مسألة تفاضل الأديان
ليس من شك أن الأديان المنزَلة تشترك في التسليم بـ"مواثيق الربوبية"، مُثبِتة لها باللفظ في كُتبها أو مشيرة إليها بنحو من الأنحاء؛ وقد ذكرنا أن النظرية الائتمانية تذهب إلى أبعد من هذا الاشتراك، فتدَّعي بأن جميع الأديان تشترك فيها، حتى تلك التي لم يَثبُت نزولها، وكانت تحريفا للأديان المنزلة أو ابتداعا من الإنسان[1]؛ فالراجح أن الأديان غير المنزَلة انجذبت إلى الاحتذاء حذو الأديان المنزَلة في العمل بعناصر أساسية من هذه المواثيق.
د. طه عبد الرحمن
على الرغم من تسليم الأديان المنزَلة بـ"مواثيق الربوبية"، يبقى أن أقدارها من التخليق متفاوتة، بل متفاضلة، ذلك أن عملية التخلق، لما كانت تتقلب في أطوار لاحقها أزكى من سابقها، وكانت أطوار التخلق تتحدد بشرائع هذه الأديان التي أُخِذت "مواثيق الربوبية" من أجلها، كانت كل واحدة من هذه الشرائع التي أُنزِلت تِباعا تُـمثِّل طورا في التخلق يزيد على سابقه، تحقُّقا بالمعاني والقيم الأخلاقية.
ليس من شك أن النظرية الائتمانية، بقولها بالتمايز الأخلاقي بين الشرائع، تثير اعتراضا واسعا من لدن العلمانيين، وحتى المتدينين، وصيغته كالتالي:
"متى سلَّمنا بأن أمر التقدم الأخلاقي يرجع إلى الأديان، لزم أن يكون هناك تقدُّم ديني، وهذا لا يُسلَّم، لأنه لا تفاضل بين الأديان".
نجيب عن هذا الاعتراض الواسع من الوجوه الآتية:
لا يبدو أن هناك اطرادا للتقدم الأخلاقي لدى الأفراد والأمم في "حالة المعاملة"، بل الراجح أن هنالك تقلُّبا مستمرا للتقدم والتأخر عليهم؛ والشاهد على ذلك فتراتُ نزول الأديان التي تُـخلِّقهم.
أ. واضح أن "التقدم الأخلاقي" معناه، بصيغة الخطاب[2]، "أن تكون أحسنَ أخلاقا مـما كنت، وأن يكون لنا معيار نقيس به هذا التحسن الأخلاقي لديك"؛ فـمبدأ "إلغاء الرق" في العصر الحديث، مثلا، يُعتبر تقدّما أخلاقيا؛ وواضح أن ضده، أي "التأخر الأخلاقي"، معناه، بصيغة الخطاب، "أن تكون أسوأَ أخلاقا مـما كنتَ، وأن يكون لنا معيار نقيس به هذا السوء الأخلاقي لديك"، سواء كان نفسَ المعيار السابق أو معيارا مثله؛ فحقوق "الجنسية المثلية" في الزمن المعاصر، مثلا، تُعدّ تأخُّرا أخلاقيا[3]؛ فلا يبدو أن هناك اطرادا للتقدم الأخلاقي لدى الأفراد والأمم في "حالة المعاملة"، بل الراجح أن هنالك تقلُّبا مستمرا للتقدم والتأخر عليهم؛ والشاهد على ذلك فتراتُ نزول الأديان التي تُـخلِّقهم، إذ لا ينزل الدين على هذا القوم أو ذاك إلا في فترة التراجع الأخلاقي فيهم، مُصلحا ما فسد ومتداركا ما فات.
ب. لا يُنكِر تقدُّمَ الأخلاق ولا تأخُّرَها إلا من ينكر وجود أي معيار أخلاقي؛ إذ هذا المنكِر لا يُفرّق بين الخير والشر، بل يجحد وجودهما، فلا شيء عنده يدل عليهما، أي أنه يجحد، في نهاية المطاف، وجود "الحقيقة الأخلاقية"؛ ويُعرَف أصحاب هذا الإنكار البعيد باسم "الشكاك الأخلاقيون"، ولا كلام لنا معهم هاهنا؛ وحسبنا إبطالا لغريب دعواهم، أنهم لا ينفكون يناقضون أنفسهم بأنفسهم، أقوالا وأفعالا؛ فلولا وجود ثقتهم بالآخرين، ما كانوا ليطمئنوا إلى تصديق هؤلاء لمزاعمهم؛ والحال أن "الثقة" و"الاطمئنان" و"التصديق" ما هي إلا أفعال أخلاقية.
ج. إذا كان "مبدأ الشك" يوصِّل إلى إنكار موضوعية الأخلاق، فإن "مبدأ التسامح" يوصِّل إلى إنكار تفاضُل الرؤى الأخلاقية فيما بينها؛ فعلى الرغم مما أحيط، من هالة، بهذا المبدإ عند تقريره في مطلع العصر الحديث، ولا يزال يُرفع شعارا لمواجهة تطرّف الأصوليات المعاصرة، فإنه أسيء فهمه أيما سوء؛ إذ بات يُستفاد منه أن الرؤى الأخلاقية إنما هي مجرد إنشاءات ذاتية، بحيث يُسوَّى بينها جميعا؛ فيلزم أنه لا أخلاق أفضلُ من غيرها، بل لا أخلاق حقّ؛ وواضح أن هذا الفساد في الفهم مبعثُه إلغاء المعايير الأخلاقية المشتركة والسقوط في "النسبية الأخلاقية".
بعض الأديان لها من الميزات ما يتبيَّنه العقل الإنساني ويُسنده، بحيث يكون خلوّ الأديان الأخرى من هذه الميزات مَظهَرا لنزول هذه الأديان درجة في التخلق دون درجتها.
د. إذا كان النظر الوضعي، طلبا لتحديد السمات الأخلاقية المشتركة بين الأديان، يؤدي إلى اعتبار أن بعض الأديان ينوب مناب البعض، معتبرا أن أخلاقياتها المختلفة جميعا متساوية، وضْعا وإنشاءً، فإن النظر الفلسفي، على العكس، طلبا للوقوف على الحقيقة الأخلاقية المبثوثة في الأديان، يؤدِّي إلى تأكيد أن بعض الأديان لها من الميزات ما يتبيَّنه العقل الإنساني ويُسنده، بحيث يكون خلوّ الأديان الأخرى من هذه الميزات مَظهَرا لنزول هذه الأديان درجة في التخلق دون درجتها؛ وعندئذ، لا غرو أن يتوصَّل هذا النظر إلى أن الأديان التوحيدية أكثر تجريدا واتساقا واكتمالا في بنائها الأخلاقي من الأديان الوثنية؛ ولما كان هذا النظر يرى في صفات "التجريد" و"الاتساق" و"الاكتمال" ميزات عقلية لا غبار عليها، مؤسِّسا الأخلاق على العقل، فقد صار إلى تقرير أن الأديان التي تتصف بها تتفوق أخلاقيا على ما عداها من الأديان.
هـ. لقد ذكرنا أن الأصل في الأديان كلها، ليس، كما يزعم علماء الإناسة[4]، دين الوثنية، وإنما هو دين التوحيد الذي هو "إسلام الوجه لله"، إلا أنها تفرقت إلى أديان ظلت ملتزمة به، وأخرى ابتدعت فيه، وأخرى انحرفت عنه بالمرة، مستغرقة في الشرك؛ وحينها، نظفر بمعايير موضوعية لترتيب الأديان وتفضيل بعضها على بعض، أولها، "معيار التوحيد"، إذ يقضي بأن يكون أكثرُ الأديان تمسُّكا بمعاني التوحيد وأحفظُها لصورته الخالصة أفضلَها إدراكا لمقام الإيمان؛ والثاني، "معيار التوجه إلى الإنسانية بأسرها"، إذ يوجب أن يكون أحرصُ الأديان على استيعاب جميع أفراد الإنسانية من غير تمييز ولا ترتيب أفضلَها اعتبارا لمكانة الإنسان؛ والثالث، "معيار التخليق"، إذ يقضي بأن يكون أقدرُ الأديان على توسيع مجال الأخلاق بما يجعله يشمل كل تعاملات الإنسان الممكنة، أفضلَها وعيا لمنزلة الأعمال.
و. إذا ثبت أن التفاضل، بحكم العقل المجرَّد نفسه، فضلا عن حكم مراتب أخرى للعقل تعلوه[5]، قائم بين الأديان، حتى لو تجاهله العلماء الوضعيون، تحيُّزا للعَلمانية، لا استنتاجا من أبحاثهم العلمية، فهذا يعني أن بعضها متقدم على بعض؛ والواقع أن هذا التقدم يضبطه، مراعاةً لتطور استعدادات الإنسان الإدراكية والعملية، تتابع نزول شرائعها؛ فالشريعة اللاحقة، بحكم هذا التطور في الاستعدادات لتقبُّل ما ينزل، تكون أكثر تقدُّما من الشريعة التي سبقتها؛ ولما كان تقدُّم الشريعة المنزلة هو الأصل في التقدم الأخلاقي لأهلها، وجب أن تتفاضل أنصباؤها من الأخلاق، بحيث يكون نصيب الشريعة اللاحقة أفضل من نصيب الشريعة السابقة.
التفاضل الأخلاقي بين الأديان لا يعني، مطلقا، أن الدين السابق باطل، إلا أن يكون أهله قد انحرفوا به عن "ميثاق التوحيد"، وأن الحق مع الدين اللاحق.
على أن ما ينبغي التنبيه إليه بهذا الشأن هو أن التفاضل الأخلاقي بين الأديان لا يعني، مطلقا، أن الدين السابق باطل، إلا أن يكون أهله قد انحرفوا به عن "ميثاق التوحيد"، وأن الحق مع الدين اللاحق، وإنما يعني، مما يعنيه، أمورا أساسية ثلاثة، أولها، أن الحق في الدين اللاحق يزيد عن الحق الذي في الدين السابق، قدْرا وشكلا؛ والثاني، أن الإمكانات الأخلاقية في اللاحق تفوق الإمكانات الأخلاقية في السابق، عددا ومددا؛ والثالث، أن الحقيقة الأخلاقية تتجلى في اللاحق أكثر مما تتجلى في السابق، ثباتا وكمالا.
الهوامش
*دراسة من كتاب "المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية- الجزء الأول" للدكتور طه عبد الرحمن.
[1] على الرغم من أن بعض الحداثيين قد يبادر إلى دفع هذه الفرضية، بدعوى استحالة المقارنة بين الأديان أو تفضيل بعضها على بعض، يبقى أن الأديان تناسل بعضها من بعض، قصدا أو عرَضا، كما تناسلت الفلسفات والفكرانيات بعضها من بعض؛ فمثلا، ليس من الصدفة أن نجد في الهندوسية أسماء مشابهة لأسماء في دين التوحيد، فاسم "براهما" قريب نطقا من "اسم "إبراهيم" واسم "سارسواتي" قريب نطقا من اسم "سارة".
[2] صيغة الخطاب، في مجال التداول العربي، صيغة عامة.
[3] "الجنسية المثلية" عبارة عن تراجع إلى عمل أهل سدوم وعمورة.
[4] المقابل الإنجليزي: Anthropology
[5] مثل "العقل المسدَّد" و"العقل المؤيَّد".