الجدل حول العلمانية في السياق الإسلامي (2) المقاربات المنهجية
-١-
شغلت العلمانية الفكر العربي والإسلامي لعقود مضت، فكانت موضوع معارك فكرية جمَّعت وقَسَّمت معظم النخب إلى فسطاطين: دعاة العلمانية والعلمنة (من القوميين واليساريين والليبرالين)، ودعاة الإسلام والأسلمة (من مختلف أصناف الطيف الإسلامي وفي مقدمتهم الحركيون والسلفيون)، وكان كافياً أن تعرف انتماء وخلفية أي كاتب لتعرف ما سيكتبه أو يحاجج به، ونادراً ما كان يجتمع الفريقان، إلا في الضرورات التي تقتضيها المواقف السياسية إكراهاً (حاجة المستبد الذي يخضعان له)، أو اضطراراً دفاعاً عن القضايا الوطنية المشتركة (القضية الفلسطينية – الحوار القومي - الإسلامي)، إلا أن سقوط الأيديولوجيات أدى إلى مراجعات لدى جميع التيارات، لكنها ما أفضت إلى منتج علمي رصين يمكن الركون إليه، وكان المتحولون من تيار إلى آخر هم الأقدر على تقديم نماذج من تلك المراجعات النقدية التي حظيت بالثناء الإسلامي والعلماني أحياناً، واستحقت لقب "الوسطية" الإسلامي الشائع بين التيارات الإسلامية، الذي أزيح قليلاً ليجترح وسطية جديدة بين الإسلاميين والعلمانيين، ولعل أبرز من يمثل هذا الخط من المراجعات المرحوم عبد الوهاب المسيري (ت:2008م) الذي سخَّر معارفه وتجاربه الفكرية في تقديم نقد واسع للعلمانية في كتابه الذي عنونه بما يعبر عن فكرته المركزية "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة -2002م "، والذي يبدو كتاباً تقنياً اهتم بالخصوص برصد الظاهرة والمصطلح والمواقف الفكرية العربية من العلمانية.
يلاحظ المسيري أن مصطلح العلمانية "خلافي جداً"، رغم ما يعطيه من انطباع بأنه محدد الأبعاد والمعاني والتضمينات، بل إنه أكثر المصطلحات إثارة للفرقة، وكلما ظهرت دراسة تناولت الموضوع من جديد زادته إبهاماً، مع إخفاق علم الاجتماع الغربي في تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية، وينتقد التعريفات العربية للعلمانية لعدم تتبعها تطور الحقل الدلالي للعلمانية وعدم دراسة مجتمعاتها، وكأنها ظاهرة ليست ذات تاريخ، فضلاً عما صاحبها من ظواهر ونظريات بعضها معادٍ للإنسان، كما لم تناقش المقاربات العربية للعلمانية المسلمات النظرية للرؤية العلمانية، ولم تتعرض للتراث الغربي الثري الناقد لها، وتحول بعضها إلى أحكام أخلاقية تعكس رؤية أصحابها وموقفهم النفسي والأخلاقي من ظاهرة لم يقوموا بتعريف حدودها.
هذه الملاحظات التي يسجلها المسيري على المقاربات العربية للعلمانية يرجعها إلى فكرته المركزية التي يريد تسليط الضوء عليها وهي عدم التمييز بين الدائرة الصغيرة (الجزئية) والدائرة الكبيرة (الشاملة) للعلمانية، والتعامل معها بوصفها ظاهرة غربية وحسب، ويرى المسيري أن ثمة فصل حتمي نسبي للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمات الإنسانية تقريباً، بما فيها المجتمعات الإسلامية، وهو مستوى ما يسميه "العلمانية الجزئية" وهي فصل الدين أو مؤسسة الكهنوت عن الدولة (غير المتغولة) والتي تلتزم الصمت تجاه المرجعيات الدينية والأخلاقية للمجتمع والفرد، ولا تنكر وجود كليات أخلاقية وربما دينية أو ما ورائيات، وتترك للإنسان حيزه يتحرك فيه إن شاء، وهذه الصيغة من العلمانية هي الشائعة والعامة.
إن غالب التعريفات للعلمانية تتجه للمعنى الجزئي لكن الممارسات تتجه للمعنى الشامل، والفرق بينهما عملياً هو فرق مراحل تاريخية لنموذج واحد.
أما "العلمانية الشاملة" أو الطبيعية أو العدمية فتعني فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص، ولا تؤمن بأية مطلقات أو كليات، فهي ذات بعد معرفي كلي ونهائي (وحدة وجود مادية)، وأن العالم بأسره مكون من مادة واحدة لا قداسة لها وفي حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، وتشكل كلاً من الإنسان والطبيعة، وأن المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق، وتدعو إلى فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العالم (الإنسان والطبيعة) ونزع القداسة عنهما، والعلمانية الشاملة قد لا تكون إلحادية على مستوى القول لكنها على مستوى النموذج الفعال ومستوى المرجعية النهائية تستبعد الإله وأية مطلقات أو ثوابت، ويرى أن العلمانية الشاملة والإمبريالية صنوان، الأولى هي النظرية (للداخل) والثانية هي الممارسة (في العلاقة مع الخارج). ويلاحظ المسيري أن غالب التعريفات للعلمانية تتجه للمعنى الجزئي لكن الممارسات تتجه للمعنى الشامل، والفرق بينهما عملياً هو فرق مراحل تاريخية لنموذج واحد.
إن مقاربة المسيري هي رصد للظاهرة وتقييم لها، ففي مستوى الرصد يرى أن العلمانية والعلمنة خط فكري يتجه إلى النهاية الشمولية وإن ادعى المعنى الجزئي، وبهذا المعنى فهي تجربة غربية حداثية تتعارض مع الدين والإسلام، وعلى مستوى التقييم يرى ضرورة تقسيم المفهوم إلى مستويين الأول "علمانية جزئية" وهي ظاهرة إنسانية لا تتعارض مع الدين، والثاني "علمانية شاملة" تقصي الدين، وعليه فالمجتمعات الإسلامية علمانية أصلاً، ولا تختلف عن غيرها في المستوى الجزئي، ويرى أن دعاة العلمانية العرب يستخدمون هذا المعنى الجزئي ويعملون بمقتضيات المعنى الشامل.
إن احتفاء الإسلاميين بهذا الرصد المسيري للظاهرة لا يقدم حلولاً بقدر ما يورطهم في أسئلة أعمق وأشمل، فالمستوى الجزئي من العلمانية الذي يعزله المسيري لا يقدم إجابة نظرية عندما يتعلق الأمر برؤية الإسلاميين لتطبيق الشريعة، فعدم قولهم بسلطة دينية ليس نفياً للمرجعية الدينية التي يعترض عليها العلمانيون ابتداء حتى في المستوى الجزئي. وعليه فمقاربة المسيري وصف لواقع تاريخي ومعاصر وليست تنظيراً يمكن الارتكان إليه، ولهذا الاعتبار صنفتها كمقاربة منهجية تعنى بالتعريف والتأريخ ورصد الظاهرة، ولا تقدم تنظيراً بديلاً .
-٢-
المعارك الفكرية العقيمة بين الإسلاميين والعلمانيين التي أشرت إليها كانت مؤشراً لمشكلات أعمق في العالم العربي ترجع بشكل أساسي إلى متاريس أيديولوجية ومشاجب يرمى عليها الفشل، بينما يحتاج النقاش حولها إلى ضبط مفهومي ورصد تاريخي للأفكار ومقارنتها، ومعرفة أصولها الدينية أو الفلسفية، هذا ما دفع المفكر العربي عزمي بشارة لإنجاز عمله الموسوعي "الدين والعلمانية في سياق تاريخي- 2013-2015"، ملاحظاً أن الأبحاث التي تتناول الإسلام وعلاقته بالديمقراطية أو العلمانية تعالج إشكاليات وهمية، وأنه لا يمكن دراسة أنماط التدين في المجتمعات العربية من دون دراسة السياقات التاريخية، وهذه السياقات هي عملية التحديث التي جرت وشكلها وظروفها، ومنها العلمنة التي جرت وتجري، والتي تحدد في علاقة جدلية ومتبادلة أنماط التدين في المجتمع بحسب عمق كل منهما وهيمنته.
يمكن القول أنَّ هذا العمل الضخم هو أهم منجز عربي في رصد وتحليل العلمانية والعلمنة في سياقها التاريخي وصلتها بالدين والتدين، سواء على مستوى المفهوم أو الظاهرة، وإن كان يتنزل في سياق الدراسات الفلسفية والاجتماعية، فإن البعد الديني المتصل بالإسلام حاضر بقوة في مواطن مختلفة من الكتاب، سعياً من المؤلف إلى نزع الخصوصية التي يلح بعض الكتاب على إحالتها إلى الإسلام كدين في الموقف من الديمقراطية أو الحداثة أو العلمانية، وسأبرز بعض النقاط التي أرى أنه من الجدير التنويه إليها في هذا السياق.
أهم محطات الافتراق بين العلم والدين، وبين الفلسفة والدين قادها في الواقع فلاسفة ثيولوجيون بهدف حماية الدين من العناصر الدخيلة عليه.
يحرص بشارة على تفكيك بعض التلازمات التي تبدو مسلمات في مقاربة العلمانية عربياً، فعلى مستوى المصطلح "العلمانية مصطلح غربي إشكالي في الثقافات كلها" ولا تلازم بينها وبين التنوير، فـ"التنوير ونقده جريا من دون استخدام مصطلح العلمانية الذي كان قائماً في حينه في عالم الدين"، و"العلمانية ليست فلسفة قائمة بذاتها، بل هي مقاربة للدولة تبدو كأنها موقف من الدين"، و"أهم محطات الافتراق بين العلم والدين، وبين الفلسفة والدين قادها في الواقع فلاسفة ثيولوجيون بهدف حماية الدين من العناصر الدخيلة عليه"، وفيما يخص الدين والدولة فإن التمايز بينهما كان قائماً موضوعياً حتى قبل الحداثة وقبل مصطلح العلمانية، فـ "العلمانية هي موقف من التمايز لا التمايز ذاته".
هذا الموقف من التمايز يراه بشارة متحققاً كنتيجة طبيعية لضبط الدين نفسه، فـ"الجهد في تعريف الدين هو في حد ذاته جهد علماني ناتج من تحديد مجال الدين"، و"تعريف الدين يفترض مجالاً غير ديني"، وعملية العلمنة هي في الوقت ذاته تحقيق لجوهر الدين بفصله عن كل ما ليس ديناً. ولا يميز بين الإسلام وغيره، فيرى أن التمايز بين الدين والدولة في السياق الإسلامي بدأ مع عمر بن الخطاب، وأن الدولة ليست غاية بذاتها بل هي أداة بيد الدين، ويرى أن "الإسلام وإن كان ينفي لاهوتياً السلطة الكنسية، فإنه مأسس هذا النوع من المؤسسة تاريخياً وواقعاً ومصلحة. وهو النوع الذي استقر في العهد العباسي الثاني، ثم بشكل خاص في العهدين العثماني والصفوي".
ووصولاً إلى العصر الحديث يرى أن "سياق نشوء العلمانية هو أولاً وقبل كل شيء نشوء الدولة الحديثة التي تتفوق على المؤسسة الدينية وتسيطر على الدين وتحتكر العنف"، و"الإشكال يكمن في ادعاء فصل الدين عموماً عن السياسة بشكل عام"، وفيما يخص العلمنة يرى أن الأدق أنها "تحييد الدولة في الشأن الديني"، وفي السير إلى تحقيقها "لا يمكن أن يفصل الدين عن السياسة بالقانون فهذه مسألة وعي وأنماط تدين"، كما أنه ليس ممكناً فهم الدين وأنماط التدين وتعريفات الظاهرة الدينية وحدودها من دون فهم صيرورات التمايز وتطور الوعي التي مرت بها المجتمعات.
وفيما يخص الصلة بين الدين والسياسة عربياً يقول متابعاً كارل شميت في ربطه بين اللاهوت والسياسة: "إن المفاهيم السياسية العربية هي مفاهيم إسلامية فقهية معلمنة، وإن المفاهيم العلمانية الحديثة هي مفاهيم معلمنة من لاهوت آخر، وليس منها ما هو أكثر علمانية من الآخر من حيث المنشأ".
ثمة مفاصل كثيرة ومهمة يمكن التوقف عندها في مقاربة عزمي بشارة الموسعة والموثقة، لكن أهم العناصر المفصلية التي يمكن فهمها من مقاربته، وأرى أهمية التنويه إليها، هي:
لا فرق بين الإسلام وغيره فيما يخص العلاقة والتمايز بين الدين والدولة، فهو أمر قائم بين مؤسساتهما، بل إن العلمانية في نشأتها كانت مطلباً دينياً لتحقيق ذلك التمايز.
العلمانية سيرورة والتدين كذلك، وكل منهما يؤثر في الآخر وبدرجة الوعي بهما في المجتمع.
العلمنة حالة جدلية من التمايز بين الديني والدنيوي في إطار الوحدة، ومن شأن علمنة الدولة من أعلى في مجتمعات متدينة من دون علمنة أنماط الوعي أن تورث توترات.
ثمة استجابات مختلفة، مستقرأة ومحتملة، لمؤسسات المعرفة والدين والمجال العام في استجابتها للعلمنة، وهي متفاوتة ومتأثرة بمعطيات كثيرة أهمها الوعي.
هذه المعطيات المسجلة رصداً وتحليلاً للدين والعلمانية في سياق تاريخي تعد مقدمات أساسية لا غنى لأي مقاربة إسلامية للعلمانية من الوعي بها، ولئن رأى المؤلف أن مقاربة المسألة إسلامياً لا تختلف عن غيرها من حيث الفصل المؤسسي الذي رصده تاريخياً، ومن حيث تعريف الدين الذي يقتضي تبعاً التحديد والتمايز، فإن المسألة –فيما أرى- أعقد من ذلك، فالمشكلة لم تكن مطروحة إسلامياً على مستوى المؤسسات، بل كانت ولا تزال مسألة مرجعية تشريعية وأخلاقية في الشأن السياسي والشأن العام، وهي بهذا المستوى مشكلة لدى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على المستوى النظري الداخلي، وعلى مستوى دفاعها عن مدنيتها أمام الأحزاب العلمانية والشأن العام. ولا يُسَلَم تحديده بدء التمايز بين الدين والدولة تاريخياً مع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فنصوص الإسلام نفسها والسيرة النبوية وعلوم الشريعة حافلة بما يفيد هذا التمايز المؤسسي والتشريعي، كالتمييز بين الحكم التشريعي والحكم السياسي والحكم القضائي وأحكام الأعيان، لكن السؤال المركزي الذي هو موضع الإشكال هو المرجعية الدينية والأخلاقية للأحكام المذكورة مؤسسياً وعلى مستوى الأفراد.