الفكر الفقهي لدى محمد أسد: "ظاهري" في العصر الحديث؟
مقدمة
تتناول هذه الورقةُ الفكر الفقهي للمثقَّف والمفسِّر والمهتدي إلى الإسلام محمد أسد (المعروف سابقًا باسم «ليوپولد ڤايس» [Leopold Weiss]) (ت1412هـ/1992م)؛ فتدرس كتابات أسد عن طبيعة الشريعة ودورها، وهي الكتابات التي تستند استنادًا كبيرًا إلى عملِ الفقيه الأندلسي ابن حزم، الذي عاش في القرون الوسطى (ت456هـ/1064م) ومذهبِه الظاهري. ومع أن محمد أسد شخصيةٌ ذائعةُ الصيت، فإنه لم يُدرَس بعدُ على نحوٍ كافٍ[1]. وحين يظهر في البحوث العلمية، فإن ذلك يأتي بسبب قصة حياته الأسطورية[2]، أو ترجمته المُقدَّرة لمعاني القرآن[3]، أو بسبب وضعه باعتباره أوروپيًّا-يهوديًّا بارزًا اعتنقَ الإسلام[4]. غير أن الجوانب المُهمَلة في البحوث التي تتناول الرجل هي إسهاماته العديدة الأخرى في الفكر الإسلامي الحديث، ومنها أفكاره حول الشريعة.
محمد أسد
وهذا يتضح في مجلته التي كانت «جُهدًا فرديًّا»، وأصدرها باسم «عرفات»[5] بين عامَي 1946-1948م، وفيها أوضَح أسد معالم رؤاه حول الطبيعة الإسلامية لدولة پاكستان الوليدة[6]. لذا فإن هذه الورقة ترسم معالمَ المذهب الظاهري[7]، مستلهمةً ابنَ حزم[8]، قبل أن تتناول أسباب جاذبية هذا المذهب لدى أسد، وطبيعة اشتباكه مع أصول الفقه الظاهري. ومن خلال قراءة فاحصة لمُختلِف أعداد مجلة عرفات، سيتضح لنا أن الظاهرية كانت ملائمةً لأفكار أسد حول الإصلاح الإسلامي. فأسد يتفق مع كثير من أهم القواعد الفقهية لدى الظاهرية، لا سيما النطاق المحدود للشريعة، ويرى في هذا حلًّا لمسألة دور الشريعة في العصر الحديث؛ فالشريعة -بالنسبة إلى أسد- لا تقدِّم سوى الخطوط العريضة الأساسية للدولة الإسلامية، فيما تترك التفاصيل مفتوحةً أمام النقاش والتطوُّر.
وبذلك تسلِّط الورقة الضوءَ على إسهام أسد في الخطاب الإسلامي الحديث حول الشريعة، وتعمِّق فهمَنا لتلقِّي المنهج الظاهري في العالم الإسلامي اليوم؛ وكلا الجانبَيْن يمثلان ثغرتَيْن بحثيتَيْن مهمتَيْن[9]. وتلقي الورقة أيضًا الضوء على ما يبدو جانبًا غيرَ معروف عن التاريخ الفكري الهندي والپاكستاني في عهد الاستعمار[10]. ولا بدَّ هنا من الإشارة إلى أن تركيز الورقة الدائم سيكون على أصول الفقه التي يستند إليها أسد؛ فالسمات الاجتماعية والسياسية الأكيدة للدولة الإسلامية التي اقترحها أسد تتجاوز نطاق هذه المقالة[11].
خلفية تاريخية
بعد مغادرة شبه الجزيرة العربية في عام 1932م، سافر أسد إلى الهند، حيث تعرَّف إلى الشاعر-الفيلسوف محمد إقبال (ت1357هـ/1938م)، وآمَن بفكرة إنشاء وطن مستقل للمسلمين الهنود. وعند إقامة دولة پاكستان في عام 1947م، وضَع أسد رؤيته للمبادئ التي ينبغي أن ترتكز عليها الدولة الجديدة. وكان هذا هو السبب وراء إصداره مجلةَ عرفات[12]. ففي أثناء هذه المجلة أكَّد أسد على وجوب أن تُحكَم پاكستان -أو أية دولة تزعم أنها إسلامية- وَفقًا للشريعة الإسلامية. وجاء في كتاباته أن الوحي يُوجِب إقامةَ دولة إسلامية؛ فالإسلام لا يرضى مجرَّدَ الإيمان، ولكنه أتى ببرنامج اجتماعي وسياسي واضح[13]. ويرتبط بهذا الأمر نقد حاد للحداثة التنويرية العلمانية، بوصفها حقبة أزمات وانحطاط. إذ يقول أسد إن استبعاد السلطة الدينية والحقيقة المتعالية (transcendent truth) من المجال العام هو السبب الكامن وراء أزمات العالَم الحديث[14]. ولم تكن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية سوى انعكاس لاضطراب أعمق؛ وهو انهيار الأفكار الأخلاقية والأدبية. فالدين وحده هو ما وهَبَ الحياة المعنى، وشكَّلَ الأخلاقَ وشرحَ حقيقةَ الطبيعة والغرضَ من الوجود:
"إن ذلك الحيِّز من جوانب الحياة الإنسانية الذي كان يومًا مملوءًا -حدَّ التشبُّع- بالمعتقدات والآمال الدينية، يتحوَّل الآن تدريجيًّا إلى فراغ كبير من العدم، لا يمكن أن ينمو ويزدهر فيه سوى اليأس؛ ذلك اليأس غير المُعلَن فيما يتعلَّق بمستقبل الإنسان، وفيما يتعلَّق بالغرض من حياته ومبرِّرها روحيًّا، وفيما إذا كانت هناك حقًّا قِيمٌ كالخير والشر. فمرارة الصراعات الجسدية والأخلاقية التي تضرب البشرية الآن، والضراوة اليائسة… التي تتنافَس بها الأمم، والجماعات بداخل تلك الأمم، فيما بينها على السلطة… كل هذه ليست سوى أعراض للإحباط الأخلاقي الأدبي الذي تعانيه غالبية البشرية؛ وهو إحباط مسؤول -في نهاية المطاف- عن جميع الحروب والصراعات الأهلية في زماننا"[15].
جاءت هذه الكلمات على خلفية حربَيْن عالميتَيْن وفجر حرب باردة جديدة، مع زوال الفاشية الذي لا يزال عالقًا في الذاكرة. وهكذا نجد أن أسدًا يُحاكي المنظرين الإسلاميين، مثل سيد قطب (ت1385هـ/1966م)، بل والنقَّاد الغربيين مثل تشارلز تايلور (Charles Taylor) (وُلِد 1931م) في شجب وإدانة «قَلق» الحداثة التنويرية[16]. ومِثل قطب أيضًا، يرى أسد أن فَشلَ الأنظمة الغربية أمرٌ بديهيٌّ[17]. وقد جاء حديثُه هذا سابقًا على النقد ما بعد الاستعماري (post-colonial criticism) للخطاب المتمركز حول الغرب بشأن الدين، متفقًا معه في القول بأن النُّظُم العلمانية كانت حلولًا غربية لمشكلة غربية، وهي مشكلة أصولها في التجربة الغربية الفريدة مع الدين[18].
يتفق أسد مع المَجاز الاستشراقي القائل بأن «باب الاجتهاد قد أُغلِق»، واعتبار ذلك هو السبب في حالة الانحطاط التي يعيشها المسلمون.
أما الحل بالنسبة إلى المسلمين فهو الحكم وَفقًا للشريعة، كما يؤكِّد أسد. ومع تأسيس دولة پاكستان، كانت لدى المسلمين الفرصة -وهي الأولى منذ قرون- لتحقيق حلم الدولة الإسلامية؛ وكان سيُصبح لنجاحهم أو فشلهم أثره في الشعوب الإسلامية الأخرى التي تحرَّرت من نِيرِ الاستعمار[19]. غير أن أسدًا يستحضر عقبتَيْن: أولاهما تنامي توجُّه المسلمين -لا سيما النُّخَب الحاكمة- نحو الانبهار بالغرب والاقتناع بأن التقدُّم الإسلامي يعني أن يحذو المسلمين حذو المسار العلماني الغربي[20]. أما العقبة الثانية فهي قرونُ «الخمول» و«الجمود» التي يزعم أسد أنها ضربَت الفكر الديني الإسلامي، وتحديدًا «تيبُّس» و«ركود» الخطاب حول الشريعة[21]. ويتفق أسد مع المَجاز الاستشراقي القائل بأن «باب الاجتهاد قد أُغلِق»، واعتبار ذلك هو السبب في حالة الانحطاط التي يعيشها المسلمون:
"أيًّا كان الخطأ في التفكير الذي ارتكبه السلف الصالح، فقد قُبِل دون ارتياب بوصفه حقيقةً، ولم يُترَك بابٌ مفتوحٌ للتصويب لاحقًا. وهكذا حُدِّد نطاق الأفكار لجميع الأزمان بالمدى الذي كان قائمًا خلال القرون الثلاثة الأولى من الإسلام، وصار التبجيلُ السائغ الذي يشعر به كلُّ مسلمٍ تجاه أكابر العلماء القدامى والأولياء الصالحين من السلف أداةً للجمود الفكري"[22].
هذا مجازٌ قويٌّ بليغ، ولكنه غير دقيق؛ فأسد هنا يتغاضى عن كيفية عمل التقليد بوصفه خيالًا فقهيًّا صُمِّم لإضفاء التماسُك والوحدة على النظام الفقهي، بينما يُواصل الفقهاء إبداعهم في مجال الشريعة[23]. ومع ذلك، كانت لصورة الفكر الفقهي الإسلامي بوصفه يتشكَّل من قرونٍ من اجترارِ الأعمال السابقة تأثيرُها القوي في أسد. وكما سنرى، يدعو أسد إلى الشريعة، ولكن من الواضح أنه يعني بها شيئًا ما في ذهنه. وذلك لأنه في مجلة عرفات، ظهرَ وثيقَ الارتباط بابن حزم والمذهب الظاهري، المنقرض حتى اليوم، والذي استُبعد من الإجماع الفقهي السُّني منذ القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي على الأقل.
نظرة عامَّة على أصول الفقه الظاهري
تأسَّس المذهب الظاهري على يد داوود بن علي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وقد وُصِف بأنه منهجٌ «نصوصي» (textualist) في أصول الفقه الإسلامي[24]. وعلى الرغم من الربط بين الظاهرية وبين المذهب الحنبلي، في الغالب، فإن جذور الظاهرية تمتدُّ إلى النصوصية الاختزالية لأسلاف المتكلِّم المعتزلي أبي إسحاق إبراهيم النَّظَّام (ت221هـ/836م)[25]. والمبدأ الحاكم للمنهجية الظاهرية هو البحث عن القطعيات في الشريعة الإسلامية[26]، وفرضيتهم الأساسية أن الشريعة ليست سوى الأوامر والنواهي الصريحة في القرآن والسُّنة وإجماع الصحابة، أما إذا لم تجد الأمرَ في نصٍّ فليس من الشريعة[27].
المحلى بالآثار- ابن حزم الأندلسي
وهذا يختلف عمَّا ساد في أصول الفقه، مع تبني الفقهاء الظنيات -لا القطعيات- وصار بإمكانهم توسيع نطاق الشريعة لتمتد إلى حالاتٍ تتجاوز ما ورد في النص صراحةً. وقد استدلَّ ابن حزم على هذا المنهج بآياتٍ من القرآن، مستحضرًا الآيةَ الثالثة من سورة المائدة[28]، وبناءً عليها رأى أن اللهَ «أكمَلَ» دِينَه، بمعنى أن كلَّ شيءٍ قد جاء في الكتاب والسُّنة. ويرى ابن حزم أن اللهَ حين يشرِّع أمرًا، فإنه يبثه في كتابه أو على لسان رسوله. وعلى هذا الأساس، يرفض الظاهرية جميعَ المصادر غير النصيَّة في التشريع الإسلامي، ومنها التعليل والقياس والاستحسان والرأي. فهم يرَون أن هذه المصادر تعسُّفية، وتبتعد بالفقيه عن نصوص الكتاب، مع إضافتها طبقاتٍ من الأحكام لا تُجيزها الشريعة. ففي حالتَي التعليل والقياس، على وجه التحديد، لا يرى الظاهرية أي منطقٍ في الأحكام المستنبَطة من هذين الطريقين، فالله لا يصدُر في أحكامِه وَفقًا لعقلٍ بشريٍّ ما[29]. كذلك رفضُ التقليد من أركان المذهب الظاهري[30]. ففي مقدمة كتاب ابن حزم الأبرز في الفقه، وهو المُحلَّى بالآثار، نجده يُجمِل خطوطَ المذهب الظاهري في الفقه على هذا النحو:
"ولا يَحِلُّ القولُ بالقياسِ في الدين ولا بالرأي؛ لأنَّ أمرَ اللهِ تعالى عند التنازُع بالردِّ إلى كتابِه وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم قد صَحَّ. فمَن رَدَّ إلى قياسٍ وإلى تعليلٍ يدَّعيه أو إلى رأيٍ، فقد خالَف أمرَ اللهِ تعالى المُعلَّقَ بالإيمانِ ورَدَّ إلى غيرِ مَن أمَرَ اللهُ تعالى بالردِّ إليه، وفي هذا ما فيه. قال عليٌّ[31]: وقولُ الله تعالى {ما فرَّطنا في الكتابِ من شيءٍ} [الأنعام: ٣٨]، وقولُه تعالى {تِبيانًا لكلّ شيءٍ} [النحل: ٨٩]، وقولُه تعالى {لِتُبيِّنَ للناسِ ما نُزِّلَ إلَيهم} [النحل: ٤٤]، وقولُه تعالى {اليومَ أكملتُ لكم دِينَكُم} [المائدة: ٣] إبطالٌ للقياسِ وللرأي؛ لأنَّه لا يختلِفُ أهلُ القياسِ والرأي أنَّه لا يَجوزُ استعمالُهما ما دامَ يوجَدُ نصٌّ، وقد شَهِدَ اللهُ تعالى بأن النصَّ لم يُفرِّط فيه شيئًا، وأنَّ رسولَه عليه الصلاة والسلام قد بيَّنَ للناسِ كلَّ ما نُزِّلَ إلَيهم، وأنَّ الدين قد كَمُلَ؛ فصَحَّ أنَّ النصَّ قد استوفَى جميعَ الدين. فإذا كان ذلك كذلِك، فلا حاجةَ بأحَدٍ إلى قياسٍ ولا إلى رأيه ولا إلى رأي غيرِه"[32].
ومن الأمور المهمَّة في فهم هذا، تلك النظرية اللغوية التي ترى أنه «لا انفصالَ بين المعنى والمبنى»، أي إنَّ الكلمات الوارِدة في القرآن يجب أن تؤخَذ على ظاهرِها[33]. فأسماء الأشياء لا تُشير إلا إلى تلك الأشياء، لا إلى صفاتِها، ومن ثَمَّ فالأمر الإلهي بشيءٍ ما لا ينطبق على أشياء أخرى لها صفاتٌ ذات صلة[34]. وقد يأتي الأمر الإلهي في صورةٍ مجازية أو استعارة؛ وفي تلك الحالة يعتبر الظاهرية بالمجاز، ولكن فقط إذا تعارضت القراءة الحرفية مع العقل[35]. ويَعجَب ابن حزم من أولئك الذين يختارون التفسيرات التجريدية والمجازية على المعنى البديهي للنص، فيقول:
"ولكنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد أغنانا بالنصوصِ الظاهرةِ التي لا مجالَ للتأويلِ فيها… ومَن أمكَنَته السيوفُ لم يَفتقِر إلى المحارَبةِ بحُطامِ التبْن"[36].
غير أن مبدأ اتِّباع الظاهر لم يكن كافيًا لتوحيد الظاهرية. فالمصادر القديمة تتحدَّث عن جدل دارَ بين أهل الظاهر حول ما يجب أن يدفعه المُحرِم حين يتعرَّض لأنعامِ الغَير بالصيد والقتل. وكما أوضَح [روبرت] غليف (Robert Gleave)، يكمُن هذا الجدل في الخلافات بين الظاهرية حول ما يُشير إليه الدليل النصي، وبشكلٍ أعمق في تعريف الظاهر نفسِه[37]. ويعزو العلماءُ والباحثون اختفاءَ الظاهرية منذ القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي وحتى اليوم إلى أسبابٍ متباينة[38]. والنقطة المحورية بالنسبة إلى المقالة التي بين أيديكم هي الإشارة إلى أن التزام ابن حزم الصارم بالنصوص لا ينمُّ عن دوغمائية أو توجُّه محافِظ. فكما كتَب آدم صَبْرَا، يمكننا -في الواقع- التدليل على أن ابن حزم كان من مؤيدي «العقلانية والتفرُّد ومناهضة سطوة ‹رجال الدين›». ويواصل صَبْرَا أن هذا يُستشَفُّ من أن ابن حزم -برفضِه التقليد والقياس- يسعى إلى تحجيم «مزاعم الفقهاء المسلمين بالتوقيع عن ربِّ العالمين»، وإلى تحدي سلطة النظام المذهبي نفسها، مؤكدًا -في المقابل- على وجوب أن يطيع الفرد من جماعة المؤمنين الأوامر الواردة بوضوحٍ في الوحي والمصادر النصيَّة[39].
ويمكننا أن نضيف إلى قول صَبْرَا عنصرَي المرونة والاعتدال. فالأمور التي لا تَرِد في الكتاب والسُّنة ليس لها حكمٌ في الفقه الظاهري، ومن ثَمَّ فهي مُباحة. وهذا يتماشَى مع القاعدة الفقهية القائلة بـ«الإباحة الأصلية»، التي لا يقتصر القول بها على الظاهرية؛ وهي تعني افتراضَ الإباحة في الأصل حتى يثبت العكس. فمحصلةُ القول في المنهج الظاهري أن نطاق الشريعة مُختزَلٌ وضيقٌ إلى حد بعيد؛ لأنه ما دام الله لم يضع حكمًا صريحًا لمعظم الأمور، فللمسلمين الخيار[40]. ويستحضر ابن حزم التصنيفات الفقهية ذاتَها التي يستخدمها الفقهاء الآخرون، فيضع الأفعال على طيفٍ فقهيٍّ يمتدُّ ما بين الفرض إلى الحرام، ولكن مع أخذ ما سبق في الاعتبار. فتصنيف «الإباحة» يصبح لدى ابن حزم أوسع بكثير من فقهاء المذاهب الأخرى:
"والشريعةُ كلُّها إمَّا فرضٌ يَعصِي مَن تَرَكَه، وإمَّا حرامٌ يعصي مَن فَعلَه، وإمَّا مُباحٌ لا يعصي مَن فَعلَه ولا مَن ترَكَه … ما سَكَت عنه النبي ﷺ، فلَم يأمُر به ولا نَهَى عنه، فهو مباحٌ"[41].
ويبيِّن هذا الجانب من المذهب الظاهري سببَ جاذبيته لدى الطريقة الأكبرية الصوفية، التي ترى فيه وسيلةً لليُسْر والرحمة بالمسلمين[42]. أما في العالَم العربي، فهناك تيار من الفكر الإسلامي الحداثي الذي شدَّه نقدُ ابن حزم لأصول الفقه الإسلامي وما يُتيحه هذا النقد من فرص أمام المسلمين المعاصرين[43]. وكما سنرى، فهذا توجُّهٌ ينتمي إليه محمد أسد[44]. وعلى الرغم من الاختلافات المهمة، ترتكز كتابات أسد الفقهية على الأصول الظاهرية، وتعطي نظرة ثاقبة على كيفية تكييف أفكار الظاهرية حول الإلهيات والشريعة والسلطة الدينية بطرقٍ جديدة ومعالَجتها من زوايا جديدة في العالَم الإسلامي الحديث.
جاذبية ابن حزم
كانت نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على موعدٍ مع ظهور نقاش حافل حول طبيعة الإسلام وما ينبغي أن تكون عليه استجابة المسلمين للحكم الاستعماري البريطاني. وقد أشرنا بالفعل إلى ارتباط أسد بالشاعر والفيلسوف الكبير محمد إقبال في هذه الفترة التي شهدت صعود العديد من التوجُّهات العقدية المتباينة، التي سادت فيما بعد في أوساط المسلمين السُّنة في منطقة جنوب آسيا[45]. ومن تلك التوجهات التيار التقليدي الحنفي القوي في المدرسة الدِّيُوبَندِية والطريقة البريلوية -التي أسَّسها أحمد رضا خان (ت1339هـ/1921م)- وحركة «أهل الحديث». وقد كانت المدرسة التحديثية مرتبطةً بالرؤية الكلامية العقلانية للسيد أحمد خان (ت1315هـ/1899م)، الذي أسَّس «الكلية المحمدية الأنغلو-شرقية في عليگره» (المعروفة باسم «كلية عليگره»)، لاقتناعه أن التعليم الإنجليزي هو الوسيلة الوحيدة ليتمكَّن المسلمون من التعامل مع واقع الحكم الاستعماري.
أسد يؤطر أفكاره باعتبارها تمثيلًا لطريقٍ وسطٍ بين العلماء «التقليديين» الرجعيين وأولئك «الليبراليين» المؤيدين للغرب.
وبعد سنوات، في عام 1941م تحديدًا، أسَّس أبو الأعلى المودودي (ت1399هـ/1979م) حركة إسلامية ثورية، هي «الجماعة الإسلامية». وقد انعكس هذا الاختمار الفكري في المجال السياسي؛ إذ دعَمَ مجموعة من العلماء البارزين عددًا من القضايا والأحزاب، منها «حركة الخلافة» (Khilafat Movement)، وهي حركة رائدة لم تُعمَّر طويلًا (1919-1924م)، وكانت مجرَّد محاولة لحشد الدعم للخلافة العثمانية المعتلة؛ وكذا «رابطة مسلمي عموم الهند» (All-Indian Muslim League)، برئاسة محمد علي جناح، في زمن التقسيم في عام 1947م؛ أو حتى حزب «المؤتمر الوطني الهندي» (Indian National Congress) الذي يهيمن عليه الهندوس، كما في حالة المتكلّم المسلم أبي الكلام آزاد (ت1377هـ/1958م). ومن اللافت للنظر انعكاس القليل من هذا في أعمال أسد نفسه خلال هذه الفترة. فأسد يؤطر أفكاره باعتبارها تمثيلًا لطريقٍ وسطٍ بين العلماء «التقليديين» الرجعيين وأولئك «الليبراليين» المؤيدين للغرب، متهمًا الفريقَ الأول بالجمود في المسائل الدينية والجهل بحاجات العصر، والفريقَ الثاني بتقليد الغرب في خضوعٍ أشبَه بالعبودية[46].
غير أن واقع الإسلام في الهند البريطانية، كما لا بدَّ أنه نَمَا إلى عِلم أسد، كان أعقَدَ بكثير من هذه الثنائية البسيطة. وتكشف أفكار أسد نفسه عن تقاطُعٍ مع كثير من هذه التوجهات واختلافٍ عنها أيضًا. فرفضُه للأيديولوجيا القومية -على سبيل المثال- يُشير إلى تأثُّرٍ بإقبال وجداله الشهير في الأمر مع حسين أحمد مدني ديوبندي (ت1376هـ/1957م)[47]. وقد كانت دعوة أسد إلى تطبيق الشريعة، في تناقُضٍ مع المعايير العلمانية الغربية، لتتوافق مع أولئك المنتمين إلى «الجماعة الإسلامية»، المرتبطين بالمودودي. وكذا فإن تأكيد أسد على الحاجة إلى العودة إلى المصادر النصية الأساسية كشرطٍ للإصلاح الإسلامي لا بدَّ أنه لقيَ رواجًا في الدوائر الديوبندية ودوائر «أهل الحديث»[48]. ومع ذلك، سيتضح لاحقًا أن أقوى تأثير فكري في أسد كان هو المذهب الظاهري وفكر ابن حزم. وسنرى هذا من عدَّة أوجه. لكنه أوضَح ما يكون حين يمتدح أسد ابنَ حزم صراحةً في كتاباته.
وقد أشار العديد من العلماء إلى اهتمام أسد بابن حزم، ولكن طبيعة هذا الاهتمام ومداه وآثاره هي أمور لم تُتناوَل بالتفصيل[49]. فيما تناول آخرون كتابات أسد حول الشريعة، مع تجاهلٍ للجوانب المتأثرة بالظاهرية فيها[50]. وقد يكون هذا من نتائج أسلوب أسد في الكتابة. فمن السمات الأساسية في أعماله الغياب شبه التام للإشارة إلى أي مفكر أو نص آخر بخلاف القرآن والسُّنة. وعلى هذا النحو، تظل ظاهريته ضمنيةً، ومن السهل ألَّا يلحظها القارئ الذي ليست لديه دراية بأصول الفقه الظاهري. فمن النادر أن يظهر هذا الأمر حين يستحضر أسد مرجعيات سابقة:
"لا ينبغي للقارئ أن يتصور أن الرؤى التي أطرحها ابتداعٌ غير مسبوق في الفكر الإسلامي… بل كانت لدى الصحابة أنفسهم وتابِعِيهم، ثم لدى بعض أعظم علماء الإسلام؛ وتحديدًا لدى رجُلٍ يُعَدُّ -بحقٍّ- أحد أعظم ثلاثة أو أربعة عقول أنجبَها العالَم الإسلامي، وأعني بهذا أبا محمد ابن حزم القرطبي"[51].
لكننا لا نعرف متى تحديدًا تعرَّف أسد على ابن حزم. فالإشارة الصريحة الأولى إليه تأتي في رسالةٍ خاصة في شهر مايو 1946م، يطلب فيها أسد نسخةً من المُحلَّى، ويمتدح ابنَ حزم بقولهِ «إمامي»[52]. ولكن هناك آثار لتأثُّره [بابن حزم] أقدَم من هذا. ففي عام 1935م، يرِد اسمُ ابن حزم ضمن قائمةٍ تضمُّ ابنَ رشد وابنَ تيمية والغزالي وآخرين، بوصفه أحدَ «الأئمَّة العِظام» في التاريخ الإسلامي[53]. ونرى هذا في مقدمة أسد لترجمته الإنجليزية لـ«صحيح البخاري»، حيث يدعو أسد المسلمين إلى إعادة الارتباط بالكتاب والسُّنة، وإزالة الطبقات الغامضة المتراكمة إثر التقاليد اللاحقة[54]. وفي عام 1937م، دعَا أسد مرة أخرى إلى «فقه جديد» يقوم على الكتاب والسُّنة وحدهما، و«يكون متحررًا من تلك الطبقة الثخينة الناجمة عن التفسيرات التقليدية التي تراكمَت عبر القرون»[55]. إذن، مهما يكن وقت اكتشاف أسد لابن حزم، فإنه لم يكن صفحة بيضاء (tabula rasa)؛ لأن الظاهرية -نظرًا لالتزامها الصارم بالنصوص- لا بد أنها راقَتْه بوصفها إطارًا أنيقًا لأفكاره عن الإسلام والإصلاح الإسلامي القائمة على النص وحده (sola scriptura). وكلام أسد نفسه يشي بهذا؛ إذ يدعو إلى التركيز على مسألة الشريعة حين كان معتقَلًا في الهند خلال الحرب العالمية الثانية باعتباره عدوًّا «غريبًا»[56]، ولم يدرك سوى لاحقًا مدى تلاقي أفكاره مع أفكار ابن حزم:
"ما زلتُ أرى نفسي أذرَعُ المسافةَ الطويلة للثكنة، جِيئةً وذهابًا، يومًا بعد يوم… لَم أكُن في ذلك الوقت قد قرأتُ أيًّا من كتابات العالِم المسلم البارز أبي محمد علي بن حزم القرطبي؛ ولكن ثبَتَ بعد شهورٍ طويلة من إطلاق سراحي من المعتقَل، وبعد دراسةٍ لأعمال ابن حزم، أن ما وَصلتُ إليه من خلاصاتٍ على نحوٍ تلقائيٍّ مستقلٍّ كان قريبًا جدًّا من الأفكار الأساسية لهذا السلَف العظيم"[57].
لكن للأسف لم يُشِر أسد إلى التوقيت الدقيق الذي بدأ فيه دراسته لابن حزم، ولا إلى تفاصيل عن كيفية حدوث ذلك. وبعيدًا عن هذا، لدينا دليل آخَر على ظاهرية أسد. فالقراءة الفاحصة لمجلة عرفات تكشف تلك الطرقَ العديدة التي اعتمد خلالها أسد على جوانب أساسية في أصول الفقه الظاهري ومسبِّباتِه في ذلك الارتكاز عليها.
رفض القياس وتقييد الشريعة
منذ الإصدار الأول من مجلة عرفات في سبتمبر 1946م، وأسد يُظهر اهتمامًا واضحًا بإبراز موضوعات تتعلَّق بالظاهرية. فمن المزاعم المتكررة [الواردة في المجلة] أن الشريعة الحقيقية هي الأحكام النصيَّة من القرآن والسُّنة. ويستشهد أسد بتعريف «النص» في لسان العرب، وهو أن «نَصّ القرآنِ ونَصّ السُّنة ما دَلَّ ظاهرُ لَفظِهما عليه من الأحكام»[58]. ويستشهد أسد أيضًا بتعريف لِين (Lane) للنص: «شيءٌ مذكورٌ بجلاء أو مُعبَّر عنه صراحةً… فهو تعبيرٌ أو عبارة أو جملة تُشير إلى معنى محدَّد، ولا تتَّسِع لغيره»[59]. فيبدو إذن أن أسدًا لا يسمح بتفسيرات مغايرة لماهية النص، ومن ثَمَّ الشريعة؛ وهو اختلافٌ عن الظاهرية الأوائل، ونقطة سنعود إليها لاحقًا[60].
غلاف العدد الأول من مجلة عرفات
ويضيف أسد أن الفقهاء المسلمين قد وسَّعوا نطاقَ الشريعة على نحوٍ زائفٍ أبعدَ مما أراده الله[61]. فلا يُعارِض أسد التقليد فحسب، وهو الشائع في الأدبيات الإصلاحية، لكنه ينتقد أيضًا القياس والإجماع[62]. وفي هذا الصدد يستشهد بالآيات القرآنية نفسِها الواردة في النصوص الظاهرية[63]. ونلحظ هذه العودة إلى الظاهرية حتى في اختيار «عرفات» اسمًا لمجلته[64]. وأكرر هنا أن أسدًا نادرًا ما يستشهد بمرجعيات أخرى. فهو يكتب كما لو كان يشارِكنا انطباعاته وتأملاته الخاصة. غير أن قراءة ما بين السطور تكشف عن التزام واضح بقواعد الفقه لدى الظاهرية. ولننظر إلى انتقاد أسد للفقهاء الذين:
"مَضَوا في «تطوير» أحكام شرعية جديدة، مستخدمين القياس والرأي والاستحسان والاستدلال والاستصلاح والتعليل والإجماع، وغيرها من مناهج الاجتهاد الأخرى. ومن عباءة الشريعة الصغيرة النطاق نسبيًّا، كما تبدَّت للصحابة، ظهرت هذه البنية الواسعة من الفكر الفقهي كما نراه اليوم"[65].
ومن المحوري في هذا الصدد تأكيد [أسد] -تمامًا مثل ابن حزم- على ضيق نطاق الشريعة الإسلامية. فهذا هو الموضوع الأساسي، الذي يرِد مرارًا وتكرارًا في أثناء مجلة عرفات. إذ يرى أسد أن الشريعة الحقَّة لا تقدِّم أكثر من إطارٍ جامعٍ، وعدد محدود من القوانين الثابتة. وليس من المقاصد الإلهية على الإطلاق سنُّ تشريعات تمسُّ جميع جوانب حياتنا كما فعل الفقهاء المسلمون. وإنما «سكَت» اللهُ عن أشياء ليتيح للمسلمين مجالًا واسعًا من الحرية في تسيير شؤونهم:
"من الواضح أن الأوامر الواردة في نصوص القرآنية والحديثية واضحةَ الدلالة غيرَ القابلة للجدل وحدَها … تشكِّل شريعةَ الإسلام الحقَّة الخالدة. ولأنه ليس هناك سوى عددٍ قليلٍ للغاية من هذه الأوامر في القرآن والسُّنة، فإن الشريعة الحقَّة ليست سهلةً على الفهم والاستيعاب فحسب، بل هي أيضًا أصغر حجمًا بكثير من تلك الشريعة الزائفة التي تطورت عبر الفقه المذهبي… ونظرًا لضآلة حجم الشريعة، فلا يمكنها -ولم يُقصَد أبدًا منها- أن تقدِّم تشريعًا مفصَّلًا لكل ضرورات الحياة وحاجاتها"[66].
ويؤكد أسد أن الشريعةَ -كما وسَّع نطاقَها الفقهاء كثيرًا- عصيَّةٌ على الفهم والتطبيق. ونظرًا لكون الشريعة الحقَّة شديدة الإيجاز، فهي صالحة وقابلة للحياة إلى الأبد، مع منحها أيضًا المسلمين فُسحةً هائلةً للتطور في ضوء الظروف المتغيرة[67]. وأسد هنا يكتب بصفته مثقفًا لا فقيهًا. ويندُر أن يستحضر تصنيفات فقهية من قَبيل «المُباح»، حين يقول:
"سأكرر هذا مجددًا: تهتمُّ الشريعة حصرًا بما أَمَر به «الشارِعُ» بعباراتٍ لا لَبسَ فيها (فَرْض) أو ما عدَّه غيرَ جائز (حَرام)؛ بينما المساحة الأكبر من الأمور والأنشطة التي سكَت عنها الشارِعُ … فيجب اعتبارُها من «المباح»"[68].
هكذا يرى أسد طريقة عمل النظام الفقهي الأساسي في دولة حديثة. فالشريعة لا تقدِّم سوى الحد الأدنى من الخطوط العريضة. ويشكو أسد من أن فكرة وجوب أن يكون للشريعة حُكمٌ في كل مسألة متصوَّرة هي السبب الذي دفعَ الفقهاء المسلمين إلى توسيع نطاق الشريعة، وأدت بهم إلى تبني فكرة القياس العجيبة[69].
الحاجة إلى الحقيقة والوضوح في الشريعة
وتُكمل السمات الأخرى لأصول الفقه الظاهري أفكارَ أسد عن الإصلاح الإسلامي. فقد أعاد أسد صياغة الحاجة إلى اليقين في مسائل الشريعة (بحسب الظاهرية)، التي أشرنا إليها آنِفًا، بوصفها دعوةً إلى اتباع «الحقيقة» الخالدة للنصّ قبل أيّ اجتهادات فقهية ذاتية. فكل المعارف المكتسَبة خارج إطار النصّ الصريح من القرآن والسُّنة -مهما تكن تقوى صاحبها وعِلمه- هي معارف ذاتية ومن ثَمَّ نسبية، كما كتب أسد؛ ومن ثَمّ لا يمكن أن تحمل -في حد ذاتها- وزنَ «شرع الله» نفسه، ولا يمكن أن تكون مُلزِمة للأجيال التالية[70]. ويعزو أسد هذا إلى «علم النفس الحديث»، زاعمًا أن المسلمين في عصور ما قبل الحداثة لم يكونوا على وعيٍ بالذاتية المتأصّلة في المعرفة البشرية[71]. ولنستحضر هنا انتقادات أسد للحداثة العلمانية بوصفها عصرًا للأزمات الأخلاقية والارتباك والتشوُّش والانحطاط. فهدفه إذن هو إعادة التأكيد على أن الشريعة -بوصفها شرعًا إلهيًّا يأخذ المجتمع نحو الحقيقة المطلقة- ليست هي ذلك النتاج الذاتي للاجتهاد الفقهي البشري[72]. وهذا يتناغم مع دعوة الظاهرية إلى الالتزام التام بالنصوص، بدافع الحاجة إلى تحقيق اليقين في الشريعة الإسلامية.
ولدى أسد ذلك الانشغال التقليدي لدى الظاهرية بالوضوح في الشريعة، وهو المتضمَّن في كلمة «ظاهري» نفسها. فقد حاجَج ابنُ حزم بأن المعنى «الظاهر» للكلمات هو شكلٌ تواصليٌّ أعلى من المجاز والإلغاز، وقد تردَّدت أصداء هذا الرأي في تأكيد أسد على أن لُبَّ الشريعة هو الوضوح والبساطة[73]. ويؤكِّد أسد أن الله أراد لشرعه أن يتَّسم بالوضوح وسهولة التناول من لدُن عباده المؤمنين؛ ولم يطرح هذا القولَ في معرِض الحِجاج، بل بوصفه مبدأ بدهيًّا. ولكن ضاع هذا الوضوح القديم؛ فقد تعرَّض للتشويه والتحريف، بشكلٍ أصبح من العسير معه التعرُّف عليه، بعد قرونٍ من التكهُّنات والمداوَلات بين الفقهاء واستخدام المُحسّنات البديعية. يقول أسد:
"كُتب العديد من الكتب حول الشريعة والفقه. وفي الواقع، نتيجة كثرتها هذه صارت الشريعة الحقَّة الأصيلة التي جاء بها نبيُّ الله قد توارَت وراء الحُجب تمامًا، وصار مفهوم الفقه متشابكًا لدرجة أنه صار الآن في موقع ديني فائق كالذي يشغله الكهنة"[74].
"ولا شكَّ أن الشريعة الحقَّة (التي طرحها النبي والصحابة) غائبةٌ اليوم تمامًا في غياهب الرؤى والاستنتاجات العلمية؛ أي تلك البنى الفائقة من الآراء الذاتية التي تراكمَت على مدى القرون وصارت اليوم تتزيَّا برداء «المرجعية» الوهمي"[75].
كيف لنا أن نوفِّق بين هذا وبين الصورة التي رأيناها سابقًا عن الفقه بوصفه مصدرًا للخمود والقصور؟ يجيب أسد قائلًا إن بنية الشريعة قد صارت «ضخمة ومعقَّدة بشكلٍ مُقلِق»، لدرجة جعلت حتى الفقهاء «مضطرين للدعوة إلى وقف المزيد من التطوير فيها»[76]. وهكذا يُدين أسد في الإرث الفقهي الإسلامي تعقيدَه وصرامته، وهما حالة إفراط في التكهّنات والركود. ومما يرتبط بهذا ارتباطًا وثيقًا قناعةُ أسد أن الشريعة يجب أن تكون مُتاحة أمام جميع المسلمين، وليست حكرًا واختصاصًا مقصورًا على العلماء. وقد كان هذا هو الحال في زمن النبي والمسلمين الأوائل، حتى حوَّل الفقهاء الشريعة إلى مجال معقَّد يتطلَّب سنوات من الدراسة، مما اضطر عامَّة المسلمين إلى أن يصبحوا أشبه بـ«ببغاء»، يمتثلون لقوانين لا يفهمونها[77]. وكما يُشير أسد باقتضاب، «مع كون الشريعة تمسُّ حياة الجميع، فإنها ليست مجالًا لجميع الناس»[78]. وهكذا نجد لدى أسد امتدادًا أكيدًا لما أشرنا إليه آنفًا من توصيف آدم صَبْرَا للفكر الفقهي لدى ابن حزم بأنه ليس محافظًا وليس دوغمائيًّا أيضًا، بل راسخُ القدم في «الفردانية ومناهضة رجال الدين».
كان مدار عمل أسد وتركيزه طوال الوقت على أصول الفقه. فقد تحاشى مناقشة تفصيلات منهجه الظاهري في الفروع، مثل الآيات المتعلِّقة بالربا أو عقوبات الحدود[79]. والمقصد هنا هو التأكيد على أن هذا هو سبب تراجُع المسلمين: فقدانهم الهداية الإلهية المتضمَّنة في الشريعة؛ فقد حُجِبَت خلف ستار التكهُّنات البشرية، واندثرت تحت رُكام التعقيدات الفقهية، فتوسَّع نطاق الشريعة إلى أبعد مما أُرِيدَ لها. فالشريعة الحقَّة تُستنبَط وَفْقَ خطوط ظاهرية (Ẓāhirī lines). وهذا يردُّ المسلمين إلى جذور مصادر الوحي، مع السماح بحرية بناء مجتمع حيوي ومتطوِّر. ولذا تحفل مجلة عرفات بشعور الخوف والإحباط؛ إذ تحتَّم على المسلمين تبديد فرصتهم لبناء دولة إسلامية حقيقية بسبب ما شاب الخطاب التقليدي حول الشريعة من ارتباك شديد وانعدام صفة العملية.
الشريعة بوصفها عادةً خُلُقيةً
يأتي اشتباكُ أسد مع المذهب الظاهري انتقائيًّا. فعلى سبيل المثال، لا نجده يتناول بعض السمات الأخرى المميِّزة للمذهب، كالقول إن الأوامر القرآنية -مثل {وآتُوا الزكاة}- هي فرضٌ، لا محض إباحة أو ندب[80]. وفي مواضع أخرى، يوظِّف أسد المنهج الظاهري ليقدِّم حجة حداثية واضحة. فإذا استحضرنا قول أسد بأن جوهرَ أزمة الحداثة العلمانية ليس قانونيًّا أو سياسيًّا، وإنما هو -قبل كل شيء- أدبي وأخلاقي، فيمكننا هنا أن نتساءل كيف للحُكم بهذه الشريعة -التي يُنظر إليها على أنها ضيقة النطاق ولا تضمُّ سوى مجموعة محدودة من الأحكام- أن يُنقذ المسلمين من هذا المصير [الذي آلَت إليه الحداثة العلمانية]. هل عدد قليل من الأوامر النصيَّة يميِّز دولة إسلامية حقيقية [تنشأ] من «الفراغ الهائل»؟ لقد توقَّع أسد هذا السؤال، فأوضَح أنه مع كون الشريعة تتشكَّل فقط من الأوامر الواردة في الكتاب والسُّنة، فإنها ليست محدودةً بذلك. لأن هذه الأوامر -عند قبولها واستيعابها [في نفوس المُكلَّفين]- يكون لها أثرٌ نفسيٌّ عميق يتدفّق إلى الخارج في جميع جوانب حياة [العبد] المؤمن:
"للشريعة وظيفة أخلاقية بارزة؛ إذ المُراد منها أن تغرس في نفس الإنسان شيئًا أفضل ما يُوصف به أنه «عادةٌ خُلُقية»؛ أي تلك القدرة الغريزية على أن يُقرّر في كل مرحلة من مراحل حياته ما إذا كان الدافع… يتفق -أم لا- مع الخطة الأخلاقية العامة التي رسم الإسلامُ ملامحَها؛ وتلك الرغبة الغريزية في اتِّباع الدوافع الصحيحة وقهر الدوافع الخاطئة"[81].
ويشبّه أسد هذه «العادة الخُلُقية» بأعمال الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (ت1941م)، المعروف بدفاعه عن أن عمليات الخبرة المباشرة والحَدْس هي مصادر أفضل في فهم الواقع من محض الاستنتاج العقلاني[82]. ومن ثَمَّ يُنظَر إلى الشريعة بوصفها شيئًا غريزيًّا وبدهيًّا. فهي جزءٌ لا يتجزّأ من حيوات المسلمين العاديين وأفكارهم، لكونها معيارًا داخليًّا للتقييم الأخلاقي[83]. وهذا يُبرز أهمية أن تكون الشريعة مُوجزة وسهلة الفهم للعامَّة لدى أسد. وهذا أيضًا في لُبِّ الانتقاد الموجَّه [من أسد] إلى أولئك الذين -على العكس- يرَون في الشريعة شيئًا تحتكره النخبة من العلماء. لأنه في هذه الحالة «لن تكون النتيجة غير ما هي عليه؛ أي اغتراب الإنسان العادي -مهما يكن ذكاؤه- عن روح التعاليم التي يُعلِن أنه يتبعها»[84].
كتب أسد أن المأساة تكمن في أن الشريعة أصبحت «مسألة تتعلَّق بالكتب»، في أيدي القلَّة، لا «حضورًا حيًّا» بين الكثرة.
والدعوات إلى تطبيق الشريعة -إذن- عادةً ما تُغفِل هذا الأمر. فبالإضافة إلى الارتباك والخلاف الذي يُصيب الخطاب التقليدي حول الشريعة، يظلّ هذا الخطاب دومًا نخبويًّا وبعيدًا عن الجماهير. وقد كان لدى أسد أمرٌ آخر في باله. فالمنهجية الظاهرية لا تضمن فقط اليُسر والمرونة عبر شريعة محصورة [في نطاق ضيق من الأحكام والقواعد]، بل الأعمق أنها تمثل طريقةً يمكن من خلالها للعوام من المسلمين أن يعيدوا الارتباط بالهَدي الإلهي. فلو صارت الشريعة بعيدة عن متناول الجماهير، ستنتقل من كونها «عادة خُلُقية» إلى نظام ميّت من القواعد والصيغ والأفعال الآلية؛ ومن ثَمَّ يصبح التراجع والتدهور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي أمرًا محتومًا[85]. وأعتقد أن هذه هي رؤية أسد للشريعة بوصفها نظامًا شاملًا متكاملًا حقًّا لكن دون تشريعات لمعظم التفصيلات. وكتب أسد أن المأساة تكمن في أن الشريعة أصبحت «مسألة تتعلَّق بالكتب»، في أيدي القلَّة، لا «حضورًا حيًّا» بين الكثرة[86].
التقنين
يمتاز اشتباك أسد مع أصول الفقه الظاهري عن المقاربات الأخرى للفقه الإسلامي في العصر الحديث. إذ لا يقوم تصوُّر أسد على مفاهيم من قبيل «المصلحة»، ولا يستحضر «مقاصد الشريعة» [في خطابه]. فهذه المحاولات تأتي من تصوُّر سائد عن الشريعة يرفضه أسد عمومًا. واستخدامه للأصول الظاهرية ليس أقلَّ من كونه دعوةً إلى إعادة تعريف الشريعة نفسها. إذ يسعى أسد إلى تغيير طريقة فهم المسلمين للتراث الفقهي، وبذلك يريد أيضًا تغيير طريقة تشكُّل السلطة الدينية في الإسلام. فوحدها الشريعة «المُفكَّكة»، التي تُختزل إلى أساسياتها المُجرَّدة، هي ما يمكن أن يكون لها مكانٌ ودورٌ حيويان في العصر الحديث[87]. وهذا يمثّل إسهامَ أسد في الخطاب الإسلامي الحديث حول الشريعة.
ومع ذلك، يشترك أسد في جانبٍ مهمٍّ مع غيره من مُنظّري العصر الحديث. ففي عدد يناير 1947م من مجلة عرفات، نجده يؤكد على الحاجة إلى تقنين الشريعة[88]. إذ يدعو أسد إلى أن تتوافق ثُلَّة من العلماء المتمرّسين على الأوامر الواردة في نصوص القرآن والسُّنة، ليتم تقنينها. ولا بدَّ أن يكون هؤلاء العلماء متضلّعين في معرفة اللغة العربية، ومنهجية قراءة النص القرآني وتاريخه وفي علوم الحديث، فيأخذوا في اعتبارهم «السياقَ بتمامه» للقرآن والسُّنة. ويؤكد أسد أن هذا لا بدَّ أن يتم وَفق ما يسميه هو «خطوط ظاهرية»، مستبعدًا جميع التفسيرات اللاحقة[89]. فالأحكام المتعلِّقة بالمسائل ذات الشأن الاجتماعي هي التي تحتاج إلى تقنين لأغراض [إدارة] الدولة[90].
وهذا قد يوضِّح سبب امتناع أسد في مجلّته عرفات عن تحديد ما يعدّه من هذه الأحكام؛ فهذه مهمة اللجنة التي اقترحها. وكما كتب أسد، فإلى جانب مجموعة من القوانين المعتمَدة، يمكن للمسلمين الانخراط في عملية اجتهاد متواصلة لا تأخذ في اعتبارها سوى «روح» الإسلام[91]. فأسد إذن يدعو إلى الاجتهاد، ولكن لا بدَّ هنا من التأكيد على أن الاجتهاد الذي يراه شيء مختلف؛ إذ هو حتمًا ليس عمليةً تُستنبَط من خلالها أحكامُ الشريعة؛ لأن الشريعة واضحة بالفعل. إنما الاجتهاد عنده عملية تجري إلى جانب -أو بمعزلٍ عن- أحكام الشريعة المُقنَّنة والواضحة والمحدودة[92]. ولأن الاجتهاد يختلف عن الشريعة، فلا بدَّ من أن يكون دائمًا خاضعًا للمراجعة والنقاش والتغيير[93]. وفي الواقع، يُصبح الاجتهاد لدى أسد مرادفًا لعملية المشاركة السياسية والحُكم، التي تُسمَّى عادةً في التراث بـ«السياسة». ويرى أسد أنه حين يصل المسلمون في النهاية إلى تصوُّر متفَق عليه لمعنى الشريعة، ستصبح جميع الخلافات والنقاشات اللاحقة حافزًا نحو التقدُّم الأخلاقي والفكري، وليست سببًا للارتباك والانقسام[94].
ولا يرى أسد في هذا التقنين وسيلةً لتمكين الدولة واستخدام نفوذها لتحقيق «الأسلمة»[95]. فمفهومه عن الشريعة بوصفها «عادة خُلُقية» يشير إلى [أن هذا التقنين] عملية عضوية وشعبية وتصاعدية. وقيمة التقنين لدى أسد إنما تكمن في أنه يوضِّح ماهية الشريعة توضيحًا قاطعًا ونهائيًّا. ومن ثَمَّ فإن ذلك النقد الشائع للتقنين، القائل بأن هذه العملية تُغفِل ثراءَ التراث الفقهي الإسلامي وما فيه من تعدُّدٍ في المشارب، لا يتلاءم مع رؤية أسد الذي يرى في هذه التعدُّدية تحديدًا محضَ تشويهٍ للشريعة[96]. فالتقنين -كما يقول أسد- يؤكد فقط تلك الرؤية التي أرادها الله للشريعة دائمًا؛ وهي كونها تجسِّد مجموعة من الأحكام الفرعية الوضعية. ويضيف أسد أن التقنين وَفق «خطوط ظاهرية» سيتجاوز الانقسامات الطائفية والحزبية؛ لأنه سيُظهِر أن الشريعة لا تتكوَّن إلا من مبادئ صريحة مستقاة من نصوص الوحي، يتفق عليها جميع المسلمين[97].
وحتى هذا التناوُل الموجَز للموضوع يترك العديد من الأسئلة دون إجابات. ومن المعروف أن الدعوات إلى تقنين الشريعة أمرٌ غير مسبوق في تاريخ الفقه الإسلامي قبل العصر الحديث؛ ففكرة التقنين نفسها تقوم على الميول المتجانسة والمركزية للدولة القومية الحديثة القوية[98]. لكن ليس من المرجَّح أن يمثِّل هذا إشكاليةً أمام أسد. وقد استعرضنا بالفعل نقدَه لما يراه يمثِّل التراث الفقهي القديم. وعلاوةً على ذلك، يرى أسد أن الشريعة موجَزةٌ بما يُتيح لها أن تتلاءم مع أيّ بنية اجتماعية وسياسية. ومع أن التقنين وَفق المنهج الظاهري يتناسب تمامًا مع بِنى الدولة القومية الحديثة، فإن أسدًا بالتأكيد سيُنكر أي ارتباطٍ بينهما[99]. وربما الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو الجذور الاستعمارية لمحاولات تقنين الشريعة، لا سيما في الهند[100]. لكننا نجد محمد أسد -الناقد الحاد للإمبريالية الغربية- يسكت عن هذا. وهذا إما لأنه غير واعٍ لهذه الجذور، وإما لأنه لا يرغب في صرف الانتباه إليها. وبالإضافة إلى هذا، هناك شعورٌ بأن أسدًا يستهين بالتحدي المتمثل في الوصول إلى إجماع علمي على ماهية أحكام الشريعة، لا سيما فيما يتعلَّق بمصادر الحديث النبوي. فلا يمكن أن نتوقع من علماء المذاهب الفقهية المختلفة استثناء جميع الاجتهادات الفقهية المتأخرة من نطاق الشريعة؛ ويقدّم أسد تصوُّره الظاهري عن الفقه بوصفه تصورًا عامًّا شاملًا، لكن هذا غير صحيح.
والأكثر إثارةً للاهتمام هو السؤال عن كيفية تلاقي الدعوة إلى تقنين الشريعة مع مَيل أسد إلى الظاهرية. فهل اتفق علماء الظاهرية الأوائل على ماهية أحكام الشريعة؟ كما رأينا من قبل، فإن الالتزام بالظاهر لم يحُل دون وقوع الاختلاف بين الظاهرية حول ما تشير إليه المصادر النصيَّة وحول معنى الظاهر نفسه ودلالته[101]. وقد أدى أيضًا رفض الظاهرية للتقليد والإجماع إلى استبعاد احتمالية ترسيخ آراء المذهب ومأسسته. ويُشار إلى هذا الأمر بصفته سببًا من أسباب تراجُع المذهب. فكما كتب [كريستوفر] ميلشيرت، «لو شعر جميع مؤسِّسي [مذهب] داوود (بن علي) اللامِعين بالحرية -على أساسٍ من تعاليمه- في صياغة آرائهم الخاصة وتطويرها، ما كان ممكنًا تشكيل مجموعة متماسكة من الآراء، ولا مذهب بأبسط معاني الكلمة»[102]. غير أن دعوة أسد إلى تقنين الشريعة تجد لها جذورًا في الفرضية القائلة بأن الفقهاء من جميع المذاهب يمكنهم الوصول إلى إجماعٍ حول الأوامر والنواهي الإلهية الصريحة؛ وهو إجماع عامٌّ لم يكتفِ أوائل الظاهرية بعدم الوصول إليه، وإنما رفضوه من حيث المبدأ.
هل أسد ظاهريٌّ في العصر الحديث؟
تولَّى أسد إدارةَ «قسم التجديد الإسلامي» في حكومة دولة پاكستان الوليدة بين عامَي 1947-1952م، فعمل في الأساس تحت قيادة لياقَت علي خان (Liaquat Ali Khan) (ت1371هـ/1951م). ومن ثَمَّ لم تكن كتاباتُه حول الشريعة الإسلامية كتاباتِ مثقَّف يعيش في برجه العاجي. ففي الواقع، حوَّل أسد مجلة عرفات، منذ مارس 1948م، إلى المجلة الرسمية للقسم[103]. غير أن الأفكار التي جاءت فيها لم تُثمر؛ فقد ظلَّت دعوةُ أسد إلى تحديد الشريعة وَفْقَ خطوط ظاهرية حبرًا على ورق. وما زالت أسباب ذلك غير واضحة وتحتاج إلى مزيدٍ من البحث والدراسة[104]. لكن السؤال الأكثر إلحاحًا يدور حول ما إذا كان بمقدورنا -في ضوء ما سبق- أن نصِفَ أسدًا بأنه ظاهريٌّ، وأن نزعم أنَّ أفكاره حول الشريعة تمثِّل عودةً وانبعاثًا لأصول الفقه الظاهري في العصر الحديث. والسؤالان مختلفان وليسا سؤالًا واحدًا. فمن ناحية، سنجد أن مَيل أسد إلى قواعد الفقه الظاهري أمرٌ واضح؛ إذ يصف رؤيته بأنها «موقف ظاهري» أو «نظرة ظاهرية»[105].
أسد واعٍ باحتمالية أن تُواجه أفكاره ردة فعل عنيفة إذا أعلن صراحةً انتماءَه لمذهبٍ استُبعد على مدى قرون من الإجماع السُّني.
ويشير أسد إلى أوجه التشابه بينه وبين آراء ابن حزم حول طبيعة الشريعة ونطاقها. وينطبق تمامًا على أسد قولُ ڤيشانوف بأن فقهاء الظاهرية «حصروا الدلالة التشريعية لِلغةِ الوحي في أحكامها الصريحة، ولم يضعوا قواعد لأي تصرُّف سكَتَ عنه الوحي»[106]. ولكن من الجدير بالذكر -مع هذا- أن أسدًا لم يقُل قطّ أنه يتبع هذا المذهب صراحةً[107]. وعبَثًا يبحث قارئه عن أي إيحاء بالولاء المؤسَّسي للظاهرية. وربما أمكن للمرء القول إن هذا مجرَّد اختلاف في المنظور؛ فأسد واعٍ باحتمالية أن تُواجه أفكاره ردة فعل عنيفة إذا أعلن صراحةً انتماءَه لمذهبٍ استُبعد على مدى قرون من الإجماع السُّني. أو يمكننا أن نتناول محمد أسد وَفق ما جاء في كلامه. فلم يُعبّر أسد إطلاقًا تعبيرًا صريحًا عن انتمائه للمذهب الظاهري، ربما لأنه لم يرَ أفكارَه كذلك؛ وإنما رأى نفسه يقدِّم فهمَه الخاص للإسلام، بوصفه فهمًا قائمًا على النص وحده (sola scriptura) وجدَ لاحقًا أصداءه لدى ابن حزم.
ومن ثَمَّ فإن الأصول الظاهرية مكمِّلة لأفكار أسد حول الشريعة، وليست جوهريةً فيها. ومصطلحات من قَبيل «الظاهرية الجديدة» (neo-Ẓāhirīsm) تثير حتمًا أسئلة تتعلَّق بالتعريف والمعنى. لكننا إذا لم نستطع تصنيفَ أسد على أنه ظاهريّ، يمكننا على الأقل الزعم أن كتاباته حول الشريعة تمثِّل تجديدًا وإحياءً في العصر الحديث لبعض قواعد المذهب. فنجد في مجلة عرفات أفكارًا «ظاهرية» حول الحاجة إلى تحجيم نطاق الشريعة، وإلى نظام فقهي بسيط يقوم حصرًا على الأوامر الصريحة التي تُعاود الظهور في العصر الحديث، وإن كان في صورٍ جديدة ومن زوايا مختلفة، ودون أي مزاعم حول الانتماء المؤسَّسي للمذهب. ومما يُثري فهمنا لكتابات أسد الفقهية ولكيفية تلقّي الفكر الإسلامي الحديث للظاهرية كَونُ أسد قد سعى إلى وضع أساسٍ من الفقه الظاهري للدولة الپاكستانية الناشئة. ومهما يكن موقفنا حيال رؤية أسد الفقهية وتصوُّره لإقامة دولة إسلامية في پاكستان، فإن هذه الحلقة [في التاريخ الفكري] تشير إلى أن هناك حاجة ماسَّة إلى إظهار تقديرٍ أعمق في الأوساط الأكاديمية لحياة محمد أسد وفكره.
مصدر الورقة:
Linnhoff, J. (2021), A Modern-day Ẓāhirī? The Legal Thought of Muhammad Asad (1412/1992). Muslim World, 111: 425-443. https://doi.org/10.1111/muwo.12407
الهوامش
[1] ما زلنا بانتظار دراسة بالإنجليزية تكون لها الريادة في تناول حياة أسد وفكره. للاطلاع على دراساتٍ من هذا القبيل بالألمانية:
Gunter Windhager, Leopold Weiss alias Muhamm ad Asad – Von Galizien bis Arabien 1900-1927 (Vienna: Bohlau, 2008); Dominik Schlosser, Lebensgesetz und Vergemeinschaftungsform: Muhammad Asad (1900-1992) und sein Islamverständnis (Berlin: E-B Verlag, 2015).
وبالفرنسية:
Florence Heymann, Un juif pour l’islam (Paris: Stock, 2005).
[2] للاطلاع على تحليل نقدي لحديث أسد عن اعتناقه الإسلام وتجاربه في العيش في شبه الجزيرة العربية وبلاد الهند/پاكستان وغيرها، انظر:
Martin Kramer. ‘The Roads from Mecca: Muhammad Asad’ in idem, ed. The Jewish Discovery of Islam: Studies in Honor of Bernard Lewis (Tel Aviv: The Mosche Dayan Center for Middle Eastern and African Studies, 1999); 225-247.
[3] Muhammad Asad, The Message of the Qur’an (Gibraltar: Dar al-Andalus, 1980).
وانظر أيضًا:
Abdin Chande. ‘Symbolism and Allegory in the Qur’an: Muhammad Asad’s Modernist Translation’, Islam and Christian-Muslim Relations 15:1 (2004); 79-89; Furzana Bayri. ‘Li-qawmin yatafakkarūn (Q. 30:21): Muhammad Asad’s Qur’anic Translatorial Habitus’, Journal of Qur’anic Studies 21:2 (2019); 1-38.
[4] Abraham Rubin. ‘Muhammad Asad’s Conversion to Islam as a Case Study in Jewish Self-Orientalization’, Jewish Social Studies: History, Culture and Society 22:1 (Fall 2016); 1-28.
[5] وصَفت مجلة أسد ذاتَها بأنها مجلة «رجل واحد»، بمعنى أن أسدًا لم يلتمس أيَّ مشاركات من كُتَّاب آخرين. وقد تحدَّث أسد نفسُه عن هذا الأمر، قائلًا إن «مجلة عرفات لم يُقصَد بها أن تكون دوريةً كالعديد من الدوريات الأخرى، مع إسهامات من كُتَّاب آخرين، وإنما لتكون شيئًا أشبَهَ بالمونولوغ؛ وسيلةً أنقل من خلالها أفكاري أنا وحدي». انظر:
Asad, Homecoming, 116. (والتشديد في الأصل).
[6] جُمِع كثيرٌ من مقالات مجلة عرفات وأُعيد نشرها في عام 1987م في مجلد واحد. انظر:
This Law of Ours and Other Essays (Gibraltar: Dar al-Andalus, 1987).
[لمطالعة الترجمة العربية، انظر: محمد أسد، هذه شريعتنا، ومقالات أخرى، ترجمة: شكري مجاهد، (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2015م). (المترجم)].
[7] شهدت السنوات الأخيرة زيادةً ملموسةً في الدراسات التي تتناول المذهب الظاهري وفكر ابن حزم. للاطلاع على عيِّنة من ذلك، انظر:
Ignaz Goldziher, The Ẓāhirīs: The Doctrine and Their History, ed. and trans. Wolfgang Behn (Leiden, 1971); Amr Osman, The Ẓāhirī Madhhab (3rd/9th-10th/16th Century): A Textualist Theory of Islamic Law (Leiden: Brill, 2014); Devin Stewart. ‘Muḥammad Dāwūd al-Ẓāhirī’s Manual of Jurisprudence’, in Bernard Weiss, ed. Studies in Islamic Legal Theory (Leiden: Brill, 2002); 99-158; Christopher Melchert, Formation of the Sunni Schools of Law, 9th – 10th Centuries C.E (Leiden: Brill, 1997); 178-97; Adam Sabra, ‘Ibn Ḥazm’s Literalism: A Critique of Islamic Legal Theory – Part 1’, Al-Qantara XXVIII/1 (2007); 7-40; idem., ‘Ibn Ḥazm’s Literalism: A Critique of Islamic Legal Theory – Part 2’, Al-Qantara XXVIII/2 (2007); 307-48; Camilla Adang. ‘Ibn Hazm on Homosexuality: A Case Study of Ẓāhirī Legal Methodology’,Al-Qantara XXIV (2005); 5-31; idem., ‘Women’s Access to Public Space according to Al-Muḥallā bi-l-Āthār’, in Manuela Marin and Randi Deguilhem, ed. Writing the Feminine: Women in Arab Sources (London: IB Taurus, 2002); 75-94; idem., ‘Ibn Hazm’s Criticism of some ‘Judaizing’ tendencies among the Mālikites’, in Ronald L Nettler, ed. Medieval and Modern Perspectives on Muslim-Jewish Relations 2 (London: Routledge, 1995); 1-15; Robert Gleave, Islam and Literalism: Literal Meaning and Interpretation in Islamic Legal Theory (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2013); 146-175; David R Vishanoff, The Formation of Islamic Hermeneutics: How Sunni Legal Theorists Imagined a Revealed Law (New Haven, CT: American Oriental Series, 2011), 66-106.
[للاطلاع على الترجمة العربية لكتاب غولدتسيهر عن الظاهرية، انظر: إغناتس غولدتسيهر، الظاهرية: مذهبهم وتاريخهم، ترجمة: محمد أنيس مورو، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2021م). (المترجم)].
[8] إن سببَ اتخاذنا أعمالَ ابن حزم مدخلًا إلى أصول الفقه الظاهري ذو شقّين. أولًا: لأن محمد أسد نفسَه يعتمد على ابن حزم بدلًا من أي مفكر آخر، كما سنرى. وثانيًا: أن ابن حزم هو الظاهري الوحيد الذي وصلتنا كتاباته وأفكاره مفصَّلةً. وهذا لا يحول دون الإقرار بحقيقة أن ابن حزم كان مختلِفًا عن الأجيال السابقة من علماء الظاهرية، وأنه قدَّم تنازلات كبيرة أمام التيار السائد في التأويل الفقهي في زمنه، وهي نقطة أُشير إليها في:
Vishanoff, Formation, 98-106.
وانظر أيضًا:
Aaron Zysow, The Economy of Certainty: An Introduction to the Typology of Islamic Legal Theory (Atlanta, GA: Lockwood Press, 2013), 153-4.
[9] كان صَبْرَا هو مَن أشار إلى بقاء تلك الثغرة البحثية التي تحتاج إلى إنتاج دراسة كبرى حول تجديد المذهب الظاهري وإحيائه في العصر الحديث. انظر:
‘Ibn Ḥazm’s Literalism: A Critique of Islamic Legal Theory – Part 1’, 8.
وانظر أيضًا:
Osman, The Ẓāhirī Madhhab, 281-2.
[10] من المُلاحَظ أن محمد قاسم زمان في أثناء دراسته الأخيرة حول التاريخ الفكري للإسلام في پاكستان لا يُشير إلى أسد عمومًا ولا حتى إلى محاولاته وضع الخطوط العريضة لدستور إسلامي لپاكستان:
Muhammad Qasim Zaman: Islam in Pakistan: A History (Princeton and Oxford: Princeton University Press, 2018).
[11] لم يُحاول أسد أن يضع -بعبارات عامَّة- رؤية أساسية للدولة الإسلامية إلا في الطبعة الأخيرة من مجلة عرفات، في مارس 1948م. انظر:
Asad. ‘Islamic Constitution Making, ‘Arafāt 1:1 (March 1948), in Europe’s Gift (II); 1001-1048.
ثم توسَّع في هذه الأفكار في عمله المنشور في عام 1961م، بعنوان مبادئ الدولة والحُكم في الإسلام. انظر:
The Principles of State and Government in Islam (Berkeley, CA: University of California Press, 1961).
في مقالة تالية لي، سأتناول بالتفصيل السمات المحددة لرؤية أسد للدولة الإسلامية، وأضعها في سياق الجدل الذي دار في الفكر السياسي الإسلامي منتصفَ القرن العشرين الميلادي حول العلاقة بين الحاكمية الإلهية والسيادة الشعبية، لا سيّما في السياق الپاكستاني.
[صدَرت الترجمة العربية لكتاب مبادئ الدولة والحُكم في الإسلام في عام 1957م، بعنوان منهاج الإسلام في الحكم، وأشرف المؤلف على الترجمة. وقد صدر الأصل الإنجليزي في عام 1956م. فالطبعة الإنجليزية المُشار إليها هنا ليست الأولى، وإن كانت الأولى لدى مطبعة جامعة كاليفورنيا. لمطالعة الترجمة العربية، انظر: محمد أسد، منهاج الإسلام في الحكم، ترجمة: منصور محمد ماضي، (بيروت: دار العلم للملايين، 1957م). (المترجم)].
[12] للاطلاع على ما أورده أسد من أسباب وراء نشره هذه المجلة واختيار اسمها، انظر:
Asad. ‘Why ‘Arafāt?’, ‘Arafāt 1:1 (September 1946), in Europe’s Gift (II); 737-41.
[13] Asad. ‘The Outline of a Problem’, 748.
[14] Asad. ‘Is Religion A Thing of the Past?’, Arafāt 1/2 (October 1946), in Europe’s Gift II, 764-8, 773-8.
[15] Ibid., 769.
وقد هاجَم أسد الأشكال الغربية من العلمانية في عمله الأول بعدما صار مفكّرًا إسلاميًّا، وهو العمل المنشور في عام 1934م. انظر:
‘The Spirit of the West’ in Islam at the Crossroads, 3rd edition (New Delhi: Kitab Bhavan, 2014); 33-66.
[للاطلاع على الترجمة العربية لهذا الفصل، انظر: «روح الغرب»، في: الإسلام على مفترَق الطرق، ترجمة: عمر فروخ، (بيروت: دار العلم للملايين، 1987م)، ص32-51. (المترجم)].
[16] Roxanne L Euben. ‘Comparative Political Theory: An Islamic Fundamentalist Critique of Rationalism’, The Journal of Politics 59:1 (1997); 28-55; idem, Enemy in the Mirror: Islamic Fundamentalism and the Limits of Modern Rationalism – a work of Comparative Political Theory (Princeton: Princeton University Press, 1999).
[17] يهزَأ أسد من القومية أو الشيوعية بوصفها مجرَّد «بدائل» للدين. انظر:
Asad. ‘Is Religion A Thing of the Past?’, 764.
[18] Ibid., 764-786.
[19] Asad. ‘What Do We Mean by Pakistan?’, ‘Arafāt 1:8 (May 1947), in Europe’s Gift (II), 912-3 and 923; ‘Towards An Islamic Constitution’, ‘Arafāt 1:9 (July 1947), in Europe’s Gift (II), 933 and 939; ‘Calling All Muslims’, ‘Arafāt 1:1 (1948), in Europe’s Gift (II), 961; ‘Construction of Destruction’, ‘Arafāt 1:6 (February 1947), in Europe’s Gift (II), 861-8.
[20] من الموضوعات الرئيسة في أعمال أسد انتقاد المسلمين «الليبراليين» أو «التقدُّميين». انظر:
‘That Business of Imitation’, ‘Arafāt 1:7 (April 1947) in Europe’s Gift (II); 885-908; ‘What Do We Mean by Pakistan?’, 918-20.
[21] Asad. ‘Towards a Resurrection of Thought’, Islamic Culture vol. XI (January 1937), in Europe’s Gift II, 703 and 705.
[22] Ibid., 705 (والتشديد مُضاف).
وعادةً ما تُعزَى عبارة «إغلاق باب الاجتهاد» إلى جوزيف شاخت. انظر:
Joseph Schacht, An Introduction to Islamic Law (Oxford: Oxford University Press, 1964).
[لمطالعة الترجمة العربية لهذا الكتاب الأخير، انظر: جوزيف شاخت، مدخل إلى الفقه الإسلامي، ترجمة: حمّادي ذويب، (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2018م). (المترجِم)].
[23] انظر:
Sherman Jackson, Islamic Law and the State: The Constitutional Jurisprudence of Shihab al-Din al-Qarafi (Leiden: Brill, 1996); Wael Hallaq. ‘Was the Gate of Ijtihad Closed?’, International Journal of Middle Eastern Studies 16:1 (1984); 3-41; Mohammad Fadel. ‘The Social Logic of Taqlid and the Rise of the Mukhtasar’, Islamic Law and Society 3:2 (1996); 193-233.
وللاطلاع على نظرة عامَّة شاملة للأدبيات ذات الصلة، انظر:
Abdul Rahman Mustafa, On Taqlīd: Ibn al-Qayyim’s Critique of Authority in Islamic Law (Oxford: Oxford University Press, 2013), 1-61.
[24] كشفت الدراسات الأخيرة أن مصطلح «حَرفي» (literalist)، الذي عادةً ما يُوصَف به المذهب الظاهري وأعمال ابن حزم، لم يَعد سهلًا التمسُّك به والدفاع عنه؛ نظرًا لإقرارِ ابن حزم بالمجاز القرآني، وفهمِه لدور السياق النصي الأوسع في القرآن والسُّنة عند الانخراط في عملية تفسير للنص. انظر:
Osman, The Ẓāhirī Madhhab, 171-212; Vishanoff, Formation, 66-106; Gleave, Islam and Literalism, 146-175.
والملخَّص الموجَز التالي مستقًى من المصادر الواردة في الحاشية رقم 9.
[25] وقد جمع هؤلاء الأسلاف بين نظرةٍ عقلانية في الكلام وحَرفيةٍ صارمة في الفقه. وللمزيد حول أصول الظاهرية القديمة، انظر:
Vishanoff, Formation, 68-78.
وبالمثل، يشير [كريستوفر] ميلشيرت إلى الاختلافات بين داوود بن علي والتقليديين في الفقه والكلام. انظر:
Melchert, Formation, 179-184.
وحول الرؤية المؤثرة -وإن كانت مضلّلة- التي ترى في الظاهرية مذهبًا متجذّرًا في تقليديةِ المذهب الحنبلي، وذلك أساسًا بسبب اشتراك المذهبَيْن في نقد الفقه العقلاني لدى الأحناف، انظر:
Goldziher, Ẓāhirīs, 24-7, 81-84, 108-9; Wael Hallaq. ‘Was al-Shāfi‘ī the Master Architect’, International Journal of Middle East Studies 25:4 (November 1993), 597-8.
[26] انظر:
Zysow, The Economy of Certainty, 2-3.
«إن أبرَزَ خط فاصل في الشريعة الإسلامية يكْمُن بين تلك النُّظُم التي تتطلَّب القطعَ في جميع تفاصيل الشرع وبين تلك التي تقبل بالظنّ… ويُعدّ كلٌّ من المذهب الاثني عشري -في معظم مراحل تاريخه- وكذا المذهب الظاهري أمثلةً على النُّظُم الأولى».
[27] أتاح فقهاء الظاهرية مسألةَ البحث عن «الدليل» إلى جانب المعنى الواضح الظاهر من النص. وقد رأى نقَّادُ المذهب أن هذا شكلٌ من أشكال العمل التفسيري المعروف باسم «القياس»، ولكن تحت اسم وعنوان آخر. انظر:
Vishanoff, Formation, 79.
[28] {اليَومَ أكمَلتُ لكم دِينَكُم، وأتمَمتُ علَيكُم نعمَتي، ورضيتُ لكم الإسلامَ دِينًا}.
[29] Goldziher, Ẓāhirīs, 41-2.
[30] كتَب ابنُ حزم أن التقليد جاء بعد عصر مؤسسي المذاهب الفقهية، وذلك بسبب تلاميذهم، إما كسلًا واتباعًا للهوى أو عجزًا عن الاجتهاد بأنفسهم. انظر: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، (القاهرة: مطبعة الإمام، 1968م)، ج2، ص110.
[31] المقصود هو الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الأندلسي رحمه الله، لا أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما قد يتبادر إلى الأذهان. وهو هنا -بعد عرض المسألة- يبدأ بالتدليل على صحَّة ما ذهب إليه فيها، مستشهدًا بآياتٍ من القرآن. وهذا الأمر (ورود اسم المؤلف في أثناء الكتاب) شائعٌ في الكتب القديمة. (المترجم)
[32] ابن حزم، المُحلَّى، (القاهرة: د.ن، 1347هـ)، ج1، ص56.
[33] يتحدث [ديڤيد] ڤيشانوف عن «تطابُقٍ مُقرَّرٍ ربّانيًّا بين الكلمات ومدلولاتها». انظر:
Vishanoff, Formation, 66.
[34] Ibid., 88.
[35] Sabra, ‘Ibn Ḥazm’s Literalism’, 16.
[36] ابن حزم، الإحكام، ج1، ص406. وقارنه بـ:
Gleave, Islam and Literalism, 163.
[37] أي هل يُشير الظاهر إلى فهمٍ شائع لعملية الصَّيد تكون فيه ملكيةُ «الصَّيد»* غيرَ ذات أهمية؛ أم أن مفهوم الظاهر هنا يُشير إلى تعريف اصطلاحي لعملية «الصَّيد» بمعنى محدَّد يتمثَّل في اصطياد حيوانات البراري وقتلها. انظر:
Gleave, Islam and Literalism, 148-9.
* أي الكائن/الحيوان الذي يُصاد. (المترجم)
[38] يشير ميلشيرت إلى أن ما أدى إلى اندثار المذهب هو رفضه للقياس والتقليد، بالإضافة إلى ارتباطه بالمذهب المعتزلي في الكلام، وعدم وجود رعاية [سياسية] له، والإخفاق في مأسَسة رؤى أئمَّة المذهب. انظر:
Melchert, Formation, 187-90.
أما ڤيشانوف، فقد ذكَر أن «تقيُّدَ [المذهب] الصارمَ بالنصِّ أدَّى إلى وقوع اضطراب كبير في الوضع القائم فقهيًّا واجتماعيًّا، ومن ثَمَّ كان محكومًا عليه بالفشل منذ البداية». انظر:
Vishanoff, Formation, 104.
[39] Sabra, ‘Ibn Ḥazm’s Literalism’, 7.
[40] إذا أقرَرنا أن أصول الفقه لدى ابن حزم ليست حَرفية -وانظر حول هذا الحاشيةَ رقم 26- فإن هذا يعني أن تأويله الفقهي يتيح مرونةً تفسيريةً. انظر:
Vishanoff, Formation, 66-106.
ومع ذلك، ونظرًا لأن أسدًا يركِّز بوضوح على محدودية نطاق الشريعة، كما سيظهَر، فإن هذا الجانب من «مرونة» الظاهرية سيكون هو محور تركيزنا المباشر هنا.
[41] ابن حزم، المُحلَّى، ج1، ص56.
[42] Samer Dajani, Ibn ‘Arabī’s conception of Ijtihād: its origins and later reception (Unpublished PhD Thesis, SOAS University, 2015).
[43] هنا يستحضر المرء تحقيقات أحمد محمد شاكر عام 1928م لأعمال ابن حزم. انظر:
Sabra, ‘Ibn Ḥazm’s Literalism: A Critique of Islamic Legal Theory – Part 1’, 8.
[44] إضافة إلى ذلك، علينا أن نشير إلى البحوث الغربية الحديثة التي تركّز على الجانب «الليبرالي» في الظاهرية، وذلك في عددٍ من دراسات الحالة التي تشمل المثلية الجنسية والموسيقا أو حضور النساء في المساجد. انظر على سبيل المثال:
Adang. ‘Ibn Hazm on Homosexuality’, 5-31; idem., ‘Women’s Access to Public Space’, 75-94.
[45] اللمحة التالية مأخوذة من:
Zaman: Islam in Pakistan, 14-54.
وانظر أيضًا:
Iqbal Singh Sevea, The Political Philosophy of Muhammad Iqbal (Cambridge: Cambridge University Press, 2012); 35-62; C.M. Naim, ed, Iqbal, Jinnah and Pakistan: The Vision and the Reality (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 1980); G. E. Von Grunebaum, ed. Muslim Self-Statement in Indian and Pakistan (1857-1968) (Wiesbaden: Otto Harowitz, 1970).
[46] Asad. ‘Why ‘Arafāt?’, 738-9; ‘The Outline of a Problem’, 748; ‘Is Religion A Thing of the Past?’, 779.
[47] Zaman, Islam in Pakistan; Sevea, Political Philosophy, 1-3.
[48] كما سيظهر لاحقًا، يمثِّل التزام المدرسة الدِّيُوبَندِية بالإرث الفقهي الحنفي -لا سيّما التقليد والقياس- اختلافًا كبيرًا عن التزام أسد بأصول الفقه الظاهري.
[49] انظر على سبيل المثال:
Talal Asad, ‘Muhammad Asad between Religion and Politics’, Insan ve Toplum 1:2 (2011), 155.
وجاء فيها: «لقد سعى (أسد) إلى توظيف منهجية أبي محمد بن حزم، المتكلِّم الأندلسي الذي عاش في القرون الوسطى».
[هناك مُلخَّص بالعربية لهذه المقالة على موقع أواصِر. يمكن مطالَعته عبر هذا الرابط: https://tinyurl.com/asad-bw-religion-and-politics. (المترجم)].
[50] Erwin J. Rosenthal, Islam in the Modern National State (Cambridge: Cambridge University Press, 1965), 125-6; Cemil Aydın, The Idea of the Muslim World: A Global Intellectual History (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2017), 149-151; Schlosser, Lebensgesetz, 221-237.
[تُرجِم كتاب روزنثال إلى العربية مؤخرًا. لمطالعة الصفحات المُشار إليها هنا من الكتاب، انظر: إروين روزنثال، الإسلام في الدولة القومية الحديثة، ترجمة: محمد داغر، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2020م)، ص176-177. (المترجم)].
[51] Asad. ‘This Law of Ours’, ‘Arafāt 1:5 (January 1947), in Europe’s Gift (II), 840.
كذلك يصف أسد مؤسِّسَ المذهب الظاهري، داوود بن علي، بأنه واحدٌ من «ألمع» المفكرين المسلمين في التاريخ. انظر:
Asad, ‘This Law of Ours’, ‘Arafāt 1:4 (December 1946), in Europe’s Gift (II), 802 and 805.
[52] Muhammad Arshad, ‘Muhammad Asad: Twenty-Six Unpublished Letters’, Islamic Sciences 14 (Summer 2016), 1/41.
[53] Muhammad Asad, Sahih al-Bukhari: Translated from the Arabic with explanatory notes and index; vol. 1 (Srinagar, Kashmir: The Arafat Publications, 1935), 11.
[54] Ibid., 9-10.
[55] Asad. ‘Towards a Resurrection of Thought’, 710.
[56] أرَّخ أسد لهذا الاعتقال بدءًا من 1 سبتمبر 1939م حتى 14 أغسطس 1945م. انظر:
Asad, This Law of Ours, 1.
[57] Asad, This Law of Ours, 2.
[ترجمة هذه الفقرة هي للدكتور شكري مجاهد، في ترجمته لهذا الكتاب (وقد حوَى المقالةَ التي تحمل العنوانَ ذاتَه مع مجموعة أخرى من المقالات جمعتها السيدة پولا حميدة أسد)؛ وصدرت الترجمة بعنوان هذه شريعتنا، وهو من منشورات «منتدى العلاقات العربية والدولية» في الدوحة. (المترجم)].
[58] محمد بن مُكرَّم ابن منظور، لسان العرب، 15 مجلَّدًا، (بيروت: دار صادر، 1300هـ/1883م)، ج8، ص367. وقارن ذلك بما جاء في:
Asad. ‘This Law of Ours’, 794.
[59] يستدعي أسد تعريفَ لِين في عدَّة مواضع. انظر:
‘This Law of Ours’, 795 and 799.
[60] إضافةً إلى الاستشهاد بما قاله لِين (Lane) والرجوع إلى لسان العرب، نجد لدى أسد كثيرًا من النقاش حول أصول اللغة وتطوُّرها ووظيفتها، بوصفها توفِّر إطارًا مفهوميًّا يدعم نظريته الفقهية. وهذا يتناقض على نحوٍ صارخٍ مع ابن حزم. انظر:
Gleave, Islam and Literalism, 146-175.
[61] Asad, ‘This Law of Our’s, 798-800 and 802-809.
[62] حول القياس، انظر:
Asad. ‘Towards An Islamic Constitution’, 942; ‘This Law of Ours’, 797-8.
وحول الاجتهاد، انظر:
‘This Law of Ours’, 805-10.
[63] Asad, ‘This Law of Ours’, 793-5, 805, 834, 839, 841.
[64] جاء في كتابات أسد أنه في يوم عرفات أنزل اللهُ الآيةَ الثالثة من سورة المائدة، التي يصفها أسد بأنها «تذكيرٌ خالدٌ لنا بأننا لا نحتاج سوى القرآن والسُّنة، ولا شيء آخر، لمعرفة ماهية الإسلام». انظر:
Asad. ‘Why ‘Arafāt?’, 740 (والتشديد في الأصل).
[65] Asad. ‘This Law of Ours’, 802/3.
[66] Asad. ‘Islamic Constitution Making’, 1011.
وانظر أيضًا:
‘The Outline of a Problem’, 760; ‘This Law of Ours’, 804-5, 829-30, 835-8, 845-6; ‘Towards An Islamic Constitution’, 940-1 and 943.
[67] Asad. ‘This Law of Ours’, 853.
[68] Asad. ‘Towards an Islamic Constitution’, 943.
وقارن ما يرِد في ختام هذا مع ما جاء في المُحلَّى لابن حزم، ج1، ص57.
[69] Asad. ‘This Law of Ours’, 804-5.
[70] Asad. ‘Towards a Resurrection of Thought’, 706; ‘The Outline of a Problem’, 753-6; ‘This Law of Ours’, 791, 802-803, 810, 832, 846; ‘Towards an Islamic Constitution, 941-3.
[71] تعتقد «النظرية الذاتية» (voluntarism) التي يُصنَّف المذهب الأشعري ضمنها -المعروفة أيضًا بـ«الإرادوية» (divine command theory)- أن جميع أشكال المعرفة الإنسانية، بما فيها المعرفة الأخلاقية، تتشكَّل دومًا -وبدرجةٍ ما- من خلال عوامل ذاتية، تتمثَّل في المكان واللغة والثقافة، ومن ثَمَّ لا يمكن توظيفها [أي تلك المعرفة] معيارًا لقياس العمل الإلهي وتصنيفه. ومن ثَمَّ ليس هناك شيء يفعله الله يمكن أن يُقال عنه إنه شرّ أو ظلم. انظر:
Sherman Jackson, Islam and the Problem of Black Suffering (Oxford: Oxford University Press, 2009), 75-99.
[72] لم يطرح أسد في أي موضعٍ فكرة أن فقهًا يقوم على الظنيات، لا القطعيات، قد أتاح للمسلمين الانخراطَ في عملية دينامية من المراجعات والنقاش والتجديد، وهو الفقه الذي يتجلَّى مثلًا في أفكار من قَبيل «تَغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان». وكما أشرنا بالفعل، يُقرّ أسد أن مسائل من قبيل «الجمود الفقهي» و«غلق باب الاجتهاد» هي من أبرز أسباب تراجع المسلمين.
[73] كما يقول ابن حزم، فإن المقصدَ الوحيد من اللغة هو «الإفهام لا الإشكال». انظر: الإحكام، ج1، ص276. وقارن هذا بـ:
Gleave, Islam and Literalism, 153.
[74] Asad, ‘This Law of Ours’, 792-3; ‘The Outline of a Problem’, 750-3, 758-9; ‘Is Religion a Thing of the Past?’, 786.
[75] Asad. ‘The Outline of a Problem’, 759.
[76] Asad. ‘This Law of Ours’, 791.
ويُشير أسد إلى أن هذا وقع «بعد القرن الثاني أو الثالث الهجريَّيْن». انظر:
‘This Law of Ours’, 803.
[77] Asad. ‘The Outline of a Problem’, 752.
[79] والاستثناء الوحيد هو قولُه -دونما تفصيل- بأن الدولة الإسلامية لن تتعامل بالربا في شؤونها الاقتصادية. انظر:
Asad. ‘This Law of Ours’, 855.
[80] Gleave, Islam and Literalism, 154-7.
[82] Asad. ‘Towards a Resurrection of Thought’, 702.
[83] Asad. ‘The Outline of a Problem’, 752.
[84] Ibid.
[85] Asad. ‘This Law of Ours’, 792.
[86] Asad. ‘The Outline of a Problem’, 752-3.
[87] هذه إعادة صياغة لما قالته پولا حميدة أسد، زوجة محمد أسد. انظر الحاشية رقم 2.
[88] Asad. ‘This Law of Ours’, 848-850.
وهناك مجموعة واسعة من الأبحاث حول تاريخ عملية تقنين الشريعة في العصر الحديث، وموضعها في الاتجاه الأوسع والعالمي في التقنين. للاطلاع على نظرة عامة مفيدة حول هذا، انظر:
Guy Burak. ‘Codification, legal borrowing and the localization of ‘Islamic Law’, in Khaled Abou El Fadl, Ahmad Atif Ahmad and Said Farres Hassan, ed. The Routledge Handbook of Islamic Law (London and New York: Routledge, 2019); 389-99; Rudolph Peters. ‘From Jurists Law to Statute Law or What Happens When the Shari’ah is Codified’, in B. A. Robertson, ed. Shaping the Current Islamic Reformation (London: Frank Cass, 2005); 81-94; Aharon Layish. ‘The Transformation of the Shari‘a from Jurists’ Law to Statutory Law in the Contemporary Muslim World’, Die Welt Des Islams, New Series 44:1 (2004); 85-113.
وحول التجربة العثمانية مع تقنين [الشريعة] في القرن التاسع عشر الميلادي، لا سيّما مجلة الأحكام العدلية لعام 1878م التي سعَت إلى تقنين الفقه الإسلامي (الحنفي)، انظر:
Avi Rubin. ‘Legal Borrowing and Its Impact on Ottoman Legal Culture in the Late Nineteenth Century’, Continuity and Change 22:2 (2007), 282-3; idem., ‘Modernity as a Code: The Ottoman Empire and the Global Movement if Codification’, Journal of the Economic and Social History of the Orient 59:5 (2016); 825-56; Samy Ayoub. ‘The Mecelle, Shari’ah, and the Ottoman State: Fashioning and Refashioning of Islamic Law in the Nineteenth and Twentieth Century’, Journal of the Ottoman and Turkish Studies Association 2:1 (2015); 121-46.
[89] Asad. ‘This Law of Ours’, 848-850.
ويقرّ أسد بأن التحدّي الأكبر هو استنباط الأوامر الواردة في نصوص الحديث، لا من القرآن.
[90] يؤكد أسد على أنه لا يعني أن الشريعة نفسها تقتصر -أو يمكن قصرها- على المسائل الاجتماعية. انظر:
‘Towards an Islamic Constitution’, 949.
[91] Ibid., 944.
[92] Asad. ‘The Outline of a Problem’, 759.
حيث يقول: «مع أن الاجتهادَ مُبرَّرٌ في نطاقه الملائم، لا يجب -بحالٍ- أن يُعدَّ وسيلةً مشروعةً لاستنباط الأحكام الشرعية». وانظر أيضًا:
‘This Law of Ours’, 840, 844.
[93] Asad. ‘This Law of Ours’, 847-8, 853.
[94] Asad. ‘Towards an Islamic Constitution’, 940-1; ‘This Law of Ours’, 853-5.
[95] يرى كثير من الباحثين في تاريخ الفقه الإسلامي أن الدولة هي ما يَبرز في ذلك التوجُّه نحو تقنين الشريعة، التي يُقال بعدئذٍ إنها تعكس سيادة الدولة في العالَم الإسلامي. انظر:
Peters. ‘From Jurists Law to Statute Law’, 81-94; Layish. ‘The Transformation of the Shari‘a’, 85-6; Hussein Ali Agrama, Questioning Secularism: Islam, Sovereignty and the Rule of Law in Modern Egypt (Chicago: University of Chicago, 2012).
[96] للاطلاع على هذا النقد لعملية تقنين الشريعة، انظر:
Wael Hallaq, Sharī‘a: Theory, Practice, Transformation (New York: Cambridge University Press, 2009), 357-70; Peters. ‘From Jurists Law to Statute Law’, 81-94; Kenneth M. Cuno, Modernizing Marriage: Family, Ideology and Law in Nineteenth and Early Twentieth-Century Egypt (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 2015), 166-69.
[97] Asad. ‘This Law of Ours’, 850.
[98] Wael Hallaq, Sharia: Theory, Practice, Transformations, 355-500; idem, An Introduction to Islamic Law (Cambridge: Cambridge University Press, 2009), 85-115.
للاطلاع على الزعم المضاد القائل بأن العالَم الإسلامي شهد قبل القرن التاسع عشر الميلادي عملياتِ تقنينٍ وتدوين، على الأقل بمعنًى أكثر عمومية وبدءًا من المدوَّنة الحديثية، انظر:
Maribel Fierro. ‘Codifying the Law: The Case of the Medieval Islamic West’, in John Hudson and Ana Rodriguez, ed. Diverging Paths? The Shapes of Power and Institutions in Medieval Christendom and Islam (Leiden: Brill, 2014), 100-1.
[99] أودُّ في هذا السياق أن أفترق عن مزاعم جميل أيدِن (Cemil Aydın)، الذي يتحدَّث عن «تحوُّل في الالتزامات السياسية» لدى أسد، من الملكية العربية التقليدية إلى الدولة القومية الحديثة. فبالتأكيد يرى أسد أن الشريعة -كما يتصوَّرها هو- ليست أقل تكيُّفًا وقبولًا للتطبيق في بِنى النظام الملكي التقليدي منها في الدولة القومية. ومن ثَمَّ لا يجب أن يكون هناك أيُّ «تحوُّل». ومع ذلك، فإن أيدِن مُحقٌّ في إشارته إلى أن الإسلام لدى أسد «لم يقتضِ أيَّ نمط واحد من السياسة». انظر:
Aydın, The Idea of the Muslim World: A Global Intellectual History (Cambridge, MA: Harvard University Press, 20178), 151.
[100] Hallaq, Sharia, 371-384; idem, An Introduction, 85-89.
[101] Gleave, Islam and Literalism, 148-9.
[102] Melchert, Formation, 188.
وانظر أيضًا:
Vishanoff, Formation, 87.
حيث يقول ڤيشانوف: «لم تصبح الحركة الظاهرية قطّ مذهبًا فقهيًّا راسخًا له مناهج منتظمة في التعليم، على غرار المذاهب السُّنية الأخرى، ومن أسباب ذلك معارضة تلك الحركة لفكرة أن تكون هناك مجموعة من القواعد التي يضعها البشر».
[103] Asad. ‘Arafāt – Quarterly Journal of Islamic Reconstruction’, ‘Arafāt 1:1 (March 1948), in Europe’s Gift (II)); 981-5.
ومع ذلك، فهذه النسخة الرسمية الجديدة من مجلة عرفات لم تَنشر سوى طبعة واحدة من عدد مارس 1948م.
[104] مع أن الأمر محض تخمين، فللمرء أن يُقدِّر أن اغتيال علي خان في عام 1951م كان له دور. فقد كان أسد مقرَّبًا من علي خان، وهناك بعض الإشارات في السيرة الذاتية الثانية [لأسد] أن علي خان هذا قد حماه من منتقديه داخل وزارة الخارجية الپاكستانية. فعلى سبيل المثال، اضطر أسد بعد وفاة علي خان إلى مقاومة تحرُّكات لتعيينه سفيرًا لپاكستان في الأرجنتين، ثم انتقل في النهاية إلى نيويورك مع البعثة الپاكستانية إلى الأمم المتحدة. انظر:
Asad, Homecoming, 135-6, 171, 172-6.
وفي عام 1961م، أشار أسد بغموضٍ إلى «تطورات سياسية لا ضرورة للكلام عنها هنا»، عند توضيحه للأسباب التي جعلت أفكارَه [الواردة] في مجلة عرفات لا تؤتي ثمارها. انظر:
Asad, Principles, xi.
[لمطالعة الترجمة العربية، انظر: أسد، منهاج، ص11. (المترجم)].
[105] Asad. ‘This Law of Ours’, 845-6.
[106] Vishanoff, Formation, 66.
[107] هذا يجعل محمد أسد يمتاز عن ظاهريٍّ معاصرٍ آخَر، هو السعودي عبد الرحمن بن عقيل.
[بل هو أبو عبد الرحمن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله العقيل، وشهرته ابن عقيل الظاهري. وُلِدَ في شقراء من أرض نجد في عام 1357هـ/1942م. (المترجم)].