المجتمعات المسيحية واليهودية في الفسطاط: طوبوغرافيا غير إسلامية وسجالات فقهية ما قبل العصر الفاطمي

المجتمعات المسيحية

مقدمة المترجم

عبر تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة، سادت من بين البنى المعرفية المتنوِّعة في الإسلام المنظومةُ المعرفيةُ الفقهيَّة، وبوصفه العلمَ بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، استغرق الفقه في التفاصيل والفتاوى والأحكام الفرعية لصيقةِ الصلة بممارسات الحياة اليومية. وأحد أسباب ذلك يعود لاعتباراتٍ سياسية كما يتضح من هذه الورقة؛ حيث شجَّع الولاةُ الحِفَاظَ على الكنائس والمعابد اليهودية التي شُيدت في الفسطاط في أوقاتٍ، كما أمروا بتدميرها في أوقاتٍ أخرى.

وبالطريقة نفسها، لم يكن علماءُ الدين وقادة المسلمين مُجمعين على عدم بناء أو ترميم أماكن العبادة لغير المسلمين. وبحسب وائل حلَّاق: فقد "خضعت فتاوى الفقهاء عادةً إلى عملية تحريرية كبيرة ومهمَّة؛ حيث كان يُحذف منها الوقائع والحقائق والبيانات الشخصية غيرِ ذات الصلة بالفقه، مثل: الأسماء، وأسماء الأماكن، والتواريخ، وغيرها. وعلاوةً على هذا، كانت هذه الفتاوى تُختصر وتوجز محتوياتها وفحواها؛ لتكون في صيغة قواعد فقهية صارمة، وبمجرَّد تحريرها وتلخيصها أصبحت هذه الفتاوى لاحقًا جزءًا لا يتجزَّأ من الكتابات الفقهية المرجعية، التي يتمُّ الرجوع إليها وتطبيقها بحسب ما تُمليه الأوضاع". والآن، تتوفر الكثيرُ من النصوص الفقهية المتراكمة التي تُشير إلى الوضع الفقهي النظري لغير المسلمين.

من هنا تأتي أهميةُ هذه الورقة؛ كونها تتبع الجدالات التي ثارت في تلك المرحلة المبكِّرة، باستقصاء تلك العلاقة المتداخلة بين الآراء الفقهية والقضايا الطوبوغرافية، ففي وقتٍ لم يكن فيه وضعُ الجماعات المسيحية واليهودية قد تمَّ تقنينُه بعد، منحت هذه النقاشاتُ الفقهاءَ فرصةً للتفكير؛ بحيث كانوا مجبرين على اتخاذ موقفٍ حيال كل حالةٍ جديدة تنشأ. كما أنها تُظهِر أيضًا عدم وجود قوانين معطاة مسبقًا تتعلَّق بتنظيم الجماعات المسيحية أو اليهودية في وقت الفتح الإسلامي. وبالتالي، تسلِّط هذه الورقة الضوءَ على تلك الوقائع والسياقات التاريخية لمجتمع الفسطاط، قبل أن تغدو بنيةً نصيَّةً تجريدية صارمةً لها صفة الإطلاق، سوف يتم استحضارها فيما بعد في سياقات مغايرةٍ تمامًا بوصفها "شريعة".

لاحقًا، وبعد تشكُّل المذاهب الفقهية الإسلامية، سيصير هناك موقفٌ "رسميٌّ" من عملية بناء والكنائس وترميمها، فبحسب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة – فإنه يُسمح لأهل الذمَّة بترميم الكنائس والمعابد المدمَّرة. فقط كان ابن حنبل مع عدد قليل من فقهاء الشافعية يعارضون أيَّ نوع من الترميم. وهو ما لم يكن يأبه له الولاة في كثيرٍ من الأحيان. وبحسب أودري دريدا، فمن المحتمل أن يكون الموقف الفقهي حيالَ أهل الكتاب، كما يرد في الأدبيات الفقهية لا سيما في بنود "الشروط العمرية"، قد صيغ فقط أيام الخلفاء العباسيين. حينئذٍ، اعتمدت عملية بناء الكنائس وترميمها على العلاقة بين الوالي وقيادات الكنيسة. وتقدِّم الأدبيات العديدَ من الأمثلة على ذلك، يمكن العثور على معظمها في كتاب «تاريخ بطاركة الإسكندرية». ومن ثمَّ، لا تدعم الحقائقُ التاريخية الوضعَ الفقهيَّ للكنائس والمعابد اليهودية كما تمَّ النصُّ عليها في النصوص التشريعية الإسلامية.