الإسلام والرأسمالية وأطروحة فيبر

الإسلام الرأسمالية

مقدمة المترجم
ماكس فيبر هو عَلمٌ من أعلام السوسيولوجيا غنيٌّ عن التعريف. وعلى الرغم من كثرة مساهماته السوسيولوجية وتنوُّعها، فإن أشهرها هو تحليله لعلاقة البروتستانتية بالرأسمالية في كتابه ذائع الصيت «الإيتيقا البروتستانتية وروح الرأسمالية». لقد كان همُّ فيبر هو السؤال الآتي: لماذا ظهرت الرأسمالية في الغرب دون الشرق؟ وللإجابة عن هذا السؤال، سعى فيبر إلى تحليل تأثير الأفكار والقيم الدينية في الممارسات الاقتصادية، وخلص إلى أن هناك علاقةً بين تطور الرأسمالية في الغرب تحديدًا وقيم البروتستانتية الكالفينية. لكن سوسيولوجيا فيبر للأديان لم تقتصر على دراسة المسيحية الكالفينية، فقد درس فيبر اليهودية، والأديان الشرقية، والهندوسية والكونفوشيوسية كذلك، لكنه للأسف لم يدرس الإسلام بالشكل الكافي، فلم يطرح فيبر ما يمكن اعتباره سوسيولوجيا للإسلام، وإنما طرح بعض التحليلات المتفرقة حول الإسلام المبكِّر وحول الشريعة الإسلامية.

أما برايان تيرنر، فهو أحد أبرز علماء اجتماع الدين المعاصرين، ودراسته التي بين أيدينا - والتي نُشرت لأول مرة عامَ 1974، ثم أعيد نشرها عامَ 2010 - هي تقريبًا أول دراسة تقدِّم تحليلًا نقديًّا للأفكار التي طرحها ماكس فيبر عن الإسلام، ومن هنا تنبع أهميتها. وتتوزع الدراسة على أربعة أقسام أساسية: في القسم الأول يعرض المؤلف أربع أطروحاتٍ أو تأويلاتٍ موجودة في حقل السوسيولوجيا لنظرية فيبر عن الإيتيقا البروتستانتية. وفي القسم الثاني يعرض أفكار فيبر عن الإسلام المبكِّر والشريعة. وفي القسم الثالث يقدِّم نقدًا لهذه الأفكار. وفي القسم الأخير يبيِّن كيف أن الإصلاحيين الإسلاميين من مفكِّري النهضة قد تبنَّوا - في محاولاتهم للدفاع عن الإسلام وتفسير تقهقره - حججًا فيبرية معيوبة.

بالرغم من أن أطروحة فيبر عن البروتستانتية والرأسمالية قد تعرضت - بالطبع - لإساءات فهمٍ كثيرة، فلا يمكن اعتبار جميع تأويلاتها مجرَّد إساءات فهم، وإنما ثمة أربع أطروحاتٍ منها تدعمها سوسيولوجيا فيبر نفسها، أي إنه يمكن القول بأن سوسيولوجيا فيبر نفسها - فيما يخص هذه المسألة - تتضمَّن أربع أطروحاتٍ وليس أطروحة واحدة، أربع أطروحاتٍ مختلفة لدرجة لا تسوغ لنا جمعها معًا في نظرية واحدة متكاملة.

أما التأويل الأول للأطروحة، فيقول بأن فيبر يرى أن القيم البروتستانتية قد أنتجت الرأسمالية هكذا ببساطة. بينما يقول التأويل الثاني بأن فيبر لا يرى أن القيم البروتستانتية قد أنتجت الرأسمالية، وإنما هو يرى أنها مجرَّد شرطٍ أساسيٍّ ضمن شروطٍ أخرى ينبغي توفرها لكي تنشأ الرأسمالية. ويقول التأويل الثالث بأن فيبر لم يكن مشغولًا بإيجاد علاقة سببيَّة بسيطة ومباشرة بين القيم والواقع الاجتماعي، وإنما كان مشغولًا - عوضًا عن ذلك - بالتفتيش عمَّا يسميه بـ «التآلفات الانتقائية» بين القيم والسيرورات الاجتماعية، أي عن التوافق والانسجام الموجود بين قيمٍ بعينها (البروتستانتية هنا) وسيروراتٍ اجتماعية بعينها (الرأسمالية هنا)، بحيث يبحث كلٌّ منهما عن الآخر في التاريخ ويعزِّز منه. أما التأويل الرابع، فيقول بأن أطروحة فيبر ليست نقضًا لماركس بقدر ما هي تكميل له، وذلك بتقديمها نظريةً لدوافع الأشخاص وتأويلاتهم للأفعال الاجتماعية. فتفسيرات الأشخاص للدوافع تؤثر في الواقع الاجتماعي (فيبر)، لكن هذه التفسيرات نفسها ولغتها مرهونة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشون فيها (ماركس). ومن بين هذه التأويلات الأربعة، وحده الأخير مدعوم إمبريقيًّا، أما التأويلات الثلاثة الأولى فمعيوبة تمامًا أو حتى خاطئة ببساطة.

يرى فيبر أن الإسلام - بالرغم من صلته باليهودية والمسيحية - لم يكن دينًا خلاصيًّا بحقٍّ مثلهما، أي دينًا معنيًّا بالخلاص الجوَّاني الفردي، وإنما هو دين حربي (قومي، عربي)، كان المحاربون الحامل الاجتماعي الرئيس له. وبسبب ذلك، أُعيد تأويل طلب الخلاص - بواسطة فكرة الجهاد - ليصير طلبًا للأرض. وهذه الطبيعة الحربية للإسلام هي التي منعت من نشأة نزعة زهدية في الإسلام (كما هو الحال في المسيحية البروتستانتية). وبالإضافة إلى هذه الطبيعة الحربية، فقد تطور في الإسلام تيار صوفيٌّ باطنيٌّ أخرويٌّ منقطع عن العالم. وهذا الجمع بين التدينِ الحربي والتدينِ الصوفي هو ما جعل الإسلام ملائمًا للاقتصاد الإقطاعي بدلًا من الاقتصاد الرأسمالي. وعلاوة على هذين السببين، ثمة سبب ثالث لعدم تطور الرأسمالية في الإسلام، وهو افتقار الإسلام لتقليدٍ قانونيٍّ عقلانيٍّ نظاميٍّ ورسميٍّ. أما السبب الرابع، فهو البنية السياسية والاقتصادية الأبوية التي حكمت تاريخ الإسلام. وهذا السبب الرابع، هو وحده - دون الأسباب الثلاثة الأولى - ما يمكن اعتباره تفسيرًا مقبولًا لغياب الرأسمالية في الإسلام، وهو المتوافق مع التأويل الرابع لأطروحة فيبر.

وبالرغم من ضعف التأويلات الثلاثة الأولى لأطروحة فيبر والتفسيرات الثلاثة المبنيَّة عليها لعدم تطور الرأسمالية في الإسلام، فإن الإصلاحيين المسلمين عندما سعوا إلى تفسير تأخُّر المسلمين عن الغرب استخدموا حججًا مبنيَّة على واحدٍ أو أكثر من التأويلات الواهية لأطروحة فيبر (غياب الإيتيقا البروتستانتية). حيث كان جوابهم عن تأخُّر المسلمين هو الابتعاد عن الإسلام النقيِّ المتوافق تمامًا مع الحداثة. وفي هذا الإسلام النقيِّ الذي اكتشفوه حديثًا، عثروا على إيتيقا بروتستانتية تحضُّ على الزهد والكدِّ والسعي، وتقلِّل من شأن الشعائر المُبدِّدة للموارد، ومن أشكال التقوى التي تحقِّر من الدنيا، وتدعو المؤمنين للانقطاع عنها.

ولأنه لا يسعنا عندما نتحدَّث عن الرأسمالية والدين أن نغفل عن أطروحة فالتر بنيامين حول هذه المسألة، فقد أضفت ملحقًا لهذه الدراسة يتضمَّن عرضًا مبسطًا لمقالة بنيامين «الرأسمالية باعتبارها دينًا».