ما بعد الإسلاموية في تركيا: سياق التحوُّل، المظاهر والدلالات
على غرار كل الأيديولوجيات السائدة في العصر الحديث، لم تكن الأيديولوجية الإسلاموية في السياق التركي بمنأى عن تأثير التحولات العالمية التي طبعت العقدين الأخيرين من القرن العشرين، خاصةً تلك التحولات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بموجات التحوُّل الديمقراطي وظاهرة العولمة وامتداداتها الاقتصادية والثقافية والقيمية.
ففي ظل هذا السياق الكوني، فضلًا عن تأثير عوامل داخلية وذاتية، شهدت الأيديولوجية الإسلاموية التركية تطورًا وتحولًا لافتًا انعكس في تفسيراتها وخطابها الفكري والأيديولوجي، وفي مستوى ممارساتها العملية في الحقلَيْن السياسي والاجتماعي، مُعلنةً عن بروز ما اصطلح على تسميته في الدوائر الفكرية بـ "ما بعد الإسلاموية" أو "الإسلاموية الجديدة".
لذلك وبالنظر إلى أهمية وخصوصية الإسلاموية التركية، التي مثلت مصدر إلهام للعديد من النماذج الإسلاموية في العالم العربي والإسلامي، كان من البديهي أن يثير تحوُّلها انتباه المجتمع الأكاديمي، سواء داخل تركيا أو في الدوائر البحثية الغربية، حيث سعى الباحثون والمهتمون إلى دراسة هذا التحوُّل وتحليله وتقييمه بعناية في سبيل فهم خلفياته وسياقات حدوثه والمظاهر التي تجسده في الواقع السياسي والاجتماعي الراهن. كما سعى هذا الاهتمام إلى تلمُّس حدود التحوُّل الطارئ وأبعاده في فكر ما بعد الإسلاموية التركية وممارستها قياسًا على سلفها، الإسلام السياسي أو الإسلاموية التركية.
وإذا كانت "ما بعد الإسلاموية" في الحالة العربية ظاهرةً مستجدةً ارتبطت أساسًا بسياق الربيع العربي وما تولَّد عنه من تحولاتٍ كبيرةٍ في بعض الدول التي اجتاحتها الثورات والاحتجاجات الشعبية، فإن نظيرتها التركية قد سبقتها بعقود، ولها امتداد تاريخيٌّ أقدم يعود إلى العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
فقد نشأت أولى بوادر "ما بعد الإسلاموية" في تركيا -في مستواها التنظيري والفكري على الأقل- منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث جسَّدتها كتابات وتنظيرات نخبة من المثقفين الإسلاميين الذي سعوا إلى إعادة تصوُّر الإسلام في سياق الحداثة، وفي ارتباطٍ بالتحولات الاقتصادية والثقافية الكونية، وذلك من أجل تقديم لغة سياسية عصرية للإسلام وتكييف الفهم الإسلاموي الحركي مع واقع متسارع التحوُّل والتغيُّر.
إلَّا أن عقد التسعينيات -لا سيما أخرياته- قد شكَّل بحقٍّ الفترةَ التي تبلورت فيها ملامح "ما بعد الإسلاموية" التركية في سياقٍ داخليٍّ طُبع بانقلابٍ عسكريٍّ ناعمٍ ضد حزب الرفاه الحاكم عام ١٩٩٧م. وكان هذا التدخل العسكري عاملًا حاسمًا دفع قادة الحركة الإسلاموية إلى إعادة التفكير وممارسة نوعٍ من النقد الذاتي والمراجعة الفكرية لجزءٍ كبيرٍ من قناعاتها الفكرية وممارساتها السياسية التي كانت تعتبر بحكم الركائز في الفكر الأيديولوجي الإسلاموي.
تنطلق هذه الورقة البحثية من فرضية أساسية مفادها أن تطوُّر الأيديولوجية الإسلاموية وبروز "ما بعد الإسلاموية" في تركيا لم يكن وليد اللحظة الراهنة المرتبطة بظهور حزب العدالة والتنمية واستئثاره بالمشهد السياسي كما يعتقد البعض، بل هو تحوُّل ذو امتدادٍ تاريخيٍّ تعود جذوره الفكرية والفلسفية إلى عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
ومن جهة ثانية، فإن هذا الانتقال الأيديولوجي لم يكن تحولًا طوعيًّا وإراديًّا نابعًا من قناعات قيادات الإسلام السياسي التركي، بل كان إفرازًا لسياقاتٍ داخلية خاصَّة وأخرى خارجية أملت مجتمعة حتميَّة التحوُّل في الفكر الإسلاموي الحركي وممارساته السياسية بالشكل الذي يجنِّب تشكيلاته الحزبية تدخلات المؤسسة العسكرية وقمعها، ويُكسبها في الوقت ذاته شرعيةً قانونيةً للانخراط في الحياة السياسية، لتصبح أحد مكونات المشهد السياسي والاجتماعي في الجمهورية العلمانية.
كما تسعى الورقة إلى تأكيد فرضية الدور المحوري لنخبة المثقفين الإسلاميين في هذا التحوُّل من خلال مؤلفات وكتابات تنظيرية مختلفة شكَّلت إطارًا نظريًّا وفلسفيًّا لبعض تيارات الإسلاموية، ممهدة لبروز "ما بعد الإسلاموية" بدءًا من أواخر عقد التسعينيات، وهو ما جسدته نسبيًّا أدبيات الخطاب الأيديولوجي لحزب الفضيلة خلال عمره القصير ما بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠١م، وبدرجة أقوى مثيلتها لدى حزب العدالة والتنمية بدءًا من عام ٢٠٠١م.
إن استقصاء موضوع "ما بعد الإسلاموية" في الحالة التركية يثير الحديثَ -بشكل مباشر- عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، باعتباره أكثر النماذج السياسية تعبيرًا وتجسيدًا لتيار "ما بعد الإسلاموية" في السياق التركي الراهن. فالتحوُّل اللافت في الخطاب الفكري والممارسة السياسية للحزب، قياسًا على أسلافه من الأحزاب الإسلاموية، كان العامل الحاسم الذي أسهم في توسيع قاعدته الاجتماعية وجعله أكثر قبولًا بين مختلف مكونات المجتمع، بما فيها بعض القطاعات المحسوبة على الدوائر العلمانية نفسها، ومكَّنه ذلك من الاستئثار بالمشهد السياسي على امتداد العقدين الأخيرين.
لذلك تنتهج هذه الورقة البحثية -لتوضيح كل ما سبق- مقاربةً تاريخيةً تعتمد نهجًا وصفيًّا وتحليليًّا للأفكار والمواقف، لمحاولة تسليط الضوء على جانبٍ من تطوُّر الأيديولوجية الإسلاموية التركية وبروز "ما بعد الإسلاموية"، وتحديد السياق العام لهذا التحوُّل، وإبراز أهم تجلياته في الفكر السياسي الإسلاموي التركي.
فما هو السياق العام الداخلي والخارجي لتحوُّل الإسلاموية التركية وبروز "ما بعد الإسلاموية"؟ وما أبعاد تأثير المثقفين الإسلاميين الأتراك في تطوُّر الخطاب السياسي الإسلاموي؟ وما أبرز تجليات تطوُّر الفكر الإسلاموي التركي خلال العقدين الأخيرين على مستوى الخطاب والممارسة؟