الجدل حول العلمانية في السياق الإسلامي (١)

الصورة
الجدل حول العلمانية في السياق الإسلامي

-١-

مقتضيات متنوعة استجدت في العقد الأخير تدفع بالجدل حول العلمانية في العالم الإسلامي إلى الواجهة من جديد، فأهم دولتين في المنطقة كان يستشهد بهما من حيث رسوخ مسار العلمنة فيهما، سياسياً وفي مناهج التعليم، تونس (عربياً) وتركيا (إسلامياً)؛ شهدتا تحولات عميقة تثير تساؤلات حول حتمية سيرورة العلمنة التي بشَّر بها مُنَظِّروها، فتونس العلمانية، والتي أوغلت في تجفيف ينابيع ما تسميه الإرهاب، وفي ظل استبداد لم يفارقها منذ الاستقلال إلى الثورة؛ صدَّرت أكبر عدد من المتطرفين بالنسبة لعدد سكانها حسب الإحصاءات الرسمية لحكومتها، كما أصبح الإسلاميون فيها بعد الثورة رقماً صعباً في المعادلة السياسية لا يمكن تجاهله، في المقابل آلت العلمنة في تركيا، وفي ظل ديمقراطية حرس علمانيتها العسكر لعقود– حتى وصفت بالعلمانية المتوحشة-؛ إلى نجاح أهم حزب ذي خلفية إسلامية في المنطقة، وواصل نجاحه في جميع المسارات الانتخابية منذ صعوده الأول.

على صعيد آخر تشهد دول إسلامية شديدة المحافظة جدلاً تقوده اتجاهات ليبرالية تدعو إلى العلمنة بعناوين صريحة أو مغلفة بمسمى الإصلاح، وتظهر فيها بين الحين والآخر مظاهر تمرد شعبي تجاه مظاهر دينية مفروضة على المجتمع، ويبدو أن نزعة علمنة قسرية تشق طريقها في هذه الأوساط المحافظة مستغلة سياقات سياسية ملتبسة، تلتقي فيها إرادات سياسية مع نزعات تمرد على نمط التدين السائد.

المتغيرات السابقة لا يقل عنها تأثيراً العواصف الفكرية التي شغلت المنطقة العربية،والتي رافقت الحراك السياسي الذي أورثه الربيع العربي، وانكشاف الاستبداد أسفر معه عن تعرية أعمدة ما كان ليستمر من دون الاستناد إليها، ومنها توظيف النخب بجميع أطيافها، لاسيما النخب الدينية، والتي ارتضت شريحة واسعة منها أن تقدم خدماتها للمستبد، أو أن تتبادل معه المصالح بحسن نية أو سوئها.

الجيل الجديد الذي بدأ الحراك مستعجلاً التغيير السياسي لا يستطيع انتظار النظر الفكري البطيء في أسئلة لم تعد مطروحة في صفحات الكتب وأروقة الندوات والمؤتمرات.

هذا السقوط الفاضح لشريحة مهمة من النخب الدينية جرَّ وراءه أسئلة عميقة عن دور الدين في الحياة السياسية المعاصرة، وكيفية إيجاد بدائل للاستبداد لا يكون دور الدين فيها سلبياً كالصورة التي وظف فيها من قبل المستبدين، والسؤال عن دور الدين يستتبع متوالية من الأسئلة عن الدين والدولة، وعن الإسلام والديمقراطية، وعن الشريعة والقانون، إلى قائمة تطول من الإشكاليات التي كانت مدارستها تسير ببطء على مستوى النخب، إلا أن الجيل الجديد الذي بدأ الحراك مستعجلاً التغيير السياسي لا يستطيع انتظار النظر الفكري البطيء في أسئلة لم تعد مطروحة في صفحات الكتب وأروقة الندوات والمؤتمرات، إنما في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ساحات الممارسة السياسية العملية التي باشرها الناشطون في ميادين كثيرة خلت من قبضة الاستبداد، فابتدر إلى ملء الفراغ فيها مرتجلون،أو جماعات متطرفة أو موظفة أعادت للاستبداد سيرته الأولى باسم الدين.

هذه الحيثيات وسَّعت النقاش حول العلمانية وأعطته أهمية وجدية لم تكن من قبل، إذ كان النقاش من قبل شبه عقيم أو ساذج أحياناً، يتبادله الخصوم سجالاً، فلقب "العلماني" كان واحداً من الثنائيات التعميمية التي كان يصنف فيها الناس، مقابل لقب "الإسلامي"، مع غياب اتجاه وسط بينهما، ودون تمييز بين أطياف من العلمانيين أو الإسلاميين، مما جعل الجدل (أيديولوجيا)، وليس علمياً، ويعكس جهلاً مركباً في بنى التفكير العلماني والإسلامي على حد سواء.

من مظاهر تلك النظرة السطحية للعلمانية قصر مفهومها على الموقف الحدي من الدين والشريعة، وبالتالي إلزامها تصورات مضادة للدين وثوابته قد لا يتبناها بالضرورة دعاتها، وبالمقابل تصور العلمانيين أن كل توجه إسلامي هو تطرف شمولي في الحال أو المآل دون تمييز بين مستويات من التفكير الإسلامي، وفي الوقت نفسه يخضع فريق واسع من الاتجاهين إلى توافق غريب عندما يقتضي الأمر تبرير تصرفات الحاكم أو توصيف حالة السلطة التي يتبعون لها.

إن النقاش حول العلمانية والإسلام فرع حتمي للجدل الذي لم ينته حول الدولة الحديثة التي آل إليها العالم الإسلامي، وموقع الدين والشريعة فيها، وكيفية التوفيق بين الخيارات والقيم التي تحكم العالم المعاصر وبين الدين، وموقع الدين في الحياة اليوم؟. إن الإجابة المعمقة على هذه التساؤلات ليست بالأمر السهل الذي تحسمه الفتاوى والخطب والدروس، والتي تُقَدم أحياناً بأوعية أو منابر علمانية، وبطبيعة الحال لا يُنتظر من مقال قصيرأن يتضمن إجابات، إنما نودُّ هنا إبراز عمق الأسئلة من خلال التنويه إلى مقدمات ومسارات في التفكير بالعلمانية لا بد من الوعي بها قبل الاسترسال في أحكامها، وأخص هذا المقال لنموذج من الجدل حول العلمانية في السياق الغربي والذي يُدَّعى نموذجاً لدعاة العلمانية العرب، وأتبعه لاحقاً بنماذج من المقاربات المنهجية والفلسفية العربية للعلمانية والعلمنة.

-٢-

من الأوهام التي تحول دون تفكير علمي معمق بالعلمانية حصر إشكالياتها بالعلاقة مع الدين الإسلامي فقط، وتوهم أن النشأة الغربية للعلمانية مرتبطة فقط بسلطة الكنيسة وفصل الدين عن الدولة، يقع في هذا الوهم الإسلاميون الذين يظنون أن غياب المؤسسة الدينية في الإسلام كاف لتجاوز إشكاليات العلمانية التي هي حاجة غربية، والعلمانيون أيضاً الذين يظنون أن انتصار التنوير الغربي على سلطة الكنيسة هو قطيعة مع الدين وتجاوز له، وفي هذين التصورين تبسيط يوهم أن الغرب تجاوز إشكالية العلاقة مع الدين أو أنه أصبح نموذجاً يحتذى للعالم العربي.

إن الدراسات المعاصرة، بل والمشاريع العلمية القائمة في الأكاديميات الغربية، تشير إلى أن الدين وموقعه في الحياة موضوع جدلي وحيوي ويحظى باهتمام متزايد، بما في ذلك موضوع العلمانية نفسها ومفهومها،ويمكن أن نشير إلى أعمال الأكاديمي المتخصص في سوسيولوجيا الأديان -الإسباني الأصل-خوسيه كازنوفا (José Casanova) كنموذج تعكس كتبه ومقالاته وردود الفعل عليها الأهمية والاختلاف في موضوع الدين والعلمانية والعلمنة، حتى إنه استعمل مصطلح "أسطورة العلمنة"، في إشارة إلى حدة النقد الذي طال العلمانية، فكتب عن "إعادة التفكير في العلمنة من منظور عالمي مقارن" وناقش في بعض مقالاته مصطلح الفيلسوف الألماني هبرماس "ما بعد العلماني- Postsecular"، إضافة إلى مقالات وكتب تناول فيها الأديان في العالم وخوف أوروبا من الدين.

يُقَسِّم كازنوفا (Casanova) العلمانية إلى ثلاثة معان،أوسعها العيش في عالم علماني وزمن علماني، في فضاء محايد يمكن أن يتشاركه كل من يعيش في هذا الفضاء في مجتمع غير متجانس دينياً أو متعدد الثقافات، فلا يرادف العلماني هنا غير المقدس وليس ضد الديني، فثمة تصورات مختلفة بل ومتنافسة لما هو مقدس وما هو مدنس.وقد أضفي معنى شبه متعال على هذا العلماني المحايث بوصفه محل الازدهار الإنساني. وعليه فكل المجتمعات الحديثة مجتمعات علمانية.المعنى الثاني للعلمانية علمانية مطلقة ومكتفية بنفسها، فأن يكون الناس ببساطة لا متدينين يعني أن يكونوا خلواً من الدين، وهذا المعنى يتجاوز ثنائية ديني - علماني ويغدو واقعاً مكتفياً بنفسه، بتحرير ذات المرء من المكون الديني، والذي يعني طبعنة الكفر أو اللاتدين بوصفها الشرط الحديث للتساوق مع نظريات العلمانية السائدة، ومن ثم فالمجتمع الأكثر حداثة هو الأكثر علمانية أي أقل تديناً، وهذا حال معظم المجتمعات الأوربية الغربية بخلاف أمريكا ودولاً أخرى حديثة.

المعنى الثالث هو العلمانوية، وهي تأكيد تفوق المنظور الحديث العلماني على المنظورات الأخرى الدينية، وتحويل سيرورة العلمنة الغربية المسيحية التاريخية المحددة إلى سيرورة كونية غائية للتطور البشري من الإيمان إلى الكفر، وبعبارة مارسيل غوشيه "دين الخروج من الدين". ويرى كازنوفا أن هذا المعنى الثالث هو الذي عناه هابرماس باصطلاح (ما بعد العلماني)، وأنه تعبير عن الوعي بوصفه فهماً معدلاً للذات في مجتمعات معلمنة أو "سوء الفهم العلمانوي للذات" مصحوبا بتجاوزه أو تصحيحه. ويضيف أنه ينبغي كذلك التمييز بين ثلاث دلالات لمصطلح العلمنة، الأول: ممايزة المجالات الدنيوية (الدولة –الاقتصاد- العلم) عن الدين، والثاني: اضمحلال المعتقدات الدينية من المجتمعات الحديثة، بوصفها سيرورة التقدم البشري، وهو المعنى الأكثر انتشاراً للمصطلح، والثالث: خصخصة الدين، وهذه الثلاثة مترابطة في أوروبا، وفهمت على أنها أبعاد لسيرورة العلمنة نفسها.

علينا أن نتجنب الثنائيات المغلوطة المخترقة لمقولاتنا الثنائية: إما ديني أو علماني، إما تقليدي أو حديث.

ويصف كازنوفا النقاش حول العلمانية بأنه عقيم غالباً ويرفض الربط بين معدلات التحديث ومعدلات العلمنة–منتقداً هبرماس الذي دشن خطاباً جديداً حول المجتمعات ما بعد العلمانية- مستشهداً بوجود علمانيات وجدت قبل وقت طويل من سيرورات التحديث، وحتى في العصر الحديث ثمة تناقض بين حالتي الصين وأمريكا من حيث التقدم والعلمنة، ويؤكد أنه"علينا أن نتجنب الثنائيات المغلوطة المخترقة لمقولاتنا الثنائية: إما ديني أو علماني، إما تقليدي أو حديث"، وأنه "آن الأوان لأن نتوقف عن النظر إلى الإحياء الديني على أنه مجرد بقاء واستمرار لشيء تقليدي"، مضيفاً أن الهوس بالدين كسؤال، والتساؤل عن دخول المجتمع مرحلة ما بعد علماني أم لا، دليل على تجاوز بداهة العلمانية. ولا يرى سبباً مقنعاً لإقصاء الدين من المجال الديمقراطي العمومي، بل إن توطيد الفصل بين الدين والسياسة قد يأتي بنتائج عكسية على الديمقراطية نفسها، فضلاً عن أنه أمر غير مبرر، أو يمكن عده مسلمة قابلة للتعميم.

هذا النقاش المتجاوز لحتمية العلمنة الذي يشير إليه كازونوفا تعززه دراسات ومشاريع غربية تبحث من جديد عن تموقع الدين في المجتمع ودوره في الحياة، ويتجاوز السؤال هذه المرة موقع الدين - بما هو المسيحية - إلى موقع الأديان على تنوعها واختلافاتها في علاقتها مع بعضها ودورها في المجتمعات التعددية.

-٣-

إن التجربة الأوربية على تنوعها في سيرورة العلمانية والعلمنة، ليست نموذجاً صالحاً ونهائياً للعالم العربي والإسلامي، لا من حيث اختلاف الدين فقط، وإنما من حيث أنها نفسها ما تزال في سيرورة وتطور، ولم تتحول العلمانية والعلمنة إلى مُسَلَّمة عقلية أو فلسفية، إلا في الخطاب الأيديولوجي، والمُعَرَّب منه على وجه الخصوص، فسؤال العلمانية لا يخص التصور المقزِّم للدين بالأحكام، إنما هو سؤال فلسفي أعمق يرتبط بالإنسان والوجود والمجتمع والجماعة، وتحديث المجتمع أو تخلفه لا يعكس علمنته أو تدينه، وفي السياق العربي والإسلامي تلعب عوامل كثيرة أدواراً مختلفة في مسارات التدين والعلمنة، وما يزال الجدل حولها يعكس غالباً اتخاذ كل فريقللآخر مشجباً يحمله مسؤولية فشله، فالداعية العلماني يُحَمِّل الداعية الديني فشل التحديث والديمقراطية في العالم العربي، فيما يحمِّل الداعية الديني الداعية العلماني مسؤولية التفسخ المجتمعي وفساد الأخلاق وفشل الدولة، حتى وإن كانا معاً ركنان من أركان المستبد المتحدث باسم الدين ورائد التحديث في آن، يُحَدِّث كل طرف عن مسؤولية الآخر عن الفشل، أو يحاضر فيهما عما ينبغي أن يفعلاه.

إن الجدل حول العلمانية والعلمنة هو بحث عن موقع الدين في حياة الفرد والمجتمع، وهذه مسألة تتجاوز السؤال التنظيمي إلى السؤال الفلسفي الذي لا يمكن الإجابة عليه من منظور شمولي مع أو ضد، أو باستيراد التجارب إعجاباً أو استلاباً، فلكل دين ولكل مجتمع تجاربه وخصائصه، والكلي المشترك بينها غير كاف لاستنساخ حالة واسقاطها على أخرى، ولا بد أن ينحت كل مجتمع تجاربه التي تمكن من تحديثه بما لا يؤول إلى تشويه هويته أو تفكيكه المؤدي إلى النقيض، فتجارب التحديث القسري آلت إلى عكس مقاصدها، في المجتمعات أقوى من السياسات، وأقدر على قبول أو رفض ما يناسبها.

هذه المعطيات ينبغي الوعي بها في مقاربة الجدل العام حول العلمانية والعلمنة، لاسيما النقاش السياسي منه في البلدان التي تشهد تحولات سريعة، إلا أن ذلك لم يحل دون بروز مقاربات عربية مهمة لمسألة العلمانية لم تأخذ حقها من النقاش، سأشير إلى نماذج منها في مقال لاحق يتناول "المقاربات المنهجية"، وثالث "المقاربات الفلسفية".