التاريخ القانوني العالمي: مقاربة منهجية
تقديم الترجمة
نعيش في سياق العالَمِ المعولم منذ نحو عَقديْن الآن، وهو السياق الذي فتح لنا وعلينا آفاقًا جديدةً من التقارب الثقافي والدراسات المقارنة على جميع المستويات. لا يبعد القائل أن يقول إن واحدةً من أخص سمات هذا السياق قد أصبحت المقارنة. إن إنسان اليوم يقارن وضْعَهُ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وحتى شكله بالآخرين في العالم البعيد. ولا شكَّ أن المقارنة فعل إنسانيٌّ طبيعيٌّ، يمارسه الإنسان منذ القِدَم، فيقارن باستمرار بين المتماثلات والمتباينات حولَه، ولكن الذي أضافه السياقُ المعولم الجديد هو الوفرة الكبيرة في البيانات والمعلومات على نحوٍ لم يكن متاحًا من قبل، وهو الأمر الذي أدى إلى مزيدٍ من الانفتاح النفسي والتفهُّم العاطفي للآخر، فلم يعد الغرضُ من المقارنة مجردَ الدفاع أو الهجوم البسيطَيْن كما كان في السابق، ولكن نشطت أغراضٌ جديدة كالتفهُّم والتعايش والاستفادة من الآخر. لم تعد المحلية والخصوصية الثقافية مانعًا من المثاقفة والتبادل الفكري، وبخاصة أن تلك الخصوصية نفسَها قد ظهر أنها لم تكن بهذه الحتميَّة والحدِّية الصارمة التي كانت متخيَّلة من قبل، والتي تجادل دراساتٌ ثقافية أن ذلك التحلُّل النسبي للخصوصية الثقافية نفسه هو أحد آثار العولمة. ليس الوقوف على ذلك من وكدِنا في هذا المقام على كل حال، ولكن المقصود الوقوف أمام تلك الظاهرة والانتفاع بما هو نافعٌ فيها.
كما أشرنا، فقد أدى ذلك السياقُ إلى ملاحظة الكثير من المساحات الثقافية المشتركة بين الأُمم والشعوب، ورجوع كثيرٍ من التباينات الفرعية بينها إلى أصولٍ قريبة أو متشابهة، وهو الأمر الذي يمكن أن يحدُّ كثيرًا من ثقافة الصدام بالتحوُّل إلى ثقافة التفاهم والحوار.
تأتي هذه الورقةُ في ذلك السياق، حيث تتناول المشروعاتِ البحثية التي تستهدف القانونَ حول العالم - القانون العالمي - بالتأريخ، محاوِلةً تجاوزَ صعوبات التنافر الظاهري أحيانًا والحقيقي أحيانًا أخرى: بين المفاهيم والفلسفات والمؤسسات والتكوينات الذهنية والإجرائية المتباينة للنُّظُم القانونية المختلفة حول العالم. يدرك العديدُ من الباحثين في مجالات القانون والدين والاجتماع والسياسة - بصفةٍ أساسية - أهميةَ ذلك المجال الحديث نسبيًّا للتأريخ القانوني العالمي، لِما يمكن أن يترتب عليه من تقارُبٍ تشريعيٍّ ييسِّر من حركة الإنسان الفكرية والمادية في عالم اليوم بما له من سماتٍ عولمية باتت ضرورية، وكذلك بما يمكن أن يترتب على ذلك النوع من التأريخ القانوني العالمي من إتاحة مساحاتٍ أوسع من التفاهم الفكري والثقافي الذي قد يثري العديد من الحوارات الفلسفية والاجتماعية والحقوقية والأخلاقية وليس فقط القانونية بالمعنى الإجرائي الضيِّق.
تقدِّم الورقةُ التي بين أيدينا شرحًا للإشكالية الأساسية حول ماهية مفهوم «التأريخ القانوني العالمي»، وما يُراد به من إطلاقاتٍ بحثية مختلفة، ثم تتطرق لتأريخ موجَز لهذا الاتجاه وأهميته، وموقعه الوسيط بين الدراسات القانونية والتاريخية، وتقدِّم مقارباتٍ منهجية أربع تُسهِم في العمل على تحقيق تأريخ قانونيٍّ عالميٍّ: هي التوطين، والتعدُّدية المعيارية، والتنميط، والترجمة. مع ملاحظات ختامية تتضمَّن توصيات، وببليوغرافيا موسَّعة حول المجال وأهم الدراسات النظرية والتطبيقية فيه.