مفهوم «التدبير» في أولى كتب الآداب السلطانية العربية

شيخ عالم الآداب السلطانية

ملخَّص

أضحت كتب الآداب السلطانية العربية الإسلامية مثارَ اهتمام متجدِّد في السنوات الأخيرة. ومنذ القرن الأول للهجرة/الثامن للميلاد، وضع كُتَّاب دواوين الأمراء وكبار رجال الدولتَيْن الأموية والعباسية رسائلَ في نصح الملوك، اتخذت أشكالًا مختلفة، ومثَّلت أولى الكتابات العربية في هذا الفن الأدبي الذي انعقدت فيه علاقة دلاليَّة بين تدبيرِ النفس وتدبيرِ شؤون المُلْك. وفي سبيل فهمٍ أفضل لتطوُّر الألفاظ المتعلِّقة بشؤون الحكم في اللغة العربية على المدى الطويل، يقترح هذا المقال دراسة تطوُّر مفهوم "التدبير" انطلاقًا من أولى نصوص نصائح الملوك العربية، وهي المراسلات المزعومة بين الإسكندر الأكبر وأرسطو كما نقلها أبو العلاء سالم بن عبد الملك، ورسالة عبد الحميد الكاتب إلى ولي عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وعهد أردشير، وهي لكاتب مجهول وتُرجمت إلى اللغة العربية في القرن الأول للهجرة. وسيلاحظ القارئ أن هذا المصطلح في تلك الكتابات المبكِّرة كان يشير إلى النشاط السياسي للإدارة إلى جانب العقل العملي لرجل السياسة في تسيير شؤون الحكم*.

مقدمة

قدَّم العصر الإسلامي الوسيط عددًا كبيرًا من كتب نصائح الملوك وفنون الحكم، وهو ما وفَّر أدبًا وفيرًا لا يخلو من شهاداتٍ على الممارسات التي تهدف إلى حكم البلاد والعباد. فمنذ القرن الثامن للميلاد، وضع كُتَّاب الدواوين الأموية ثم العباسية للأمراء والطبقة الحاكمة رسائلَ في نصائح الملوك، اتخذت أشكالًا مختلفةً، حتى أضحت بسرعة فنًّا قائمًا بنفسِه تحت مسمَّى "الآداب السلطانية"، وهو المكافئ العربي لكتب "مرايا الأمراء" في الغرب الأوروبي. وقد تناولت النصوص الأولى لهذا الأدب بشكل أساسي مسألة تدبير النفس عند الأمير. لكنها تناولت أيضًا في السياق نفسِه مسألة تدبير شؤون الأمير عند كل من ندب نفسه لمساعدة الأمير وتقديم المشورة إليه، بينما لم تحظَ الرعيَّة إلَّا باهتمام متواضع في تلك الرسائل. وهكذا انعقدت منذ ولادة النصوص الأولى في هذا الفن علاقة دلاليَّة خاصَّة بين تدبيرِ النفس وتدبيرِ شؤون الحكم. ولعل من بين أهم المفاهيم التي يمكن للمرء أن يدرس من خلالها مسألة الحكم في الإسلام، هو مفهوم "التدبير" كما تبلور في العصر الإسلامي الوسيط.

وبمراجعة المواضع التي تناولت مسألة الحكم في مجموعة النصوص التأسيسية لهذا الفن، بدا لنا أن مصطلح التدبير في القرن الثامن الميلادي لم يكن حينها قد اكتسب بعدُ معناه التقني الكامل المرادف للسياسة. ثم وبشكل تدريجي، خُصِّص مفهوم التدبير لكي يعني الإدارة والتسيير السياسي، أو إدارة شؤون المنزل (تدبير المنزل = oikonomia)، وهو ما سيظهر بوضوحٍ في كتب الآداب السلطانية في القرن التالي. ومن خلال بعض الأمثلة، يمكن للمرء أن يلاحظ أن مفهوم التدبير قد تشكَّل في البداية وبشكل أساسي على تخوم أدب تهذيب النفس وسلوك الناس. ولذلك سنقوم أولًا بتفحُّص المصدر الأول للتدبير في معنى الحكم، ثم نُبيِّن أنه كان يعني أيضًا في آخر رسائل نصائح الملوك الأموية تقديم المشورة المتأنِّية للأمير.

التدبير بمعنى الحكم

أرسطو

أرسطو

يرد مفهوم التدبير -للمرة الأولى على ما يبدو- في كتاب "السياسة العامية"(1)، وهي رسالة منحولة لأرسطو من ضمن مجموعة من الرسائل المتبادلة بينه وبين الإسكندر المقدوني(2). وتُمثّل هذه الرسالة أولَ ما كُتب في فن الآداب السلطانية، وأولَ نصٍّ نثريٍّ باللغة العربية مقتبس من رسالة يونانية نُرجّح أنها كانت من نتاج إحدى مدارس البلاغة في القرن السادس الميلادي(3). كما أنه من المحتمل جدًّا أن تكون هذه الرسائل معروفة في الأوساط الفارسية خلال الفترة الساسانية(4)؛ على الأقل بسبب تضمُّنها عناصر فارسية. لكن رسالة "السياسة العامية" التي ظهرت ضمن تلك الرسائل، والتي تشكِّل القسم الأكبر منها، لم تخلُ من تبديلٍ وتغييرٍ طالها أكثر من بقية الرسائل، وذلك على يد أبي العلاء سالم بن عبد الله مولى الخليفة هشام بن عبد الملك (724-743م). فقد أشرف أبو العلاء على نقل تلك الرسائل بأكملها إلى اللغة العربية، استجابةً على ما يبدو إلى حاجة الإمبراطورية الناشئة(5). وبهذا تُقدِّم لنا رسالة "السياسة العامية" لمحةً عامةً على المفردات المفاهيمية للعصر الأموي، بل هي تُثبت أيضًا -وفقًا لماريو غرينياتشي (Mario Grignaschi)- أن نشاط الترجمة ووضع المفاهيم الفلسفية باللغة العربية كان قد بدأ بالفعل منذ الفترة الأموية(6).

كما يجب أن نذكر أن هذه الرسالة الطويلة تُشكِّل البنية الرئيسة لكتاب "سِر الأسرار"، وهو كتاب يعود إلى حوالي القرن العاشر للميلاد(7)، وتُرجم عدَّة مرات في العالم اللاتيني تحت عنوان:  Secret secretorum، حيث تُرجمت أجزاء منه في القرن الثاني عشر، قبل ترجمته كاملًا في القرن الثالث عشر(8). بيد أن مسألة تأثير هذا الكتاب في تطوُّر أدب مرايا الأمراء اللاتيني في القرن الثاني عشر، تظل إلى الآن مسألة غير محسومة بشكل نهائي على حدِّ علمنا(9).

والحقُّ أن مصطلح التدبير لا يرد بكثرة في رسالة "السياسة العامية"؛ إذ لم يُذكر إلَّا خمس عشرة مرةً للإشارة بكل وضوحٍ إلى معنى الحكم، بيد أنه لا يزال يتعيَّن علينا فهم المقصود بالحكم في هذا النص، وماذا نحكم تحديدًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن استخدام هذا المصطلح في هذه الرسالة غالبًا ما يكون مصحوبًا بنعت: فالتدبير إمَّا محمود أو مذموم، وهذا مناط أول إشارة للتدبير في علاقته بالكرم والبُخل، حيث "تدبير السخاء صعب، وتدبير اللؤم سهل"(10).

السلطة بوصفها سلطةً شرعيةً تقوم على أساس قوانين تهدف إلى تنظيم حياة الناس، وتتعارض مع الطغيان الذي يعني حكم العبيد باستخدام القوة والعسف.

ومن التدبير أيضًا القدرة على إيقاع العقوبات، أي "أن يأمن أهل الورع والسلامة خوف عقوبتك، ويُوطن أهل الريبة والدعارة أنفسهم على نزول نقمتك"(11). كما أنه "من حُسن تدبير المدبر أن يُصيّر جنده وأعوانه في الحرب سبع طبقات"(12). لكن يبدو في الرسالة نفسِها أن الإشارة إلى استخدام القوة محدود. وفي رسالة أخرى، وهي رسالة أرسطو حول السياسة تجاه المدن، يُدافع الكاتب عن السلطة من أجل التمييز بينها وبين الطغيان؛ إذ "السلطان إن لم يكن بعادلٍ فليس سلطانًا، بل غصبٌ واستكراه"(13). وبهذا ترسم هذه الرسالة ملامحَ تعريف دقيق لمفهوم السلطة، أي "السلطان". فالسلطة بوصفها سلطةً شرعيةً تقوم على أساس قوانين تهدف إلى تنظيم حياة الناس (رئاسة الأحرار)، وتتعارض مع الطغيان (الاغتصاب) الذي يعني حكم العبيد باستخدام القوة والعسف. كما تعرض الرسالة أيضًا أمثلةً على التدبير المحمود والتدبير المذموم عند بعض الحكَّام.

وفي الواقع، فإن هذه الرسالة موجَّهة من أرسطو إلى الإسكندر. بيد أننا نجدها مكوَّنة من عدَّة فصول، بعضها نماذج خُطَبٍ، مثل الخطبة المزعومة لأفلاطون، وأخرى نماذج من رسائل يُطلب إلى الإسكندر إرسالها إلى مبعوثين مختلفين، وخاصةً منهم رؤساء الشعوب التي غزاها اليونان أو يعتزمون غزوها مثل العرب وأهل الهند، مثل دارا ملك الفرس، إلى جانب أمثلة من ردود هذا الملك وردود فور ملك الهند. كما نجد هذه الرسائل مليئةً بالإشادة بحكم الإسكندر الصالح، وذمّ حكم غيره، ومن ذلك حكم دارا الطالح؛ إذ يكتب الإسكندر إلى دارا: "وأنت تقول أنك مُدبر منذ دهر طويل، أفلا تأدَّبتَ؟"(14). فالمدبر هنا هو الحاكم والسيد، وهو ما يسمح بتلاعبٍ لفظيٍّ بقصد الإشارة إلى العلاقة بين الحكم والحكمة المطلوبة من الحاكم. وفي الرسالة التي يُفترض أن يرسلها الإسكندر إلى أهل الهند، يتمُّ تذكيرهم بضعف فور في التدبير والمُلْك(15)، قبل أن تقترح عليهم أن يحكمهم الإسكندر: "فما الذي يُكرّه إليكم أن يُدبركم الإسكندر إن كان على الصواب وكان فور مقصرًا عنه؟"(16). ومن هنا نرى أن فكرة حكم الناس راسخةٌ في هذه الرسالة، لكن لا ذكر لهذا إلَّا في هذه المرة اليتيمة.

ولكن لماذا سيكون الأفضل لأهل الهند أن يحكمهم الإسكندر؟ في رسالته إلى العرب، يحمد الإسكندر الله بقوله: "الحمد لله الذي لم يقصد القاصدون إلى شيء من فعله إلَّا رغبوا فيه وتبيَّنوا في تدبيره الصلاح"(17)، وهذا معناه أن حكم الإسكندر قريبٌ بصورة أو أخرى من حكم الله، أو أنه كان يقصد ذلك على الأقل. وتصف الرسالة الموجَّهة إلى أهل الهند الإسكندر بأنه زاهد يحبُّ الفلسفة، فهو "يأمر بلزوم الزهد والبحث عن الحكمة"(18)، والحال أن أهل الهند أنفسهم مشهورون بأنهم أرباب زهد وشغف بالفلسفة(19). كما يُوصف أيضًا بأنه لا يُريد المُلْكَ لنفسه، بل لكبح الفساد وإصلاح جور الحكَّام الفاسدين(20)، وهذا هو تدبيره(21). وبعد هذه المقدمة في تقبيح أمر الملك فور، يقترح الإسكندر على الهنود أن يُدبرهم، فيقول لهم: "يا معشر الهند، آثروا الحقَّ ورُدّوا فور إلى الصواب واختبروا حُكم الإسكندر وتدبيره ثم سيرته، فأصلحهما للتدبير والمُلْك فرئّسوه وملّكوه وادفعوا إليه الأمر"(22). ذلك أن الرسالة تتَّهم الملك فور بإلغاء الكهنوت وطبقة العلماء، الأمر الذي بدا أنه أغضب شعبه وقسَّمه شيعًا، فقد "قطع أرزاق المتعلِّمين ومن يخدم الهياكل"، ودمَّر بذلك طبقة العلماء والكهنة والمعابد، بينما يقتضي حسن التدبير التقرُّب من الله لا محاربته(23). فالتدبير هنا يتمايز عن السلطة، ويُقصد به تنظيم طبقات المجتمع والحياة الجماعية مع الزهد في ملذات الدنيا، وهذا ما تؤكِّد عليه الرسالة مرارًا بخصوص الإسكندر الزاهد والرافض للاستبداد. وبهذا، فإنه يسهل ترجمة مصطلح "التدبير" حيثما يرد في هذه الرسالة إلى مصطلح "الحكم".

وفي رسالة أخرى من رسائل الآداب السلطانية، وهي "عهد أردشير" التي يُرجَّح أنها تُرجمت في نهاية الفترة نفسها، نلتقي أيضًا بهذا المصطلح، وخاصةً في معناه التقني، لوصف أعضاء الطبقة الاجتماعية الساسانية العليا التي تتكوَّن من "أصحاب الدين والحرب والتدبير والخدمة"(24). كما نجد فيها أردشير وهو يُوصي أولاده بألَّا يحسدوا إلَّا الملوك على حسن تدبيرهم؛ إذ الملك: "ليس له أن يحسد؛ لأن الحسد لا يجب أن يكون إلَّا على ملوك الأُمم على حسن التدبير"(25). كما نجد التدبير أيضًا جزءًا من خطاب الملك وأفعاله؛ إذ لا ينبغي له "إرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير صواب تدبير"(26). وبالمعنى نفسِه، يجب عليه "ألَّا يستغني بتدبيره اليوم عن تدبير غَدٍ"(27). وبهذا يكون التدبير في هذا النصِّ يعني العمل السياسي اليومي للملك، أي الممارسة السياسية.

التدبير: رأي حصيف

لكن في موضعٍ آخر من رسالة "السياسة العامية"، نجد مفهوم التدبير بمعنى آخر: "الحكمة رأس التدبير، وهي سلاح النفس ومرآة العقل"(28). لذا يبدو المصطلح وكأنه يعني ما قد ينهجه العقل من طرائق فكر. فهل يكون المقصود بالتدبير هو العقل العملي؟

يرد مصطلح التدبير بكثرة في آخر كتب الآداب السلطانية للعصر الأموي، وهو "رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد" لعبد الحميد بن يحيى، الذي كتب باسم مروان الثاني -آخر حاكم أموي(29)- رسالة نصحٍ لابنه الذي أرسله لمحاربة أحد المارقين من الخوارج. ففي هذه الرسالة المكوَّنة من ثلاثين صفحة، والمؤلَّفة من قسم أول أخلاقي سياسي وقسم ثانٍ مُكرَّس للاستراتيجيا العسكرية، يرد لفظ "تدبير" سبع عشرة مرةً.

يبدو التدبير في هذه الرسالة بمعنى تدبير الأمير نفسه، وأن يكون في ذلك شبيهًا بأبيه(30). ولهذا، يتعيَّن على الأمير أن يتخذ له من نفسه "ظِهْريًّا"(31)، وهو مصطلح يعني حرفيًّا المركوب من الخيل والإبل يكون دومًا على أهبة القتال إذا احتيج إليه في ذلك(32). فالمعركة في هذه الحال مع النفس، وهدفها حماية الأمير من تضييع رأيه وإهمال أدبه في مسالك الرضا والغضب والعُجْب:

"وَلْيَكُنْ لَكَ مِنْ نَفْسِكَ ظِهْرِيُّ مَلْجَأٍ تَتَحَرَّزُ بِهِ مِنْ آفَاتِ الرَّدَى وَتَسْتَعْضِدُهُ فِي مُهِمٍّ نَازِلٍ وَتَتَعَقَّبُ به أُمُورَكَ فِي التدْبِيرِ"(33).

ولعلَّ مما لا يثير أيَّ دهشة أن يكون نموذج القتال على ظهور الخيل هو المستخدم في ترويض النفس على المكاره. إذ نلاحظ بالمقابل وفي الرسالة نفسِها أن إتقان ركوب ظهور الخيل في أثناء المواكب العامَّة هو أفضل علامة على حسن ضبط النفس(34). فإذا تعلَّق الأمر بدخيلة النفس، فإن الظهريَّ يغدو سلاحًا فكريًّا تصوغه التجارب. فما هي ماهيته؟ إنه مادة عقل ورَوِيَّة فكر وانبساط منطق:

"فَإِنِ احْتَجْتَ إِلَى مَادَّةٍ مِنْ عَقْلِكَ وَرَوِيَّةٍ مِنْ فِكْرَكَ أَوْ انْبِسَاطٍ مِنْ مَنْطِقِكَ، كَانَ انْحِيَازُكَ إِلَى ظِهْرِيِّكَ مُزْدَادًا مِمَّا أَحْبَبْتَ الامْتِيَارَ مِنْهُ"(35).

كما يعمل هذا الظهريُّ المروَّض أيضًا على مواجهة بوادر الجهل والزَّلل ومعاندة الحق وسوء التدبير:

"وَإِنِ اسْتَدبَرْتَ مِنْ أُمُورِكَ بَوَادِرَ جَهَلٍ أَوْ مُضِيّ زَلَلٍ أَوْ مُعَانَدَة حَقٍّ أَوْ خَطَل تَدْبِيرٍ، كَانَ مَا احْتَجَنْتَ مِنْ رَأْيِكَ عُذْرًا لَكَ عِنْدَ نَفْسِكَ، وَظَهْرِيَّ قُوةٍ عَلَى رَدِّ مَا كَرِهْتَ، وَتَخْفِيفًا لِمَؤُونَةِ البَاغِينَ عَلَيْكَ فِي القَالَةِ وَانْتِشَارِ الذِّكْرِ"(36).

لعل أحد المواضيع الرئيسة للآداب السلطانية هو موضوع المؤامرات التي تُحاك داخل البلاط، وهي ترتبط بصعوبة اختيار مستشارين وولاة مخلصين للسلطان.

وبهذا، فإن هذه الأداة العقلية لا تُشكِّل أداةَ حكم عملي فحسب، بل كذلك تحصين من سوء الذكر الذي يفتح الطريقَ أمام تحدي السلطة وبثِّ الفرقة في المجتمع. فظهري النفس هو -بلا شكٍّ- وسيلة حكم. ويتعلَّق حسن التدبير أيضًا في هذه الرسالة ببعض الممارسات السياسية المحمودة التي يجب على الأمير الشاب تذكُّرها، والتي من أجلها وُضعت الرسالة. ومن ذلك منعُ الأمير أهل البطانة وخدمه المقرَّبين من الخوض في أعراض الناس والتقرُّب إليه بالسعاية أو النميمة إليه بشيءٍ من أحوالهم المستترة عنه، ناهيك عن منع العامَّة عنه(37). ولعل أحد المواضيع الرئيسة للآداب السلطانية هو موضوع المؤامرات التي تُحاك داخل البلاط، وهي ترتبط بصعوبة اختيار مستشارين وولاة مخلصين للسلطان. وهنا نصل إلى موضوعٍ كلاسيكيٍّ كثير التداول منذ العصور القديمة، وهو موضوع مشورة الأمير. وفي هذا الخصوص، فإن على الأمير زجرَ كل من يتقرَّب إليه بالسعاية وقذف الأعراض، ومنع "أن يصل إلى مشافهته ساعٍ بشبهة ولا معروف بتهمة"، وأن يكتفي في ذلك بتكليف كاتبه بتلقي الشكاوى وطلبات مقابلته، فيرفع ذلك إليه ليتخذ فيه ما يلزم بعد التمحيص قبولًا أو رفضًا، "فإنه أبْلَغُ سُموًّا إلى منال الشَّرف، وأَعْوَنُ لك على محمود الذِّكْر، وأطلَقُ لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمَّة وقوة التدبير"(38). ومن حسن التدبير أيضًا تصفُّح الأمير وجوه جلسائه ومخاطبيه وتفقُّد مجالس قوَّاده(39)، فإن ذلك "من قوة التدبير، وشهامة القلب، وذكاء الفطنة". كما ينبغي أيضًا أن تكون البطانة من "أهل الفضل في الدين والحجا والرأي، والعقل والتدبير، والصيت في العامَّة"(40).

وفي القسم العسكري من الرسالة، يظهر التدبير بمعنى الاستعداد للحرب والإعداد والتأهُّب العسكري(41). أما وَهن التدبير، فيظهر في تقليل الأمير من شأن العدو، وفي ذلك تضييعٌ للحزم في الجند، مع ما يدخل الرعيَّة من شعورٍ بالغفلة عن إحكام حراستهم، وضبط مراكزهم، والتهاون في تدبير أمنهم. وبهذا يبدو التدبير في السياق العسكري مرادفًا للاستراتيجية التي تقتضي بثَّ العيون في الآفاق واستخدام الجواسيس درءًا لكل عدوٍّ طارئ والاستعداد له، بما يُشيع أجواء الثقة في السلطان والإشادة بحسن تدبيره.

وباستثناء هذا المعنى الأخير للتدبير في معناه العسكري، فإنه يبدو عمومًا مرادفًا لحسن تنظيم الشؤون السياسية وضبط سلوك المقرَّبين من السلطان ودوائر الحكم. فكيف نُفسِّر -إذن- هذه العلاقة مع الاستراتيجية العسكرية؟ هنا يبدو التدبير وكأنه خصلة فردية لا بدَّ من توفُّرها في أعوان السلطان، وهي ما كان يحوزه مروان الثاني، والد الأمير الذي وُضِعت له الرسالة. ومن هنا، فإن التدبير لم يكن يعني زمن الرسالة الحكمَ بمعنى الإدارة السياسية أو تصريف شؤون الدولة، كما سيكون عليه الحال لاحقًا حسب ما تُشير إليه دائرة معارف الإسلام (Encyclopédie de l’Islam). فالتدبير يعني أولًا الرأي الحصيف، وهو من الخلال الخاصَّة بالحاكم على ما يبدو، أو ببعض رجال الحكم والإدارة. وبالفعل، فقد صادفتنا تعبيرات مثل "تدبير رأيك"(42) و"حصافة التدبير" عدَّة مرات في هذه الرسالة(43). ومن هنا، فإن تدبير الأمير يعني طريقة إدارته للشؤون الخاضعة لقراره، أي لحكمه العملي.

ووفقًا لأقدم المعاجم اللغوية العربية التي يرجع تاريخها إلى فترة متأخرة عن أولى كتب الآداب السلطانية(44)، فإن الجذر "د ب ر" الذي اشتُقَّ منه مصطلح التدبير يشير إلى مجموعة واسعة من المعاني. ونلاحظ أولًا أن استخدام هذا الجذر قديمٌ في لغة البدو العرب، وهي المرجع الأساسي لواضعي المعاجم العربية، وهذا ما يُفسّر معانيه المرتبطة بالمشاجرة والمواجهة التي كانت تُميّز عالم البداوة القَبَلي، وهو ما قد يُفسّر أيضًا استخدام التدبير بمعنى الاستعداد للحرب، وإن لم تُشر معاجم اللغة إلى ذلك.

المصدر (تدبير) يُشير عادةً إلى إتيان فعل من قِبل فاعل معلوم أو مجهول.

ويرتبط المعنى الرئيس الثاني للمفردات المشتقَّة من هذا الجذر بالنظر في عواقب الأمور. كما قد تُشير إلى جسم الإنسان، حيث يُسمَّى الجزء الخلفي منه "دُبُرًا"، كما لو كان وصف الجسم البشري يبدأ بالوجه (القُبُل) وينتهي بالظهر (الدُّبُر). كما يمكن أن يتعلَّق كذلك بحدث؛ إذ يُشير لفظ "دَبَرَ" إلى النهاية الزمنية، مثل وقت الصلاة؛ إذ لها ميقات معيَّن وتبدأ في وقت محدَّد، حيث يُوصف من يصليها في آخر وقتها بأنهم "دَبَرِيون"، أي المتأخرون أو المتجاوزون وقت الصلاة المتعارف عليه. كما يمكن أن ينطبق هذا المعنى أيضًا على الحياة البشرية "الدابرة"؛ إذ تُعَدُّ نهايتها بمثابة مرور إلى ما يتجاوز الحدَّ، أي الموت، أكثر من كونها غايةً في حدِّ ذاتها. ومن هنا نرى أن هذا الجذر لا يُشير بالمعنى الدقيق للكلمة إلى معنى عاقبة الشيء، بل إلى ما يتجاوز الحد الموضوعي للشيء إلى ما وراءه، ومن ثَمَّ فهو يشمل التأخير (الإدبار). وهكذا يمكن للفعل الثلاثي المجرَّد (دَبَرَ) أن يدلَّ على التعاقب والاستمرار، سواء في الزمن أو في النَّسْل (انقطاع الدابر). أما المصدر (تدبير)، فهو يُشير عادةً إلى إتيان فعل من قِبل فاعل معلوم أو مجهول، ويُستخدم بمعنيين: المعنى الأول هو رواية حديث عن شخص ميت، حيث يقال "دَبَّرْتُ الحديث عن فلان، أي حَدَّثْتُ به عنه بعد موته"، وكذلك الكلام عن إنسان يكون في الغالب غائبًا. وبهذا فهو يتفق مع المعنى القرآني للمصطلح، كما ذهب إلى ذلك منذر يونس(45). أما المعنى الثاني، فتفيده صيغة التكلُّف في الفعل بمعنى القيام به أو بشكلٍ أدقَّ ما يُفعل قبل إمضاء فعل، فنقول: تدبَّر فلان الأمر تدبُّرًا، أي تفكَّر فيه وفي مآلاته وعواقبه قبل المضيّ فيه. وبهذا يُضاف بُعْدٌ آخر مميز لهذا المعنى الفعَّال يتعلَّق بالذات المُفكِّرة.

لذا، فإن التدبير يتعلَّق بالتفكير مسبقًا في عواقب موقف، وكذلك بإعمال الرأي في كيفية التصرف حيال أمر، لا من حيثُ النظر في مآلاته فحسب، بل وفي الآثار المحتملة المترتبة عن تلك المآلات. وهو بهذا نظرٌ في الآثار النهائية لأيِّ فعل يتجاوز عواقبه المباشرة، أي إعمالُ فكر واستباقٌ وتحسُّبٌ لما قد ينتج عن الفعل. وفي أولى كتب الآداب السلطانية، يشكِّل حسن التدبير قوةً للسلطة وإحدى الصفات الرئيسة للسلطان. وبهذا المعنى، فإنه يغدو متعلقًا بالتفكير الفردي، وبزمنية الفعل، ومن ثَمَّ بتنظيمٍ مسبقٍ وَفْقَ العواقب المحتملة التي قد تنجرُّ عن حدث. وبهذا يمكننا فهم لماذا سيكون هذا الجذر في أصل مفردة "الدَّبْرَة" بمعنى الساقية بين المزارع، وكأن الأمر يتعلَّق هنا بالتخطيط لأعمال الريِّ حسب متطلبات موقف معيَّن وما يُتوقَّع منه من نتائج. وكذلك تعبيره عن الاتجاه لوصف الريح القادمة من خلف القِبْلة، وخصّها بلفظ الدَّبور. أما الاستدبار، فيعني المعرفة البَعْديَّة، أي معرفة عواقب شيء بعد حدوثه، أو بعد فوات أوانه. وهنا نعثر على البُعْد القِيمي للنموذج الأول الذي يشير إلى الإدبار: فلا فائدة في معرفة عاقبة أمر دون توقُّع حدوثه، كما لا خير في نصحٍ بعد فوات الأوان.

في الختام، من الدُّبُر إلى الإدبار، ومن الاستدبار إلى التدبُّر، ومن تدبير الحال إلى تدبير المستقبل، فإن المعاني المتعلِّقة بجذر التدبير ترسم معالم مفهوم يربط بين التوجُّه والتفكير، للدلالة على الوجهة، وربما في نهاية المطاف، بين السلوك والحكم، بمعنى التحكُّم في عواقب الأفعال. ويعتقد فرانسوا دي بلوا (François de Blois) أن مصطلح التدبير يُعبّر عن المفهوم السنسكريتي للفظ "Nīti"، بتوسُّط من لفظ فارسي قديم ضائع(46). وهو يبني كلامه على إشارة ابن النديم صاحب "الفهرست" إلى نسخة عربية من كتاب "شاناق في التدبير" ((Cāņākya-nīti-śāstra، حيث يعني لفظ نيتي "Nīti" الأخلاقيات السياسية اللازمة لكل رجلٍ من طبقة الخاصَّة. وقد حكم الملك الذي وُضع له هذا الكتاب طوال عهده بما جاء فيه من نصائح. ومن هنا، يُرجَّح أن يكون مصطلح "التدبير" العربي قد دخل المعجم السياسي للحكم عبر ترجمة فارسية لهذه الرسالة الهندية في التدبير، بمعنى الإدارة(47).

وبهذا، يكون التدبير في أولى رسائل الآداب السلطانية وفي المقام الأول: امتلاك رأي عملي يمكِّن من إجراء تقييمٍ صحيحٍ لعواقب الفعل على مدى واسع. إنه قدرة العقل العملي على التنبؤ بالعواقب في السياسة، وعلى تنظيم علاقات القوة، وخاصةً في الحروب والمعارك. وبحكم قربه من العِرافة (pronoia) والمشورة والرأي العملي، فإن "حسن التدبير" يُشير إلى حكمة رجل السياسة الذي يعتمد العقل والخبرة. ومن هنا، فهو ممارسة عقلانية للحساب والتقييم والتنبؤ المناسب عند الأمير الصالح، وهو نادرًا ما يعني حكم الناس. فمعناه الرئيس قريبٌ من معنى الاستراتيجية ومن معنى الحكم، أي من معنى الإدارة أو تصريف شؤون المملكة، قبل أن يُستخدم تدريجيًّا بمعنى فن تدبير المنزل، أي إدارته.


الهوامش

* رجعنا خلال الترجمة إلى الأصول العربية للرسائل المذكورة من أجل الاقتباسات، في محاولة منَّا لتقديم مادة لا غنى عنها في فهم أحد أهم المصطلحات السياسية عند العرب منذ نشوء دولتهم. (المترجم)

1. M. Grignaschi, « La “Siyâsatu-l-’âmmiyya” et l’influence iranienne sur la pensée politique islamique », dans Monumentum H. S. Nyberg, Téhéran/Liège/Leyde, 1975 (Acta Iranica, 2e série, 3), p. 33-287.

2. M. Maróth, The Correspondence between Aristotle & Alexander the Great: An Anonymous Greek Novel in Letters in Arabic Translation, Piliscsaba, 2006.

3. Ibid., p. 74-77.

4. K. Van Bladel, « The Iranian Characteristics & Forged Greek Attributions in the Arabic Sirr al-asrār (Secret of Secrets) », Mélanges de l’Université Saint-Joseph, 57 (2004), p. 159-165.

5. D. Gutas, Pensée grecque, culture arabe : Le mouvement de traduction gréco-arabe à Bagdad et la société abbasside primitive, Paris, 2005, p. 53.

6. Grignaschi, « Siyâsatu-l-’âmmiyya », op. cit. n. 1.

7. تعود أقدم نسخة من كتاب "سر الأسرار" إلى مؤلف قريب من المعتزلة يبدو أنه ينقل عن إخوان الصفا وابن عبد ربه. انظر:

M. Grignaschi, « Les “Rasā’il arisṭuṭalisa ilā-l-Iskandar” de Salīm Abū-l-‘Alā’ et l’activité culturelle à l’époque omeyyade », Bulletin d’études orientales, XIX (1965-1966), p. 212 ; Grignaschi, « Siyâsatu-l-’âmmiyya », op. cit. n. 1, p. 225 et 232-233.

8. انظر استنتاجات ماري تيريز دالفرني في:

M.-Th. d’Alverny, Pseudo-Aristotle, the “Secret of Secrets”: Sources and Influences, éd. C. B. Schmitt et W. F. Ryan, London, 1982, p. 132-140.

وقد أضيفت إلى النص العربي العائد إلى القرن الثامن الميلادي وبصفة تدريجية عدَّة نصوص أخرى لم تكن في البداية جزءًا من الرسالة الأصلية. وقد انتهى الأمر بهذه الإضافات إلى أن يغدو كتاب "سر الأسرار" دليلًا للحكم، إلى جانب كونه نصوصًا في علم الفراسة والتوقي من الأمراض والخيمياء، تتضخَّم باستمرار، وتلقى نجاحًا كبيرًا في جميع أنحاء العالم العربي الإسلامي والعالم اللاتيني. انظر:

D. Gutas, « On Graeco-Arabic Epistolary ‘Novels’ », Middle Eastern Literatures, 12/1 (2009), p. 60.

9. ومع ذلك، اعتبر ستيل في عام 1920م أن كتاب "سر الأسرار" المترجم من العربية هو نقطة البداية لأدب المرايا الخاص بالأمراء اللاتينيين (Specula regis) معترفًا بتأثيره في هذا الأدب. مذكور في:

Grignaschi, « Siyâsatu-l-’âmmiyya », op. cit. n. 1, p. 34.

وانظر أيضًا:

Grignaschi, « Remarques sur la formation et l’interprétation du Sirr al-’asrār », dans Pseudo-Aristotle, op. cit. n. 8, p. 3-33.

وحول التأثير العربي في أول كتاب في الأدب القصصي اللاتيني، وهو "عُهدة النُّسَّاك" (Disciplina Clericalis) بقلم بطرس ألفنس (Pierre Alphonse)، انظر:

M. R. Menocal, The Arabic Role in Medieval Literary History: a Forgotten Heritage, Philadelphia, 1987, p. 35-36 ; 49-50 sq.

إضافة من المترجم:

صدرت منذ أيام قليلة وخلال ترجمتنا لهذا المقال أولُ ترجمة عربية لهذا الكتاب باعتماد النسخة الإنكليزية، انظر: بطرس ألفنس، عُهدة النُّسَّاك: كتاب الحكايات المشرقية، ترجمة وتحقيق: ضياء حميو (بغداد: دار الرافدين، 2021م).

10. Grignaschi, « Siyâsatu-l-’âmmiyya », op. cit. n. 1, p. 98.

11. Ibid., p. 107.

12. Ibid., p. 121.

13. J. Bielawski, Lettre d’Aristote à Alexandre sur la politique envers les cités, trad. M. Plezia, Wrocław, 1970, p. 48, § 14.1.

14. Grignaschi, « Siyâsatu-l-’âmmiyya », op. cit. n. 1, p. 136.

15. Ibid., p. 180.

16. Ibid.

17. Ibid., p. 169.

18. Ibid., p. 178.

19. Ibid., p. 172.

20. Ibid., p. 179.

21. Ibid., p. 181.

22. Ibid.

23. Ibid., p. 176.

24. M. Grignaschi, « Quelques spécimens de la littérature sassanide conservés dans les bibliothèques d’Istanbul », Journal Asiatique, 254 (1966), p. 54.

25. Ibid., p. 58.

26. Ibid., p. 48.

27. Ibid., p. 59.

28. Grignaschi, « Siyâsatu-l-’âmmiyya », op. cit. n. 1, p. 102.

29. عبد الحميد بن يحيى، "رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد"، في: رسائل البلغاء، تحقيق: محمد كرد علي (القاهرة: 1945م)، ص173-210.

30. Ibid., p. 174.

31. Ibid., p. 181.

32. A. de Kazimirski Biberstein, Dictionnaire arabe-français, Beyrouth, 1860, vol. 2.

33. عبد الحميد بن يحيى، "رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد"، مرجع مذكور سابقًا، هامش 29، ص181.

34. Ibid., p. 178.

35. Ibid., p. 181.

36. Ibid.

37. Ibid.

38. Ibid.

39. Ibid., p. 182.

40. Ibid., p. 185.

41. Ibid., p. 188.

42. Ibid.

43. Ibid., p. 196.

44.  الأزهري (أبو منصور، محمد بن أحمد بن الهروي)، تهذيب اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون وآخرين (القاهرة: 1966م)، ج15، مادة دبر، ص110-115؛ ابن منظور (أبو الفضل، جمال الدين، محمد بن مكرم بن علي)، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي (القاهرة: 1984م)، مادة دبر.

45. M. Younes, « Angels, Stars, Death, the Soul, Horses, Bows - or Women? The Opening Verses of Qur’ān 79 », New Perspectives on the Qur’ān, New York, 2011, p. 265-278.

46. F. de Blois, « Two Sources of the Handarz of Ošnar », Iran, 31 (1993), p. 96.

47. Ibid.