المنظور الائتماني لمفاهيم الفلسفة ومعاني الإيمان

المنظور الائتماني لمفاهيم الفلسفة ومعاني الإيمان

قصدنا في هذا المبحث أن نعرض نموذجا تطبيقيا للإبداع الفلسفي الذي يُتوصَّل إليه بواسطة المعاني الإيمانية[1]؛ فمعلوم أن الأدوات التحليلية التي يتوسل بها الفيلسوف، في اشتغاله بالنظر المجرد، هي: "المفاهيم"، بدءا بمفهوم "النظر" ومفهوم "التجريد" نفسهما؛ فلنشرع إذن في بيان السمات الأساسية للمفهوم الفلسفي، انطلاقا من المنظور الائتماني؛ ويتأسس هذا المنظور، مما يتأسس عليه، على أصلين جامعين، أحدهما أن "الأصل في الأشياء الائتمان عليها، لا الامتلاك لها"، والثاني: أن "الأصل في الأفعال الاختيارُ لها، لا الإجبار عليها"[2].

طه عبد الرحمن

طه عبد الرحمن

السمات الائتمانية للمفاهيم الفلسفية

يجعلنا المنظور الائتماني إلى المفاهيم الفلسفية نقف فيها على سمات أربع أساسية.

أولاها، الالتقاط؛ فالمفهوم يلتقط الفكرة[3]، أي يُـمسك بها، رابطا بين عناصرها؛ وقد يُستفاد هذا المعنى من لفظ "الـمُدرَك" الذي يندرج "المفهوم" في معناه؛ إذ الفعل "أدرك"، في مدلوله اللغوي، يفيد "حصَل" أو "بَلَغ"، ولا "حصول" أو "بلوغ" إلا مع وجود "الإمساك"؛ ولا يختص هذا المدلول باللسان العربي، بل نجده في غيره من الألسن، ولعلَّ المقابل الألماني أدلَّها على هذا المعنى، وهو "Der Begriff"، إذ اشتُق من الفعل "Begreifen" الذي يفيد، بالذات، "قبَض"؛ وبإيجاز، إن المراد بخاصية الالتقاط هو أن المفهوم الفلسفي عبارة عن أداة الإمساك بالفكرة.

والسمة الثانية، الإحاطة؛ فالمفهوم يحيط بالفكرة، أي يشمل مجموعها، بحيث لا يغادر أي واحد من العناصر أو الأشياء التي تقع تحتها[4]؛ ويُستفاد هذا المدلول من المقابل الإنجليزي أو الفرنسي لكلمة "مفهوم"، إذ هو "concept" من الفعل "concevoir"، فجزؤه الأول: "con" يعني "مع"، أي المجموع، كما يجتمع معنى "الإحاطة" إلى معنى "الالتقاط" في اللفظ الفرنسي "comprendre" أو اللفظ الإنجليزي "conprehend"، إذ يتركب هذا الفعل من طرفين هما: "com" أي "مع" و"prendre"، أي "أمسَك"، فالمقابل الحرفي للاسم الفرنسي منه، أي "compréhension" هو "الإمساك الذي يحيط بالشيء الذي يقع عليه"، ومقابله الاصطلاحي هو "الإدراك المحيط"[5]؛ ويإيجاز، إن المراد بخاصية الإحاطة هو أن المفهوم الفلسفي أداة استيعاب للفكرة.

والسمة الثالثة، الانتزاع؛ فالمفهوم ينتزع الفكرة، أي يستخرجها من مجموعة الأشياء التي تندرج تحتها، نازلا منها منزلة مُدرَك عامّ أو ماهية؛ فإذن هذا الاستخراج عبارة عن تجريد الفكرة من كل ما يفرق بين الأشياء الواقعة تحتها، فضلا عن الانتقال بها من رتبة المحسوس إلى رتبة المعقول؛ وباختصار، المراد بخاصية الانتزاع هو أن المفهوم الفلسفي أداة تجريد للفكرة.

والسمة الرابعة، التصوير؛ فالمفهوم يُصوِّر الفكرة، أي يُنزل عليها صورة تُبرزها للأذهان كما يُنزِل إزميلُ النحات صورة على الحجر تبرزه للعيان؛ فالتصوير عبارة عن إضفاء صورة مخصوصة على الفكرة تُـخرجها من حيّز الإمكان إلى حيّز الوجود، كأنما تنشئها إنشاء، وهذه الصورة تتخذ مظاهر عدة، بدءا بالرسم العفوي وانتهاء بالرمز العددي؛ وباختصار، المراد بخاصية التصوير هو أن المفهوم الفلسفي أداة تشكيل للفكرة.

إن "العقل الفلسفي" عبارة عن القوة التي بها تُعتقَل الأفكار، إذ يشتغل بالمفاهيم، تحليلا لها واستنتاجا منها؛ وهذه المفاهيم ليست إلا اعتقالات للأفكار.

يتحصَّل من هذه السمات الأربع للمفهوم الفلسفي: "الالتقاط" و"الإحاطة" و"الانتزاع" و"التصوير" معنى جامع واحد يمكن التعبير عنه بلفظ "الاعتقال"؛ فالمفهوم الفلسفي يعتقل الفكرة، وذلك بأن يلتقطها، ثم يحيط بها، ثم ينتزعها، ثم يُصوِّرها؛ ثم لما كان "الاعتقال" مشتقا من الفعل: "عقَل"، صح أن نقول إن "العقل يعتقل"، كما صح أن نقول إن "العقل الفلسفي" عبارة عن القوة التي بها تُعتقَل الأفكار، إذ يشتغل بالمفاهيم، تحليلا لها واستنتاجا منها؛ وهذه المفاهيم ليست إلا اعتقالات للأفكار.

بعد أن اتضحت الصبغة الاعتقالية للمفاهيم الفلسفية، ننتقل إلى بيان السمات الخاصة بالمعاني الإيمانية، معتمدين المنظور الائتماني.

السمات الائتمانية للمعاني الإيمانية

إن المراد بـ"المعاني الإيمانية" هو المقاصد التي ثبت ذكرها في الكتب المنزلة أو صحَّ ورودها على ألسنة الرسل، عليهم الصلاة والسلام، والتي اشتُقَّت صيغُها من أسماء الصفات وأسماء الأفعال الإلهية؛ وأضرب لها مثالا من المعاني التي تضمَّنتها سورة الفاتحة، وهي على ضربين: "المعاني الإيجابية"، وهي، كما تعلمون، "الحمد" و"الربوبية" و"الرحمة" و"الدين" و"العبادة" و"الاستعانة" و"الهداية" و"الاستقامة" و"النعمة"؛ و"المعاني السلبية"، وهي: "الغضب" و"الضلال"؛ أما أسماء الصفات والأفعال الإلهية التي اشتُقت منها هذه المعاني، فهي: "المحمود" و"الرب" و"الرحمن" و"الرحيم" و"المالك" "والمعبود" و"المستعان" و"الهادي" و"المنعم" و"الغاضب" و"الـمُضلّ".

ويجعلنا المنظور الائتماني نتبين أن هذه المعاني الإيمانية تتصف بالسمات الآتية:

أولاها، القصد؛ فالمعنى الإيماني يقصد الحقيقة، مستقبِلا لها؛ وعلى قدر هذا القصد يكون استمداده منها، بحيث يتعين على طالِب هذا المعنى أن يظل موصولا بهذه الحقيقة، باعتبارها معينا لا ينفَد عطاؤه؛ ويُؤخذ هذا المدلولُ من الفعل: "عَنى"، إذ يفيد "قصَد" كما يؤخذ من الاسم الفرنسي: "sens"، إذ يدل على "الاتجاه" و"القصد" معا؛ ولا يخفى أن القصد يوجب حصول التوجه إلى المقصود وبذل الوسع في الاقتراب منه؛ وبإيجاز، المراد بخاصية القصد أن المعنى الإيماني يتخذ الحقيقة قِبلةً له.

والسمة الثانية هي الإيحاء[6]؛ فالمعنى الإيماني يشير إلى الحقيقة، حائما حولها، متحققا بوصف "المجال" بما لا يتحقق به سواه؛ ويُؤخذ هذا المدلول الثاني، هو الآخر، من الفعل: "عنى"، إذ يفيد، أيضا، "أشار" كما أن الفعل: "أوحى" يفيد "أشار"؛ وواضح أن الإيحاء في الخطاب إيماء إلى الشيء لا يُدرَك منه، على وجه اليقين، تمام المراد؛ فيتعين تقليب المعنى الإيماني على كل الوجوه المحتملة ودوام الجولان بالذهن في أطراف هذه الوجوه؛ أو قل باختصار، إن المراد بخاصية الإيحاء هو أن المعنى الإيماني يشكّل مجالا تأويليا لا ينفك يستدعي التفكر[7].

والسمة الثالثة هي الإلباس، فالمعنى الإيماني يُلبِسُ الحقيقةَ، ساترا لها كما يستر اللباسُ ما دونه؛ واللباسُ، بقدر ما يستُر الشيء، يُظهره؛ وبهذا، تكون الحقيقة التي هي تحت المعنى الإيماني جامعة بين الصفتين: الجلاء والخفاء؛ ويَنمُّ هذا الجمع عن مفارقة دقيقة، وهي أن الحقيقة، كلما زادت انكشافا، زادت احتجابا؛ وليس هذا فقط، بل إن المعنى الإيماني يُلبس، أيضا، طالِبَه، لأنه يستر ما يَـحطُّه، مرتقيا به؛ وبإيجاز، المقصود بخاصية الإلباس هو أن المعنى الإيماني يكسو، أصالة، الحقيقة، مبرزا كمالها، كما يكسو، تبعا، طالبها، ماحيا نقصه.

والسمة الرابعة هي التمثيل؛ فالمعنى الإيماني يُمثّل الحقيقة، أي أنه يَتوسَّل في الدلالة عليها بالمثال، تقريبا أو توضيحا، فالحقيقة لا تُدرَك إلا من وراء حجاب، وحجابها، هنا، هو مثالها؛ ومتى كان هذا المثال شاهدا أعلى على الحقيقة، بدا قائما مقام المعنى نفسه؛ وليس هذا فحسب، بل إن المعاني الإيمانية لا يتعلق بعضها ببعض إلا بطريق المشابهة، وليس بطريق المطابقة؛ وبإيجاز، المقصود بخاصية التمثيل هو توسُّط المعنى الإيماني بالمثال والمماثلة.

إن "الحِضن الإيماني عبارة عن المحلّ الذي يحتضن الحقائق"، إذ يشتغل بالمعاني، تفكرا فيها وعملا بها، وليست هذه المعاني إلا احتضانات للحقائق.

يتحصَّل من هذه السمات الأربع للمعنى الإيماني: "القصد" و"الإيحاء" و"الإلباس" و"التمثيل" معنى جامع واحد أسميه "الاحتضان"؛ فالمعنى الإيماني يحتضن الحقيقة، وذلك بأن يَقصدها، ثم يشير إليها، ثم يُلبِسها، ثم يُـمثِّلها؛ ولما كان لفظ "الاحتضان" مشتقا من الفعل "حَضن"، صح أن نقول إن "الحِضن الإيماني عبارة عن المحلّ الذي يحتضن الحقائق"، إذ يشتغل بالمعاني، تفكرا فيها وعملا بها، وليست هذه المعاني إلا احتضانات للحقائق.

وهكذا، فإن "الحِضْن الإيماني" ينزل من "المعاني" منزلة "العقل الفلسفي" من "المفاهيم"؛ والفرق الائتماني بين "الاعتقال" و"الاحتضان" عبارة عن تباين صريح، إذ "الاعتقال الفلسفي" امتلاك، فسمات المفاهيم سمات امتلاكية؛ بينما "الاحتضان الإيماني" لا امتلاك معه، بل كله ائتمان، فسمات المعاني سمات ائتمانية؛ لذلك، كانت كل سمة معنوية تُعارِض سمة مفهومية؛ فـ"القصد المعنوي" يضادُّ "الالتقاط المفهومي"، فالذي يَقصِد لا يلتقط؛ و"الإيحاء المعنوي" يضادُّ "الإحاطة المفهومية"، فالذي يوحي لا يحيط؛ كما أن "الإلباس المعنوي" يضادُّ "الانتزاع المفهومي"، فالذي يُلبِس لا ينتزع؛ و"التمثيل المعنوي" يضادُّ " التصوير المفهومي"، فالذي يُـمثِّل لا يُصوِّر.

وإذا كان الأمر كذلك، فقد وجب أن نسأل كيف يمكن أن ننقل المعاني الإيمانية، وهي تدل على حقائق محتضَنة لا اعتقال معها، إلى مفاهيم فلسفية، وهي تدل على أفكار معتقلَة لا احتضان معها؟


الهوامش

[1] لا نريد أن نشتغل هنا بالرد على مسلَّمات أو مسبَّقات منقولة عن غيرنا تخالف الحقيقة بقدر ما يُكذِّبها التراث، كالقول بـ"تعارض العقل والإيمان" والقول بـ"استقلال العقل في مقابل تبعية الإيمان" والقول بـ"الموضوعية الخالصة" والقول بـ"العمومية الجامعة".

[2] انظر الكتب الآتية: روح الدين، بؤس الدهرانية، دين الحياء.

[3] واضح أن المقصود بـ"الفكرة" هو تصور الخصائص التي تشترك فيها مجموعة أفراد.

[4] تُعرف هذه العناصر أو الأشياء، في الاصطلاح، باسم "الأفراد".

[5] انظر كتاب سؤال المنهج، الفصل الرابع.

[6] لقد سبق أن استعملنا لفظ "الإشارة" في هذا المعنى، لكن يبدو أن لفظ الإشارة أعمّ، إذ يشمل السمتين: "القصد" و"الإيحاء".

[7] نفرق بين "التفكُّر"، وهو النظر في الآيات الذي يوجب الإيمان وبين "التفكير" الذي هو مجرد النظر في الظواهر من غير تطلع إلى الإيمان.