزل أطراف الدعوى جميعًا على قول العروس في الأمر. وكسابقتها لم تكن هذه القضية زواجًا نمطيًّا، وكذلك كان لها تباعات اجتماعية وقانونية هائلة، فقد أُدِين خالُ الخليفة إذ سعى في مغالبة القاضي، بيد أن تسوية الأمر سمحت لامرأة ذات منزلة شريفة أن تتزوج رغم إباء أهلها. وانصرف الخليفة كذلك عن الانتقام من القاضي لحكمه على قرابته، إلى صب غضبه على الوالي. وفي القصة أيضًا مُسحة أموية علوية لا تُخطئها العين، فقد آل الأمر ثَمَّ إلى إضعاف العلويين بتقويض ولايتهم على زواج فاطمة. ولا يخلو من المغزى أن تنتهي القصة بمقالة عابرة: لم يُعقب الزوجان. ويتكرر هنا أيضًا اشتباك رموز اجتماعية نافذة في قضية كانت المبادئ الشرعية الرئيسة فيها موضع مخاطرة. وقد ظل القاضي في كل هذه القضايا سالمًا نسبيًّا، برغم إصداره أحكامًا تعارض مصالح النافذين.
نظر القضاة كذلك في قضايا الميراث، وفي الكثير منها تعقيدات رياضية في القسمة الصحيحة للتركة على جماعة مختلفة من الوارثين. وتُبين طائفة من هذه القضايا عن تعليقات قانونية ومجتمعية أشد تحديدًا. فمن هذا حكمُ قاضي مصر خير بن نُعيم (120-127هـ/737-744م) أن ولد المكاتب (عبد كوتب على العتق) لا يرث[18]. وفي مجال ذي صلة، يروي الكندي كذلك أمثلةً ولي القاضي فيها تنظيم الوصاية في ميراث اليتامى[19]. وفي قضية مفعمة بالسياسة، قضى قاضي المدينة سعد بن إبراهيم (في نحو 104هـ/722م) بإلزام إسماعيل بن عبد الله سيد قريش في المدينة، أن يُنفق على بعض ذوي الحاجة من قرابته[20]. وتوضح هذه الأمثلة ذات الصلة بأحكام الأسرة، الحلولَ التي وجدها القضاة لما وقع بين الفيْنة والأخرى من مشكلات فقهية محيرة. وهي إلى ذلك تُبصِّر بهياكل السلطة الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
لم يقنع قاضي دمشق بلال بن أبي الدرداء برد شهود الزور، حتى روي أنه ضربهم وقيدهم -في بعض القضايا- إلى سواري المسجد ليُخزيهم على أعين الناس.
وتؤدي القضايا المشتملة على تقدير القاضي لأهلية فئات معينة من الشهود عددًا من الوظائف، وإن لم تكن هذه القضايا وافرة في المصادر فإنها كاشفة. وعلى سبيل المثال، تكشف قضية الطلاق التي ناقشناها آنفًا عن آثار قرار القاضي في إمكان شهادة المرأة أو العتيق في هذا الضرب من القضايا، مع إلماع عن منزلتيْهما الاجتماعية والقانونية. وفي مثال آخر، أبى قاضي الكوفة الإمام شُريح بن الحارث (من نحو 22-79هـ/634-698م) أن يسمع شهادة ابن تَنْصُر دعوى أبيه؛ لتضارب المصالح الجوهري. لقد أمضى شُريح هذا المبدأ، وإن كان الابن موضع التهمة في المسألة [بالانحياز إلى أبيه] هو الحسن بن علي وريث الخليفة الحاكم[21]. لم يتخلف تطبيق قواعد الإثبات في هذا المثال، برغم ما للمدعي والشاهد من شرف المنزلة، ولم يعارض واحد منهما قضاء شُريح. وتحفظ المصادر أمثلة أخرى لرد القاضي الشهادة لضروب من الأسباب. فمن هذا رد قاضي مصر توبة بن نمر (115-120هـ/733 -738م)، شهادة رجل أبى الامتثال له في قضية سلفت[22]. ولم يقنع قاضي دمشق بلال بن أبي الدرداء (60-65هـ/768- 784م) برد شهود الزور، حتى روي أنه ضربهم وقيدهم -في بعض القضايا- إلى سواري المسجد ليُخزيهم على أعين الناس[23].
لا تسمي هذه الروايات من زُعِم كذبه، لكنها تدل على ما كان للقاضي من مجال رحب في تعيين من تُسمع شهادتهم في مجلسه، وفي إنزال عواقب للحنث والعصيان. وثَمَّ روايات أخرى كانت أقل تحديدًا، إذ تكتفى بذكر فئات من الشهادة قبلها قضاة بأعيانهم. ومثالًا لذلك، فقد قبل قاضي مصر خير بن نُعيم (120-127هـ/738-745م) الشهادة في بعض القضايا من النصارى واليهود والصبيان[24]. وكذلك أجاز قاضي المدينة سلمة بن عبد الله (101-104هـ/719-722م) شهادة الصبيان[25]. وقبل قاضي المدينة الأسبق أبو بكر بن محمد الأنصاري (93-96هـ/711-714م) شهادة ابن لأمه، وهو ما يخالف رد شُريح الشهادة لمصلحة أحد الأبويْن. وكذلك قبل أبو بكر شهادة بعض من سبقت منه دعوى باطلة[26]. وبرغم أن أمثلة الحقبة الأموية لا تقفنا على قواعد ثابتة فيمن تقبل شهادته، فإنها تكشف بجلاء عن مرتبة من الحرية حازها القاضي في تقدير ما يُقبل من البينة، وأن المنزلة الاجتماعية للمتقاضين كانت في الجملة منبتة الصلة بقبول شهادتهم.
وبالإضافة إلى هذه الفئات من القضايا، فقد حفظت المصادر عددًا من الروايات التي تنطوي على ضروب شتى من نزاعات الملكية. ومن هذا أن سعد بن إبراهيم كان عليه أن يفصل في ملكية واد تنازع فيه ورثة علي ومعاوية[27]. وفي قضية مدينية أخرى، أدان خلفه سعيدُ بن سليمان (104-106هـ/722-724م) الواليَ عبد الواحد؛ أن كان غصب مالًا لقرويين خارج المدينة[28]. وفي نادرة من قضايا القتل الخطأ المحفوظة من العهد الأموي، حكم قاضي مصر عياض بن عُبيد الله (93- 100هـ/711-718م) بإلزام المولى راكب الفرس[29] (دون مالكه) ديةَ امرأة صدمها الفرس فقتلها[30]. تُقدِّم هذه القضايا التي وصلتنا –كأمثلة أحكام الأسرة- تعليقًا ضمنيًّا عن التقنيات القانونية، والمجتمع بعامة. وتومئ إلى التفاعلات التي جرت بين صفوة الناس وعامتهم، وفيهم من لم يُسم من القرويين والموالي في مجلس القاضي. إن العنصر الرئيس في هذه القضايا هو -مرة أخرى- بسط القاضي سلطانَه على المتقاضين على اختلاف فئاتهم الاجتماعية.
ويشي اطراد هذا العنصر بأن غرضًا من تلك الأغراض التي ابتغاها وكيع، والكندي، وآخرون بإثرهما، هو إبراز المدى الذي بلغته ولاية القاضي خلال الحقبة الأموية. ومن الجلي أن هذه القضايا ليست عادية على النحو الذي يمكن أن يجده المرء في أرشيف إداري حقيقي، ولا هي خبط عشواء من الأخبار، بل وجدها المصنفون اللاحقون قمنة بالحفظ لسببْين ظاهرين.
فأما الأول: فهو ما أتاحته هذه القضايا وأضرابها من الحلول لمشكلات فقهية محددة. فقد حملت الأخبار التي حكم فيها القضاة الأمويون في قسمة الميراث، وأهلية فئات معينة للشهادة، وصحة الأنكحة، ومسائل أخرى، أهميةً فقهية. ذلك أنها وفَّرت سوابق لممارسات تشريعية لاحقة، أو لعلها أتاحت نقدًا لانحراف لاحق عن الممارسة المثالية. ومن القطعي أن الجدل ما يزال قائمًا بين اعتبار هذه الوقائع تمثيلًا صادقًا للممارسة القضائية الأموية، وبين اعتدادها روايات انتُحلت لتسويغ ممارسات استجدت.
وأما ثاني الغرضين الظاهرُ لهذه الأخبار: فهو الكشف عن طبيعة القضاء ووظيفته، ومنزلة القاضي في المجتمع. فكثرة من القضايا التي نقلها وكيع والكندي ومصادر التراجم يُبين عن ديناميات السلطة في المجتمع الأموي. وفي القضايا التي ذكرناها آنفًا وأخرى من مثلها، ما يصور حمل القاضي ذوي نفوذ في المجتمع على ما يريد. ومن هذا تصدى سعد بن إبراهيم لسيد قريش الممتنع، وإمضاء سعيد بن سليمان قضاءه في الوالي الذي استقضاه، وحُكم أبي بكر بن عبد الرحمن على بعض قرابة الخليفة، دون أن يبلو من وراء ذلك عاقبة.
وربما كان من غرض هذه القضايا تمجيد طائفة مخصوصة من القضاة بإظهار جسارتهم في مواجهة السلطة. فلعل مظاهر الاستقلال هذه كانت ضرورية لفصل تراثهم عن تراث رؤسائهم من الأمويين. لقد كان العلماء الذين ولوا القضاء للأمويين -عادة- من أجلاء المحدِّثين. وقد ظلوا على أهميتهم في رواية الحديث بعد وفاتهم، فهم الوصائل اللازمة لمن جاء من بعدهم من المحدثين بالقرون التي سبقتهم. غير أن عملهم للأمويين -الذي لحقه تشويه من العلماء في العصر العباسي لانحرافه الخلقي- ربما أفقد تراثهم بريقه. وربما مكَّن إظهار استقلالهم من ثلم اتهامهم بمواطأة مستقضيهم من الأمويين، ومن ثَمَّ لا يسع المرء أن يطرح بالكلية الأهمية الجدلية المحتملة لهذه الروايات.
على أن هذه القضايا أيضًا تُظْهر في الوقت نفسه فرضيات مهمة عن مدى ولاية القاضي، لا يبدو أنها تدعم سردية المقاومة الضمنية لسلطان الأمويين. لقد أبانت الأمثلة التي ناقشناها آنفًا عن أن المكانة السياسية والاجتماعية للمتقاضين لم تضعهم خارج ولاية القاضي، أو بعيدًا عن متناوله. ولم يكن للصلات القبلية ولا المكانة السياسية أن تُفسد على القاضي نزاهته. وفي هذا الصدد تحمل القضية التي حكم فيها سعيد بن سليمان على والي المدينة أهمية خاصة، ففيها ينكشف بجلاء أن القاضي لم يكن مجرد ساعد للوالي الذي استقضاه، بل كان الوالي نفسه خاضعًا لحكمه. وحيث كان للقاضي ولاية لم يكن ثَمَّ استثناء لمنزلة أو منصب. وقد اطرد في هذه القضايا -وإن لم يَكثُر- التأكيد على سلطة القاضي. وعلاوة على ذلك، فإنها لم تُسَق مساق تمجيد نزق القاضي المعادي للنخب [المجتمعية]، بل مساق إثبات عبث مساعي التملص من السلطة الراسخة لمنصب لقضاء.
مجالات خارج اختصاص القاضي
قبل الانعطاف إلى المجالات التي يبدو أن القاضي لم يَحُز الاختصاص فيها، يجدر بنا أن نتوقف للنظر في فجوة مهمة في الروايات التي حفظها وكيع وغيره من المصادر. ففي الروايات المدروسة في هذا البحث والمتعلقة بـ "75 قاضيًا"، ثَمَّ غياب شاخص للقضايا المنطوية على القتل العمد، أو الخطأ أيًّا كانت طبيعته. والحق أنه لا أمثلة لنظر القضاة الأمويين في قضايا القتل، أو النزاعات حول دفع الدية، أو القدر المناسب في هذا النوع من النفقات. وإذا جاز أن يُغفل عما ندر وقوعه من القضايا، فإن ما يُثير الدهش أن قضايا القتل لا يبدو أنها اجتذبت انتباه المصادر. ثم ذِكْر لحكم القضاة بالحدود، وأكثر ذلك وقع في المسجد، لكن السياق يوضح أن ذلك كان جلدًا، لا قطعًا، ولا إعدامًا[31].
إن دراما محاكمات القتل في العصر الحديث تَبزُّ نزاعات الميراث أو الأكثرَ إثارة للجدل من قضايا طلاق المشاهير.
ولغياب القتل آثار عدة على تصورنا للمجتمع الإسلامي المبكر وفقهه. فإذا كان من غرض الجامعين لهذه الروايات -كما افتُرض آنفًا- أن ينقلوا صراعات النخب على السلطة، فلم غابت قضايا القتل؟ لا بُدَّ أن عائلات الضحايا والمتهمين وقبائلهم قد سعت للتأثير على الإجراءات في قضايا كهذه. ومن المتوقع أن الصفوة النافذة قد عملت على الميل بالقواعد لمصالحها في مثل هذه الظروف الحرجة. لا جرم، ينبغي أن يكون هذا الضرب من القضايا قد اجتذب اهتمامًا شغوفًا من العامة. حتى إن دراما محاكمات القتل في العصر الحديث تَبزُّ نزاعات الميراث أو الأكثرَ إثارة للجدل من قضايا طلاق المشاهير. ومع ذلك فإن روايات الحقبة الأموية صمتت عن هذه الفئة من القضايا.
أنفرِض أن قضايا القتل كانت شائعة ذائعة وعديمة الأهمية قانونيًّا إلى حد ألا تتكلف المصادر لذكرها عناء؟ ألم تكن هناك أسئلة حول البينة وأهلية الشهود، وهي المسائل التي وُكلِت عادة إلى القاضي؟ أنخلص إلى أن ظهور الإسلام أنشأ مجتمعًا متجانسًا لا قتل فيه؟ أثَمَّ محكمة أخرى حُكِّمت في هذه القضايا؟ ليس ثَمَّ ذكر مُفرد لهذه المحكمة -إن وجدت- في مصادر العصر الأموي. ستظل هذه أسئلة مشرعة لمزيد من البحث.
يترك خلو تراجم القضاة من قضايا القتل أثرًا عميقًا على تصور المجتمع الإسلامي المبكر. لقد رأت السرديات التقليدية -الإسلامية منها والاستشراقية- الجاهلية عصرًا من الفوضى يسوده الثأر المتصل. ووفقًا لهذه السردية فإن الإسلام قد حدَّ من الثأر، وفرض بدلًا عنه نهجًا شرعيًّا لحل النزاع. ويتوقَّع المرء ذكر الفصل في هذه المنازعات في سجلات المحاكم، حيث ينبغي أن تُنظر. ولكن إذا لم ينظرها القضاة، فمن قضى فيها سواهم، وفي أي محكمة؟ إن فقدان الروايات في هذا الشأن مُلغز، وحقيق بمزيد من البحث.
إننا نجد أمثلة مهمة لضروب أخرى من القضايا كانت خارج اختصاص القاضي، برغم أن هذا التمييز [بين ما يحكم فيه القاضي وما لا يحكم] لم يقع وصفه في جلاء. لم يلِ القضاة وقائع تنطوي على محاكمة وعقاب الزنادقة والمتمردين، ولا بتُّوا في مسائل توزيع الغنائم أثناء الغزو. لقد وقعت هذه القضايا تحت السلطان المباشر للخليفة أو الوالي، وفوِّض شيء من السلطة في أمر قسمة الغنائم إلى أمير الجيش.
لم يجر عند وكيع ولا الكندي ذكر لقضايا من العهد الأموي فيها زنادقة أو متمردون. ومع ذلك تظهر هذه القضايا في المصادر التاريخية، وفي تراجم من شاركوا فيها. لقد عالجتُ محاكمات الزندقة هذه بتوسع في سياق آخر، ولن أُعيد فيها النظر على نحو مستقل هنا. وبدلًا عن ذلك، ومن أجل تصور حدود اختصاص القاضي، فمن المهم أن نكتفي بملاحظة أن القاضي لم ينظر هذه القضايا، وإنما نظرها الوالي أو الخليفة نفسه. ومن الجلي أن ضربًا من المحاكمة قد جرى في هذه الوقائع، لكنه لم يكن من قبل القاضي.
ومثالًا لذلك، تدل غالب الروايات أن معبدًا الجهني الزنديق [ت: 80هـ/699م] إنما حاكمه وقضى فيه بالقتل الحجاج بن يوسف والي العراق، أو لعله الخليفة عبد الملك نفسه[32]. وبعد عقود قليلة، حاكم الجعدَ بن درهم (124هـ/742م)، وقد اشتهر كذلك بالزندقة، وقضى فيه بالقتل خالد القسري خليفة الحجاج، وقد كان في هذا مدعيًّا وقاضيًّا وجلادًا[33]. ولا تذكر الروايات الباقية عن محاكمات الزندقة هذه دورًا ما كان للقاضي.
كانت محاكمة المتمردين كذلك خارج حدود اختصاص القاضي. وثَمَّ أمثلة كثيرة لمتمردين حوكموا وقُضِي فيهم بالإعدام، بيد أن الولاية على هذه الحوادث كانت دومًا للوالي أو الخليفة.
وقد وقع في روايات عن قضيتي زندقة أُخريَيْن ذكر مشاركة من علماء قد ولُّوا القضاء. وتكشف هاتان القضيتان بجلاء أن محاكمة الزنادقة كانت خارجة عن نطاق اختصاص القاضي. ففي بعض روايات محاكمة الحارث بن سعيد الكذاب [ت: 80هـ/699م] وإعدامه أن بعض أجلاء المحدثين سمعه يجهر بمقالاته الشنيعة، فعجَّل ينقل أمره إلى أبي إدريس الخولاني قاضي دمشق. وقد كان رد القاضي كاشفًا؛ إذ عدل عن استدعاء الزنديق المتهم إلى مجلسه ليسائله، وأخبر الخليفة بمقالاته. ومن ثَمَّ ولي عبد الملك دون سواه أمر الحكم في الحارث[34]. لقد أدرك القاضي بجلاء أن قضية الحارث وراء اختصاصه فرفع الأمر إلى الخليفة. وأما أخرى محاكمتي الزندقة اللتين قام فيهما القاضي بدور، فكانت محاكمة غيلان الدمشقي حيث ولي الأوزاعي [ت: 157هـ/774م] الادعاء لا القضاء. وقد قضى الخليفة هشام (حكم 105-125هـ/724-743م) في غيلان وعاقبه بعد سماع استجواب الأوزاعي للزنديق المتهم[35]. ومع ذلك فمن الضروري أن ننتبه إلى أن الأوزاعي رغم ولايته القضاء لزمن قصير بعد ذلك، فإنه لا دليل على استمراره في القضاء في عهد هشام. تجلو هاتان القضيتان بوضوح أن الفصل في قضايا الزندقة كان وراء اختصاص القاضي، فقد اكتفى في إحداهما بإحالة القضية. واتخذ الأوزاعي -المستشار يومئذ وقاضي المستقبل المحتمل- في الأخرى دور المدعي لا القاضي.كانت محاكمة المتمردين كذلك خارج حدود اختصاص القاضي. وثَمَّ أمثلة كثيرة لمتمردين حوكموا وقُضِي فيهم بالإعدام، بيد أن الولاية على هذه الحوادث كانت دومًا للوالي أو الخليفة. وليس هناك أمثلة أموية أدى القاضي فيها دورًا ما في الفصل في قضايا تنطوي على تمرد صريح. ويكشف ذلك أن الجرائم العقدية ووقائع التمرد كانت خارجة عن سلطان القاضي.
كانت قسمة الغنائم أيضًا خارجة عن اختصاص القاضي. وثَمَّ أدبيات مستفيضة عن دقائق تقسيم غنائم الغزو في أعمال شتى من «السِّير»[36]. درست هذه الأعمال بإسهاب ما يشرع من الغنيمة، وكيفية قسمة هذه الأموال بين المقاتلين وزمانها. وليس ثَمَّ ذكر لدور للقاضي في قسمة الغنائم في أدبيات العصر الأموي. كان علماء الدين بلا ريب حاضرين على التخُوم، وقدموا آراء محكمة في مسائل شتى، وبعضها مما يستغرب وقوعه وإن أجازه العقل. ومع ذلك فقد تمحضوا لبذل النصح ولم يقضوا. لم يكن في العصر الأموي منصب قاضي العسكر، الذي اشتهرت وظيفته في عصور لاحقة[37]. وخلافًا عن ذلك، وكلت ولاية الوقائع العسكرية وعواقبها إلى الأمير بالإجماع.
الخاتمة
قد يحدونا هذا الدرس للقضايا الواقعية أو غيابها، إلى عدد من النتائج عن مدى اختصاص القاضي الأموي. فمن الجلي، أولًا: أن القاضي لم يكن مجرد امتداد إداري للوالي، فلم يستعن الوالي بالقاضي البتة في طائفة من الاختصاصات كالتمرد. وقد وسع القاضي في طائفة أخرى -تقفنا عليها أمثلة عديدة- أن يُنْزل اللوم أو العقوبة حتى بالوالي نفسه.
وفي الجملة حاز القاضي ولاية على النزاعات بين المتقاضين لا يشاركه فيها غيره. وتُوسع في تعريف قضايا الضرر -وهو أمر جوهري- لتشمل المسائل الجنائية التي ينزل فيها بالضحية نوع ضرر. وبذا عمت نزاعات الثروة، وقانون الأسرة، والجرائم الواقعة على الأفراد (على أنها قد لا تكون قتلًا). وقد استبد القاضي بأمره في هذه المجالات، فلم يوهن من سلطته منزلة اجتماعية ولا ولاية حكومية. وتجلو كثير من الأخبار التي سلف إيرادها عبثَ جهود طائفة من النخب للتملص من حكم القاضي. وعلى الرغم من ذلك لم يتمتع القاضي باستقلال مطلق، فثَمَّ كثير من الأمثلة أفضى فيها عسف القاضي في ولايته إلى عزله من الوالي وعقابه. وفي الوقت نفسه، وضمن حدود الاختصاص لم ينازع القاضي أحد، وإن كان الوالي الذي استقضاه.
لم يمتد اختصاص القاضي إلى ما نصفه الآن بالجرائم ضد الدولة، فكانت وقائع التمرد -ما كان منها مسلحًا وما كان عقديًّا- خارج نطاق سلطة القاضي؛ إذ ليست هذه من قضايا الضرر، أو الجرائم الواقعة على الأفراد، بل جرائم سياسية قضى فيها قادة المجتمع من الساسة. وكذلك لم تكن قسمة الغنائم من عمل القاضي، فالثروة التي حصلتها الدولة بصفتها العسكرية كانت تُقسَّم بين آحاد الرعية، وقد ولي أمير الجيش هذا الأمر. ومرة أخرى، لم يكن ثَمَّ منازعات كالضرر في مسألة قسمة الغنيمة، بل دارت الأسئلة حول الكيفية التي يجدر بالدولة أن توزع بها عطيَّاتها.
تدلنا القضايا التي استعرضناها هنا على أن سلطة القاضي أظهر تحديدًا مما افترض فيها. فلم يكن القاضي مجرد امتداد إداري للوالي، بل وسعه في بعض الأحوال أن ينازعه وينزل به العقاب. وخلافًا عن ذلك، ربما كان القاضي أقرب إلى الحَكَم الجاهلي (من كانت وظيفته الرئيسة حل المنازعات بين آحاد المتقاضين). ومع ذلك، فقد بلغ القاضي في نطاق معين من سلطته منزلة من الاستقلال تبعث على الدهش. لقد كان بوسعه أن ينازع من ولَّوه، لكن في حدود معلومة ومقرَّرة، وإن لم تكن معلنة لاختصاصه.
الهوامش
[1] خليفة بن خياط، التاريخ. الطبري، تاريخ الرسل والملوك.
[10] وكيع، أخبار القضاة. الكندي، أخبار قضاة مصر.
[11] وكيع، أخبار القضاة (3/19- 20).
[12] الكندي، أخبار قضاة مصر (322-323).
[13] الكندي، أخبار قضاة مصر (344).
[14] وكيع، أخبار القضاة، (1/313- 316).
[15] فزوجها إياه ابنها الحسن بن معاوية كما يذكر وكيع في أخبار القضاة. (المراجع)
[17] إنما ورد في رواية وكيع مجرد الوعيد بالضرب، لا الأمر بإنزاله. انظر وكيع (1/174). (المترجم)
[18] الكندي، أخبار قضاة مصر، (351-350).
[19] الكندي، أخبار قضاة مصر، (325)؛ المزي، تهذيب الكمال (17/412).
[20] وكيع، أخبار القضاة، (1/155-154).
[21] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق (23/ 26).
[22] الكندي، أخبار قضاة مصر، (344).
[23] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، (10/526)، المزي، تهذيب الكمال، (6/286).
[24] الكندي، أخبار قضاة مصر، (350- 351).
[25] وكيع، أخبار القضاة، (1/148- 150).
[26] وكيع، أخبار القضاة، (1/144- 146).
[27] وكيع، أخبار القضاة، (1/153- 154).
[28] وكيع، أخبار القضاة، (1/167- 168)؛ المزي، تهذيب الكمال (10/483).
[30] الكندي، أخبار قضاة مصر، (333 -334).
[36] انظر: أشمل جمع لروايات الحقبة الأموية في: الفزاري، كتاب السير.
[37] انظر فيما يتعلق بقاضي العسكر إبان العصر العباسي الأول: f TILLIER 2009, esp. p. 334 f.
المراجع العربية
- ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، حيدر آباد، 1911-1913، 6 مجلدات.
- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: عمر العمروي، (بيروت: دار الفكر، 1995م، 80 مجلدًا).
- خليفة بن الخياط، تاريخ خليفة بن الخياط، (النجف: مطبعة الآداب، 1967م).
- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: م.ج دي خويي (M.J. de Goeje)، (ليدن، بريل، 1879-1901م، 15 مجلدًا).
- الفزاري، كتاب السير، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1987م).
- الكندي، أخبار قضاة مصر، من ولاة مصر وقضاتها، أو كتاب الأمراء (الولاة) وكتاب القضاة للكندي، تحقيق: ر. جيست (R. Guest)، (ليدن، بريل، 1912م).
- المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1980-1992م، 35 مجلدًا).
- وكيع، أخبار القضاة، (مصر: مطبعة الاستقامة، 1947-1950م، 3 مجلدات).
المراجع الأجنبية
- HALLAQ, Wael B., 2005, The Origins and Evolution of Islamic Law, Cambridge, Cambridge University Press.
- JUDD, Steven, 1999, “GhayLān AL-Dimashqi: The Isolation of a Heretic in Islamic Historiography”, International Journal of Middle East Studies 31/2Ī p. 161-184. DOI: http://dx.doi.org/10.1017/S0020743800054003
- JUDD, Steven, 2011, “Muslim Persecution of Heretics during the Marwānid Period (64-132/684-750)” Al‑Masāq 23/1, p. 1-14.
- DOI: http://dx.doi.org/10.1080/09503110.2011.552943SCHACHT, Joseph, 1950, Origins of Muhammadan Jurisprudence, Oxford, Oxford University Press.
- SCHACHT, Joseph, 1964, An Introduction to Islamic Law, Oxford, Clarendon Press.
- TILLIER, Mathieu, 2009Ī Les cadis d’Iraq et l’État abbasside (132/750‑334/945), Damas