مقدمة المترجمَيْن

تُعَدُّ السوسيولوجيا التاريخية حقلًا معرفيًّا عابرًا للتخصُّصات، تسعى إلى دراسة الإشكالات المطروحة في المجتمعات المعاصرة، وذلك بتوظيفها للعلوم التاريخية لشرح المجتمع وتطوُّر بنيته الاجتماعية، مع التركيز على قضايا التحديث Modernization من خلال عناصره الرئيسة المتمثِّلة في التصنيع والدولة القومية والرأسمالية.

كما تهدف السوسيولوجا التاريخية إلى دراسة سيرورة القضايا الاجتماعية في أمدها الطويل، وتتعامل مع مشاكل التحديث، والنزعات العولماتية وتأثيراتها، وكذا مع سيرورات الاندماج والتفكُّك، والتعدُّد الديني والثقافي، وقضايا ربط الكوني بالمحلي، وتركِّز على دراسة التغيير الاجتماعي Social Change واكتشاف الآليات والهياكل الاجتماعية التي تسمح للجهات الفاعلة – فرديةً كانت أو جماعيةً – بالتأثير في التنمية الاجتماعية. وكما هو متعارف عليه أن في العلوم الاجتماعية والإنسانية لا توجد حقائق مطلقة، لكن بالأحرى مجموعة من التفسيرات والتأويلات المحتملة؛ فالسوسيولوجيا التاريخية تتميَّز عن النظريات الكلاسيكية بتبنِّيها لفكرةٍ أساسيةٍ مفادها عدم وجود تفسيراتٍ كونية كبرى، وأن النظريات الاجتماعية ليست عالميةً؛ وبذلك فقضايا السوسيولوجيا التاريخية منفتحةٌ على (إعادة) التفسير للإشكالات التي قاربت نفسها من المنطلقات النظرية الماكرو-تفسيرية.

الشيء الذي جعل السوسيولوجيا تأخد هذه المسألة بعين الاعتبار منذ السبعينيات من القرن الماضي مع مجموعةٍ من الباحثين من بينهم تيدا سكوكبول، وفرناند بروديل، وأنطوني غدنز، وميشيل مان…، الذين قطعوا مع التوجُّه التقليدي الأحادي، وركَّزوا على الترابط المتبادل والضروري بين التاريخ والسوسيولوجيا والاعتراف بالسوسيولوجيا التاريخية على اعتبارها جزءًا لا يتجزَّأ من عملية تفسير الظواهر الاجتماعية وفهمها.

وتكْمُن أهمية هذا المقال الذي ترجمناه في مستويين: الأول في تطرقه لموضوعٍ ضمن الدراسات والمقاربات (العابرة/المتعدِّدة) التخصُّصات، التي تنأى عن "وهم" التخصُّص الضيق. والثاني في تقديمه للإطار العام لحقل السوسيولوجيا التاريخية، منطلقًا من البدايات الأولى التي قَعَّدت لهذا الحقل التخصُّصي، مرورًا بالمسارات التي قطعها حتى اليوم، موضحًا أطروحات كبار المتخصِّصين في حقلي التاريخ والسوسيولوجيا في قضية الانفتاح على مقاربات بعضهم، ثم إبرازه لأهم الأعمال البحثية للمتخصِّصين في السوسيولوجيا التاريخية المقارنة، مع كلٍّ من بارينغتون مور Barrington Moore، وتشارلز تلي Charles Tilly ، وتيدا سكوكبول Theda Skocpol…، وصولًا إلى تأكيده على العلاقة الحالية أو الحوار الحالي بين الحقلين الذي بدأ يتقوَّى ويتكثَّف بشكلٍ ملحوظٍ.